مجتمع ضل طريق التمدن وأقدام ضيعت الأرصفة

02-11-2006

مجتمع ضل طريق التمدن وأقدام ضيعت الأرصفة

الجمل ـ مصطفى علوش : أعتقد أن حاجتنا لرصيف آمن مهمة وقد تعادل حاجتنا لكل أشكال الخدمات الأساسية الأخرى؛ الرصيف بدهية خدمية تجاوزتها الأمم المتحضرة منذ زمن طويل.
عندنا ،والحمد للحكومات المتعاقبة والمكلفين بتنفيذ السياسة الخدمية ,من رؤساء بلديات وشركائهم في مكاتب المحافظات,ضاق الرصيف وشغل بكل شيء ماعدا أقدام المارة ،ويبدو أن الشعراء لن يحظوا بإمكانية لغوية ليبعثروا إبداعهم على رصيف نظيف .
إذاً الجانب الخدمي في هذه المشكلة معروف ومحفوظ جيدا" ويشبه أجوبة البلديات المنشورة في الصحف," قامت الدوريات المختصة بتحرير الضبوط بحق المخالفين" ويا دار مادخلك شر"
وأذكر حين سكنت في حي التضامن بدمشق قريبا من سوق الخضرة كيف "تتقدم القوات يوميا" حسب  تعبير عادل امام في مسرحية الزعيم فيفر الباعة الجوالون نحو الأزقة الضيقة وبعد دقائق يتم جمع المبلغ المطلوب فيعود كل شيء كما كان.
هكذا يصير الرصيف والشارع سلعتان للبيع والشراء والخاسر دائماً هو المواطن .
وهذا الأخير شريك أساسي في المسألة فالوعي المتخلف جعله يعتقد أن الرصيف جزء من محله ولا ينقصه سوى وثيقة تثبيت الملكية ,كما جعله هذا الوعي يعتقد أن الرصيف غرفة استقبال له ولضيوفه,وكثيراً ما يتم افتراش الرصيف وكأنه حق لأصحاب المحلات والمراهقين.


فتش عن الفساد


يقول إصلان عبد الكريم (مثقف سوري )أمضى16 عاما في السجن حالما برؤية الفرح على وجوه الأطفال وهم يعبرون على الرصيف ليصلوا نحو غاياتهم :أشعر بالإهانة الذاتية لأن حقي ينتهك في كل لحظة,وجذر هذا الانتهاك الفساد ,فالرصيف محتل من قبل الباعة و الأكشاك والمراهقين و.. إلخ . يتابع عبد الكريم : أشعر بالعار الجمعي بسبب غياب شيء اسمه تنظيم السير للمشاة, فحين يحتل الرصيف يضطر الناس للنزول للشارع فيقومون بمخالفة جديدة سببتها المخالفة الأولى وتفرخ المخالفة مخالفات وهكذا الى أن يختلط الحابل بالنابل فيولد المئات من المشاكل والحوادث .وما يحدث بمعنى من المعاني انتهاك للكرامات والقوانين و إعلاء للبؤس والتخلف,  ويضيف السيد عبد الكريم حديثه:عادة يتم زرع الأشجار على الأرصفة لخدمة المارة, يتم انتقاء أشجار خاصة لهذه الغاية ,عندنا يأتون بأشكال غير مناسبة فيضيع الرصيف وتبقى الشجرة وحدها  وقد تحولت الى عائق أمام أي عابر,والنتيجة لا حياة لمن تنادي ويشارك الناس في صنع هذه المشكلة ,فمن شلة شباب وقد عقدوا ما يشبه السهرة المسائية وقوفا"على الرصيف ,الى ظاهرة شرب الشاي والمتة والقهوة والنارجيلة وطبعا" بعد احتلال الرصيف من قبل هؤلاء ناهيك عن مئات الأشكال من الإشغالات لهذا الرصيف المسكين المخصص للمشاة .


باعة الحكمة


ترك الفنان الضوئي محمد حاج قاب  كاميرته متعبة من مناظر بؤس الأرصفة في دمشق وحول هاجسه الضوئي الى كلمات :(ملأ الباعة المكان فضاع الرصيف وكثرت المطبات فيه ,حتى صار كأنه أحلامنا المعطوبة,يا الله كم المسافة شاسعة بين رصيف الفكر ورصيف الواقع؟ حين كنا صغارا"استمعنا لقصص تتحدث عن بائع حكمة يعيش على الرصيف ومن يشتري منه يربح .الآن يباع على الرصيف كل شيء من الدخان الى اليانصيب الى الكتب و الأشرطة والبطاريات التالفة ,وصودر الرصيف منا نحن الذين لانملك سوى أقدامنا ونريد التسكع على رصيف بنيناه من الضرائب التي دفعناها لحكوماتنا .اذا"سرق الرصيف من أصحابه المشاة وصار ملكا" للسارقين ويختم حاج قاب بسؤال :أين أنت أيها الرصيف ؟ )


