الرواية السعودية تتمرد على مجتمعها

04-11-2006

الرواية السعودية تتمرد على مجتمعها

“الأَوْبة” رواية سعودية جديدة، فيها الكثير من الجنس، وشيء من الأدب. رواية بلا شخصيات ولا أحداث حقيقية. حدّوتة صاخبة، فصولها مربوطة الى حبل سردي طويل، قائم على التداعيات. من تلك التداعيات تطلع أسماء ووجوه ومشاهد ومواقف وأفعال ثم تتلاشى من دون أن تنتظم في بنية روائية. المَشاهد لا نكاد نتبيّنها حتّى تختفي كأنها السراب، تتدافع من دون سياق درامي، حسب بوح الراوية: سارة. والوجوه لا نكاد نتعرّف إليها حتى تضمحل، تضيع في الزحام، تعود من حيث أتت، إلى عالم مجرّد من الأفكار والمشاعر.
هناك أبلا فلوة، المرأة الجلادة والمربية المحافظة التي تبدأ معها المأساة، تغسل دماغ التلميذة وتزرع في رأسها أفكاراً متحجرة متزمتة عن الخير والشرّ، وتزوّجها لأخيها عبد الله نصف المسخ. هناك عمر أخو سارة، «البطل الإيجابي» إذا جاز التعبير، والشاب الليبرالي الذي خرج من تأثيرات التوتاليتاريّة الأخلاقية للمجتمع، يقرأ لها نيرودا، وينصحها بعدما خرجت من الكابوس لتصبح طالبة في كلية الآداب: «لا تسلمي رأسك بعد اليوم لأحد»... هناك الشيخ علي ـ القصير السمين ـ تاجر الدين الذي سيستبيح سارة. هناك الطبيبة النفسيّة والجدّة وفاطمة أشهر الداعيات في مدينة الرياض، و... مشاري صديق عُمر، الجذاب الأنيق والعصري الذي يقدّم وجهاً آخر للحب (المؤجل)، وللحرية (الممكنة). الرواية تتركه أمام امتحان: هل سيكون أفضل من الرجال الآخرين؟... لكن كل هؤلاء إشارات واهية لا شخصيات من لحم ودم، أي أنهم كليشيهات وشعارات وكائنات ذهنية لا تنبض بالحياة.
ما يهمّ هو الشهادة. سارة تروي لنا ملحمتها الصعبة التي تختتم بنهاية سعيدة. ذات يوم ـ خلال رحلة نقاهة بين كابوسين ـ الى شرم الشيخ، وعدَتْ نفسها بصوت عال أمام أخيها عمر أن تكتب قصّتها كي تتعافى. وها هي تفعل. إنها إذاً قصة امرأة معذّبة، “امرأة عند نقطة الصفر” ـ إذا استأذنا نوال السعداوي ـ إنما بصيغة سعودية، وبعد عقود من تلك المحاولات التي وضعت أسس النسوية في الأدب العربي الحديث. ستنتقل سارة بين الرجال الذين يستبيحونها، بين بيت زوجها وبيت جدّتها، بين أحلامها التي تحدث دائماً في الجنّة وفنادق لندن ومنتجعات شرم الشيخ وشاليه الخُبر، صومعة الشيخ الدجال وعيادة الطبيبة النفسانية الشابة. ستنقل لنا مشاهد جنسية، وأخرى كابوسية مقرفة وعنيفة، وتترك لنا الخيار بين أن نتلصص (تفريغ)... أو نعي الواقع المزري ونشعر بضرورة تغييره (تحريض). أما المتعة الأدبية فموعد مؤجل... إلى ما بعد النهاية السعيدة للرواية.
حكايات “الأَوْبة” من صنع ذاكرة مفبركة تتدفّق بصوت واحد، لا نلبث أن نتآلف معه. ما يهمّ هنا هو البوح، القول، المكاشفة، كشف المستور، التجرؤ على المحظورات، الدين والجنس و... (كلا ليس هناك صراع طبقي!)، ووضع امرأة سعودية رازحة تحت نير الظلامية، في عالم ذكوري قائم على الكبت والمحظورات، وكل أشكال العنف التي تذهب ضحيّتها الحلقة الأضعف في المجتمع... إلى أن يأتي رجال “حداثيون” و“ليبراليون” لإخراجها من الزنزانة، فاتحين أمامها آفاق الحرية (التعليم الجامعي).
