(وثائق سورية): كلمة الرئيس جمال عبد الناصر فى اللاذقية بسوريا

30-05-2010

(وثائق سورية): كلمة الرئيس جمال عبد الناصر فى اللاذقية بسوريا

أيها المواطنون:
      أحييكم، وأعبر لكم عن تقديري البالغ لهذه المشاعر ولهذا الحماس الذي لمسته منذ وصلنا إلى مدينتكم بالأمس. وفى الحقيقة فإن هذه المشاعر متبادلة بيننا، فنحن أيضاً نشعر نفس هذا الشعور، ونحس بنفس هذه الأحاسيس، وتتملكنا الحماسة ونحن نسير بينكم. هذه الحماسة المتبادلة وهذا الشعور المتبادل وهذه المحبة المتبادلة إنما هي سبيلنا لنبنى بلدنا؛ المحبة بين الجميع.. نبنى بلدنا على المحبة وبالمحبة. أيها الإخوة.. بالمحبة نستطيع أن نوفر الكثير من الجهد الذي كان يضيع في البغضاء وفى التنافس وفى الخلافات؛ هذه المحبة التي جمعتنا جميعاً اليوم في هذا الميدان، هذه الألوف المؤلفة وهذه القلوب المؤمنة، هذه المحبة التي جمعت هذا الشعب، هذه المحبة التي تتمثل في حب الوطن؛ حب الجمهورية المتحدة.
أيها المواطنون:
      هذه المحبة إنما تجمعنا جميعاً؛ تجمع القادة مع الشعب لمحبة وطننا وجمهوريتنا، وللعمل من أجل بلدنا ومن أجل قوميتنا. بهذه المحبة - أيها الإخوة المواطنون - نبدأ الطريق لبناء هذا البلد؛ لأن المحبة هي الطريق إلى التعاون، وهى الطريق إلى التساند.. والتساند - أيها الإخوة - والتعاون هو الطريق إلى القوة، ولا يمكن أن يحصل بلد على القوة إذا تنابذ أبناؤه وتفرقوا واختلفوا، ولكن لابد أن يحصل البلد على القوة إذا تركنا الخلاف وراء ظهرنا، وتركنا الأحقاد السابقة التي بثها الاستعمار بيننا ليسيطر علينا، واتحدنا وتعاونا وتساندنا، وسرنا جميعاً تجمعنا رايتنا؛ راية الجمهورية العربية المتحدة، ويجمعنا حبنا لوطننا الجمهورية العربية المتحدة.
      هذا - أيها الإخوة - هو سبيلنا إلى القوة، وهذا هو سبيلنا إلى المجد، وهذا هو طريقنا لبناء وطننا. إننا - أيها الإخوة - في هذا الوطن، ونحن قد عاهدنا الله، وعاهدنا الوطن، وعاهدنا أنفسنا أيضاً على أن نجند جميع قوانا من أجل بناء هذا الوطن، ومن أجل بناء هذه الجمهورية، ومن أجل رفعة شأن القومية العربية وحمايتها. إننا ونحن نسير في هذا السبيل إنما نعلم، وإنما نكون على بينة من أن سبيلنا لتحقيق هذا كله هو المحبة والتعاون والتساند والتضامن.
      ونحن نعلم أيضاً - أيها الإخوة - أننا حينما آثرنا الحرية، وحينما صممنا على أن ننتزع هذه الحرية، وحينما عقدنا إرادتنا على أن تكون بلدنا بلداً مستقلاً لا بلداً تابعاً، بل تنبع إرادته من مشيئته، حينما عقدنا هذه الإرادة كنا نعلم أن الطريق أمامنا ليس بالطريق السهل، وكنا نعلم أيضاً أن الطريق أمامنا إنما هو طريق شاق صعب، يحتاج إلى الكثير من الجهد، ويحتاج إلى الكثير من الكفاح، بل قد يحتاج أيضاً إلى بذل الدماء وإلى الضحايا.