بين شعريتين


الشاعر مازن أكثم سليمان صاحب ديوان (قبل غزالة النوم) أعجبته الفكرة فاشتغل على الجانب الشعري في مفردة الرصيف فكتب : (نقلت قصائد محمد الماغوط التي ظهرت في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي الشعرية العربية ,وبقدرة فنية عالية ,الى تفاصيل الحياة المدينية للمثقفين البرجوازيين على حد تعبير محمد جمال باروت,لقد ولدت هذه الشعرية المغايرة أبعادا" دلالية وجمالية جديدة لتفاصيل الحياة في المدينة.
وفي غمرة هذا المناخ احتلت مفردة (الرصيف ) موقعا أساسيا في هذه الحلقة :انها أرصفة السهر والحب والتبغ :أرصفة التسكع والهرب والتخفي :أرصفة الصخب والحياة ,وغير ذلك من التفاصيل الكثيرة الطويلة .
لقد كانت أرصفة واقعية ملتصقة بالمرحلة,ومن رحم هذه الواقعية تشكل البعد الدلالي الرومانتيكي للرصيف في المخيلة الجمعية للمتلقين ولم يكن هذا البعد الرومانتيكي حكرا" علىالماغوط بل ظهر عند عدد من الشعراء والأدباء العرب لأنه لم يكن في الحقيقة إلااستجابة للوعي الجمعي عند مثقفي المدن العربية ,فهو يعكس مدنهم اليوتوبية كما كانوا يرونها أو يحلمون بخلقها وبنائها ,غيربعيدين عن المؤثرات الغربية بطبيعة الحال ,ويتساءل مازن :الآن وبعد كل هذه التحولات العربية والكونية سياسيا واجتماعيا" واقتصاديا "هل ظلت مفردة الرصيف خزانا" رمزيا" وساحة فاعلة لتخليق حلو ومجازية توحي بالأحلام وانبثاق الحرية الفردية والجماعية في الشعر ؟!
كيف يمكن لشاعر في هذا الوقت أن ينفخ الروح الجمالية في هذه المفردات ؟!
هل يكتفي بالاحتفاظ بها في حدود طاقاتها التخييلية التقليدية ؟!
أم هل يجردها لتحيا على الورق في عوالمها السحرية منقطعة تماما عن الواقع ؟
ربما يميل المزاج الشعري العام ومنذ عقود عدة للاحتفاء بشعرية الرصيف الفردي الخاص بعيدا"عن الرصيف الجماهيري العريض , وهي حساسية تنسحب على معظم المفردات والعناصر الأخرى ,ولاتخرج عن الاطار الذي يموضع فيه الشعر ,وترسم ملامح نظريته وإن كان اعتقادنا الراسخ بأن "أي شعر" سابق على أي مفهوم نظري ,فهو طريقة تعبير فردية قبل كل شيء .
 فإننا نميل للتملص من المفاهيم النقدية السابقة ,فقط لنحلم قليلا"بالاستماع في أيامنا هذه لعاشق يردد على مسمع حبيبته ما قاله الماغوط في قصيدة الظل والهجير:
والآن
هيا لننام على الأرصفة يا حبيبتي .

 

لا مكان للتسكع


الصحافي والكاتب فيصل علوش بدأحديثه متسائلا":ترى هل يستحق الرصيف عندنا أن يشغل حيزامن اهتمامنا أمام القائمة الطويلة من مشاغل وهموم البشر التي تحتل صدارة الحاجات والأولويات ,وأعني بالبشر هنا طبعا عمومهم وليس خاصتهم من أهل السلطة والمال؟
ألا يبدو الاهتمام بالأرصفة في مثل هذه الحال ,ترفا"زائدا"بالمقارنة مع الأولويات الأخرى التي تنتصب في وجوه العامة ؟
وهل سيختلف في المحصلة حال الرصيف عندنا عن  أحوال بقية الأشياء ,مثل الطرقات المحفورة المتخمة بالمطبات وبيوت السكن العشوائي المتداخلة أبنيتها مع خطوط التوتر العالي ,وأكوام الزبالة والأتربة التي تتحول الى مستنقعات موحلة في الشتاء ,ومع حفظ الفارق بين هذه الأحياء الشعبية وأحياء الطبقة الأولى "كأبي رمانة " فإن أرصفتنا إن وجدت لا تصلح بكل تأكيد مكانا" للمشي أو لتسكع السائحين "على اعتبار أن مواطننا اللاهث وراء لقمة خبزه لا يتبقى لديه وقتا"للتسكع"
 حال أرصفتنا كحال مجتمعاتنا وسلطاتنا التي ما برحت تتخطى كالسلحفاة مرحلة الانتقال من البداوة والعشيرة و الطائفة والقبيلة الى المجتمع المتمدن والمواطنة  أو إن شئتم الى مرحلة الرصيف المتسع والمنظم والنظيف الصالح للمشاة وانتقال المارة والتسكع أيضا", والذي يشكل انعكاسا لمستوى التمدن والتحضر , وليس مكانا يشغله الباعة المتجولون ورجالات الأمن المتنكرون بزيهم يعرضون شتى صنوف الألبسة والأحذية والأطعمة الرديئة والمهربة .
ولهذا ومهما أعربنا عن احتجاجنا فإن الإهتمام بأحوال الأرصفة لن يكون ولن يجيء إلا مقترنا مع التفكير والعمل في سبيل تحسين أحوال البشر ومعيشتهم والنهوض بواقع التنمية والصحة والتعليم والقضاء ...ابعيداعن الشعارات الجوفاء التي باتت كالعلكة الفارطة في الفم.
حدثني صديق زار باريس أنه مشى لساعات على بعض أرصفتها واشتهى أن يعلق على حذائه ذرة غبار ..

 

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...