رواية “الأَوْبة” (الأوبة هي التوبة، ]نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ[- سورة ص: 44) مجموعة تداعيات، فيها من البوح، من الشكوى، من الغضب، من الحقد والقهر، والعجز، والتحريض... والكثير الكثير من الفجاجة المتعمّدة، والسوقية التي استحالت فنّاً تحريضياً استفزازياً. والجنس. هل سمعتم؟ الجنس! رواية سعودية أخرى فيها من السكس أكثر ما فيها من الأدب، على أبواب معرض كتاب بيروت الذي يعد بالمزيد.
“لقد قالوا إن طريق المرأة إلى بيوت الجنّة وأنهارها ولبنها وعسلها وفاكهتها الدانية يمرّ بالسرير وينتهي بالسرير. إن لم يكن معراجاً للجنّة، فهو على الأقلّ وسيلة للنجاة من الملائكة المستعدّة لِلَعْني، حتى تشرق شمس اليوم الآخر”. هكذا تتكلّم سارة مع طبيبتها، تعترف أنّها لم تكن تعلم “أن للدنيا مسرّاتها، حتى اكتشفت اصبعي طريقها الى حبّة الفراولة”. سارة تستعيد أنوثتها وذاتها، بعدما كانت ضحية تعاني من فظاظة الرجال وعنفهم الأناني الجاهل... ومن العادات الجائرة، وعمليات غسل الدماغ الفظيعة التي تقوم بها مدرّسة عانس، “اختصاصية اجتماعيّة” في مدرسة البنات.
رواية “الأَوْبة” الصادرة حديثاً عن “دار الساقي”، بتوقيع كاتبة غير معروفة اسمها وردة عبد الملك. وبغض النظر عمّن يمكن أن تكون أو يكون الكاتب، فإنّها تعيد تسليط الضوء على موضة الروايات السعودية الصادمة. صادمة لأنّها سعودية أساساً، أي صدى مجتمع بقي مكبوتاً لعقود، مجتمع بطريركي محافظ، يسوده نظام تيوقراطي قائم على الترهيب.
وقد قطعت الرواية السعودية أشواطاً مهمة في العقدين الأخيرين، ولامست المحظور بمختلف الأشكال والأساليب. من ليلى الجهني صاحبة «الفردوس اليباب» («دار الجمل») التي فاجأت بجرأتها، وهي تعود قريباً في رواية عن «دار الآداب»، إلى زينب حفني التي اكتشفها القرّاء في مجموعة قصصية بعنوان «نساء عند خط الاستواء» («المؤسسة العربية للدراسات والنشر»)، ولاحقوها حتّى «ملامح» («دار الساقي»)... مروراً برجاء الصانع صاحبة “بنات الرياض” (2005) التي باعت منها «دار الساقي» حتّى الآن أكثر من 50 ألف نسخة في ست طبعات. ولا ينبغي أن ننسى أسماء أدبية جادة خاضت في المحظور الاجتماعي، مثل تركي الحمد وعبده خال ويوسف المحيميد...
“أوبة” وردة عبد الملك، لعلها أقرب الى قصّة طويلة، من حيث البنية، قائمة على مونولوغ: صوت امرأة في حالة فصام، قررت أن ترفع الحجب، أن تهتك الأسرار، وتخرق المحرمات، أن تبصق قرفها وجعها جرحها استلابها، بعدما عاشت خلف ستار كثيف من التعاويذ والأقاويل والقناعات البائدة. وفجأة ينقطع نفس الكاتبة، كأنّها تعبت من هذه اللعبة السادو ــ مازوشية، فنجد أنفسنا في ديكور مختلف، ونصل الى نهاية مفاجئة من شأنها أن تكون “سعيدة”. أين تذهب سارة بعد أن ننتهي من القراءة؟ هل يبقى لنا أكثر من طعم الفضيحة (الشيخ علي يجامع الشامية من الخلف وهي تتلو صلواتها)؟ مرّة جديدة ها نحن أمام السؤال المحيّر إيّاه: أين تنتهي الفضيحة... وأين يبدأ الأدب؟

بيار أبي صعب

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...