كنا نعلم حينما عقدنا إرادتنا على أن نستقل استقلالاً كاملاً، وعلى ألا تكون هناك تبعية في وطننا لأي بلد كان، أن هذا الطريق لن يكون سهلاً؛ لأن أعداؤنا والطامعين فينا على مر الزمن كانوا يحاولون بكل الوسائل أن يسيطروا على بلدنا، وأن يسيطروا على مقدراتنا، وأن يحتلوا بلدنا، وأن يجعلونا تابعين لهم. كان هذا في الماضي، وحاولوا بكل الوسائل أن يستمر هذا، ولكنكم - أيها الإخوة - حينما عقدتم إرادتكم على الحرية، وحققتم الحرية وحققتم الاستقلال، ورفضتم التبعية، وأعلنتم أننا أمة مستقلة تتبع سياسة مستقلة، لا هي منحازة إلى الشرق ولا منحازة إلى الغرب، ولكن سياستها هي سياسة الحياد الإيجابي؛ كان كل فرد منا يشعر أننا سنكافح كفاحاً طويلاً ضد أعداء القومية العربية؛ أعداؤنا المعتدون من الخارج أو أعوانهم في الداخل. وكنا نشعر أيضاً أننا سنجابه هؤلاء الأعداء بقوة وعزم، وكنا نؤمن في قرارة نفوسنا أننا في هذه المعركة القادمة من أجل تثبيت الحرية وتثبيت الاستقلال لابد أن ننتصر، كما انتصرنا في معركتنا من أجل انتزاع الحرية ومن أجل انتزاع الاستقلال.
أيها الإخوة المواطنون:
إننا كنا نعرف أن طريق الحرية والشرف والكرامة ليس بالطريق السهل، ولكنه بالطريق الصعب، ولكنا كنا نعرف أيضاً أن التبعية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون سبيلنا، أو أن يقبلها أى فرد فينا؛ لأننا جربنا التبعية في الماضي؛ جربناها هنا في سوريا حينما كنا تابعين لفرنسا، وفى مصر حينما كنا تابعين لإنجلترا.. فهل سكن الشعب لهذه التبعية؟ أو قام الشعب وقاتل؟ لقد قام الشعب دائماً وقاتل من أجل التخلص من التبعية؛ التبعية لفرنسا أو التبعية لإنجلترا، كما قام الشعب قبل ذلك وقاتل أيضا ليتخلص من التبعية للإمبراطورية العثمانية؛ لأنه كان يشعر أن التبعية هي استبداد بالشعب، وأن التبعية هي استغلال الشعب، وأن التبعية هي أن نكون العبيد ويكونوا هم الأسياد.
إن الشعب حينما قرر أن يتخلص من التبعية لم يقررها في هذه الأيام أو في هذا الجيل فقط، ولكنه قرر دائماً أن يتخلص من التبعية والسيطرة الأجنبية، واستطاع الشعب أن يكافح ويقاتل، وأن يبذل الدماء والضحايا حتى تخلص من التبعية، وحتى حقق الحرية، وحتى حقق الاستقلال.. وحينما تحققت الحرية وتحقق الاستقلال كان أمامنا الطريق واضح؛ لابد من حماية الحرية ولابد من تثبيت الاستقلال.
وكنا جميعاً نعلم أننا اليوم في هذا العصر الذي تتصارع فيه القوى، والذي يحاول الاستعمار ويحاول الطامعون أن يجعلوا من منطقتنا منطقة لنفوذهم حتى نعود تابعين مرة أخرى؛ كنا نعلم هذا، وكنا نعلم وكان كل فرد منكم يعلم أن حلف بغداد يعنى التبعية؛ يعنى التبعية لبريطانيا، ويعنى التبعية للاستعمار؛ ولذلك قاومتم هنا حلف بغداد، وقاومنا نحن في القاهرة حلف بغداد، والتقت إرادة القاهرة مع إرادتكم هنا في سوريا على مقاومة حلف بغداد.
وقد كان هناك - أيها الإخوة - منذ عام ٥٥ ضغط متواصل على سوريا وعلى مصر لننضم إلى حلف بغداد، ولكن حلف بغداد كان لنا يعنى التبعية، وكانت التبعية معناها العبودية، وكنا قد قررنا بعد أن حققنا الحرية أن نحافظ على هذه الحرية. وكان لكم - أيها الإخوة - إخوة لكم فى العراق؛ فى بغداد، كانوا يعلمون أن حلف بغداد يعنى التبعية، وكانوا يجاهدون - كما كنتم تجاهدون من قبل - ليتخلصوا من التبعية ويحققوا الحرية. كان إخوتكم في العراق يشعرون نفس هذه المشاعر التي كنا نحس بها هنا في سوريا وفى مصر، وكانوا يقاتلون معنا ضد التبعية وضد مناطق النفوذ، وكانوا يقاومون حلف بغداد. واستطعنا نحن في سوريا وفى مصر ألا نمكن أعداء القومية العربية، ولا نمكن الضغط، ولا نمكن السيطرة من أن تضمنا إلى داخل مناطق النفوذ أو إلى داخل حلف بغداد. وقاتل إخوتكم وكافح إخوتكم في العراق بعد أن ربطوا بحلف بغداد ليهزموا حلف بغداد؛ قاتلوا وكافحوا لأنهم كانوا يؤمنون بما نؤمن به، يؤمنون أن لابد من الحرية، ويؤمنون بنهاية التبعية. وثار جيش العراق، وثار شعب العراق ضد التبعية وضد السيطرة؛ من أجل تحقيق الحرية ومن أجل تحقيق الاستقلال.
كان هذا - أيها الإخوة المواطنون - هو التاريخ الذي لقيناه في الماضي القريب، وإننا اليوم حينما نجتمع لنعقد إرادتنا على حماية هذه الحرية، ونعلن مشيئتنا أننا لن نقبل بأي حال التبعية، ولكن إرادتنا ستعلن من بلدنا. إننا نعرف - أيها الإخوة - هذا الطريق؛ لأننا قاسينا من التبعية تحت أسماء مختلفة، وتحت شعارات زائفة؛ كانت التبعية في الماضي تحت اسم الحماية، وكانت التبعية في الماضي تحت اسم التحالف، وكانت التبعية في الماضي تحت اسم الدفاع عن الشرق الأوسط، وكانت التبعية في الماضي تحت اسم الديمقراطية التي أعلنت في بلادنا تحت لواء الاستعمار وتحت سيطرة الاستعمار. كانت التبعية في الماضي هي الهدف الذي يهدف إليه الاستعمار وأعوان الاستعمار، كانت التبعية هي الهدف الذي يعمل من أجله الطامعون فينا، والذين يريدون أن يضمونا في داخل مناطق نفوذهم. وكنا نحن - أيها الإخوة المواطنون - في جميع بلاد الأمة العربية نعرف ذلك، ونتنبه لذلك؛ كنا نقاوم التبعية.. نقاتل، وقد كان يحدث في بعض الأحيان أن نغلب على أمرنا، ويتمكن فينا أعداؤنا وأعداء قوميتنا لبعض الوقت، ولكنا لم نكن نيأس أبداً أو نستسلم، بل كنا نهب من جديد لنكافح ونقاتل السيطرة، ولنقضى على التبعية.
إننا اليوم - أيها الإخوة المواطنون - نعرف طريقنا واضحاً، ونعرف أن الشعارات الزائفة التي قادتنا إلى التبعية في الماضي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخدعنا مرة أخرى. إن الشعارات الزائفة، والشعارات التي كانوا يخدعوننا بها في الماضي ويحاولون بها أن يزينوا لنا الأمور، كانت هي السبيل حتى نكون تباعاً لهم، وحتى نكون عبيداً لهم. وإننا اليوم - بعد أن عرفنا هذا التاريخ وعرفنا هذه الأساليب - لن نمكن للشعارات الزائفة مرة أخرى أن تكون هي الوسيلة التي تقودنا إلى التبعية؛ لأننا قررنا سياستنا وأعلناها أنها سياسة عربية مستقلة، وأن سياستنا هي سياسة حيادية، وأن لا انحياز لا إلى الشرق ولا إلى الغرب، وأننا إذا كنا ننحاز فإننا ننحاز إلى بلدنا وإلى وطننا العربي.
إننا - أيها الإخوة - نعرف هذا الطريق ونعرف هذا السبيل، ولن يمكن لأعداء القومية العربية - سواء من الخارج أو من الداخل - أن يضللونا مرة أخرى، كما ضللونا في الماضي. أعوان الاستعمار، أعداء القومية العربية؛ الانتهازية والانتهازيون لن يمكنهم بأي حال أن يضللونا مهما أعلنوا من شعارات زائفة براقة؛ لأننا نعرف أن هذه الشعارات هي الطعم الذي يلقونه لنا حتى يجرونا إلى التبعية كما حاولوا في الماضي أن يجرونا إلى التبعية. وهذا - أيها الإخوة - هو الوعي الذي لمسته في أرجاء هذه الجمهورية؛ كل فرد من أبناء هذه الجمهورية يعرف الأساليب التي زيفت علينا في الماضي لتجعلنا تحت سيطرة الاستعمار، كل فرد من أبناء هذه الأمة يعرف الأساليب التي زيفت علينا في الماضي حتى نخضع للتبعية. وكل فرد اليوم - أيها الإخوة المواطنون - يعرف ويعي نفس الأساليب التي اتبعت.. يعرفها جيداً، ويعرف الأساليب التي تطلق، والشعارات الزائفة التي تزيف حتى تكون هي الطعم الذي يجرنا إلى التبعية. إننا سنبقى أحراراً، وقد أعلنا حريتنا وحصلنا عليها بدمائنا، وقد حققنا استقلالنا وحصلنا عليه بشهدائنا، وإننا سنحافظ على هذه الحرية، وسنحافظ على هذا الاستقلال.
أيها الإخوة المواطنون:
إن هذا هو سبيلنا.. سبيلنا إلى بناء بلدنا، وإلى الحفاظ على حريتنا، وإلى الحفاظ على استقلالنا. وقد قلت لكم: إننا إذا أردنا أن نحمى هذه الحرية، وإذا أردنا أن نحصن هذا الاستقلال، وإذا أردنا أن نحمى القومية العربية، وإذا أردنا أن نبنى بلدنا؛ فإن سبيلنا إلى ذلك الوعي.. الوعي.. الوعي، واليقظة.. اليقظة أيها الإخوة، والاتحاد.. الاتحاد بين أبناء الوطن الواحد؛ لأننا ونحن الأمة الناشئة التي تريد أن تبنى نفسها، إنما ننتزع حقنا انتزاعاً من قوى كبيرة تكتلت ضدنا وضد قوميتنا؛ لأنها تريد أن تسيطر علينا، وأن تضعنا داخل مناطق النفوذ. بالوعي - أيها الإخوة المواطنون - وبالاتحاد.. بالوعي والاتحاد واليقظة، لن نطمئن أبداً إلى أعدائنا؛ أعداء القومية العربية في الخارج أو في الداخل، ولكنا سنكون دائماً على حذر، نشعر باليقظة وتحت السلاح؛ لنحمى حريتنا، ونحمى استقلالنا، ونبنى جمهوريتنا. والله يوفقكم.
والسلام عليكم.
اللاذقية١/٣/١٩٥٨
المصدر: صحيفة الأهرام، عدد 2 /3/ 1958م.

الجمل- إعداد: د. سليمان عبد النبي


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...