الأم في تذكارات فيروز:اختفت من النسب العائلي على المسرح

20-03-2010

الأم في تذكارات فيروز:اختفت من النسب العائلي على المسرح

ما بين الأغنية والحياة على خشبة المسرح... يطرح التراث الذي قدمته السيدة فيروز مع الأخوين رحباني، حالة إشكالية لصورة الأم الحاضرة الغائبة، وتبدو استعادة ملامح هذه الصورة على قدر كبير من الطرافة، سواء حضرت في نسيج الأغنية أم غابت على خشبة المسرح.
قصائد لتمجيد الأمهات!
غنت فيروز للأم باكراً من كلمات والحان الأخوين رحباني. انسابت أغنيتها الأولى بإيقاع هادئ رتيب لتغني:
نداء الحنان
وصفو الأماني
وأسعد حلمي... أمي
في شجن الفؤاد
وليلة السهاد
أعذب من أنادي... أمي
وحين أشدو لحني
في رعشة التمني
أجمل ما أغني... أمي
هذه الكلمات البسيطة ذات الصياغة التقليدية، تجددت على نحو مختلف مع قصيدة الشاعر سعيد عقل (أمي يا ملاكي) التي غنتها فيروز لاحقاً بألحان الأخوين رحباني، وانتقلت الأم من الوصف الإنشائي المجرد (نداء الحنان/ صفو الأماني/ أسعد حلمي) إلى استعادة الصورة الحياتية للأم، حيث تغدو يداها أرجوحة السرير المستعاد من عهد الطفولة:
أمي يا ملاكي.. يا حبي الباقي إلى الأبد
ولا تزل يداك.. أرجوحتي ولا أزل ولد
يرنو إلي شهر... وينطوي ربيع
أمي وأنت زهر في عطره أضيع
ويتابع صوت فيروز بهمسه الملائكي، تمثل مشاعر الولع بالصور الأثيرة التي تشكل جوهر العلاقة مع الأم، سواء في ليالي السهر وأنات الألم والحمى، أو في حالات التعلق العاطفي الذي يكبر كلما كبر الإنسان:
وإذ أقول أمي أفتن بي أطير
يرفُّ فوق همِّي جناحُ عندليب
أمي نبض قلبي.. نداي إنْ وجِعْتْ
وقبلتي وحبي.. أمـــــي إن ولعتْ
عيناكِ ما عيناكِ.. أجمل ما كوكب في الجلد
أمي يا ملاكي.. يا حبي الباقي إلى الأبد
أما في قصيدة (ربي سألتك باسمهن) وهي للشاعر اللبناني رشدي المعلوف (1914- 1980) - والد الروائي أمين المعلوف- والذي كان شاعراً وأستاذاً جامعياً مرموقاً، وصحافياً لامعاً من أستاذة فن المقال في الصحافة اللبنانية، وقد أصدر ديوانه (أول ربيع) في بيروت عام 1944، فيتحول الغناء للأم، إلى حالة من الابتهال والدعاء لله... فالقصيدة تمثل حالة رجاء في تقديس وتمجيد الأمهات... حالة تبرز تضحيات الأمهات بلغة فيها الكثير من الإيحاء الشعري المتقد بصور شتى:
ربي سألتك باســــمهنّ
أن تفرش الدنيا لهــــنّ
بالورد إن سمحتْ يداك
وبالبنفســــــــج بعدهنّ
حب الحـــــياة بمِنتــينْ
وحبهــن بغير منّــــــه
نمشــــي على أجفانهنّ
ونهتدي بقلوبهــــــــنّ
غنت فيروز هذه القصائد من ألحان الأخوين رحباني... لكن الحنين إلى التغني بالأم، لم يخفت حتى بعد انفصالها فنياً عن عاصي ومنصور، فقد غنت في تسعينيات القرن العشرين، من ألحان وكلمات زكي ناصيف قصيدة (أمي الحبيبة) التي تقول:
أمي يا أمي الحبيبة
ملفى الرياحين والورود
أين ابتساماتك الرطيبة
تزهو بإشراقة الوجود؟!
ويغلب على لحن زكي ناصيف الطابع التطريبي التقليدي، الذي يتماشى مع طبيعة الكلمات والصور الشعرية التقليدية بدورها... إلا أن القصيدة تتوهج كلمات ولحناً في ختامها، إذ تبدو وكأنها ترثي صورة الأم الغائبة، أو التي في طريقها إلى الغياب:
والشمس تدنو من الغروب
كأنها وجهك الحبيب
يا وجه أمي لا تغيب
أماه أنشودة الخلود


الشكوى من الرقابة العاطفية!
وبخلاف هذه القصائد التي كتبت بالفصحى والتي صورت ولع فيروز بالتغني بالأم في مراحل مختلفة من مسيرتها مع الأخوين رحباني ومن دونهما، بدت صورة الأم في بعض الأغنيات والاسكتشات المكتوبة بالعامية مختلفة تماماً... فالأم هنا سلطة رقابة على حالة العشق الخفية التي تتسلل إلى قلب الفتاة فتبدل حالها، كما تقول الأغنية الرحبانية:
دخيلك يا أمي مدري شو بني
اتركيني بهمي زهقانة الدني
بذكر من سنة وأكثر من سنة
شفته تحت اللوزة بالفي الهني
وما بعرف عطاني يمكن سوسنة
ومن يومها يا أمي مدري شو بني!
وفي اسكتش عيد العزابة الذي قدم في فيلم (بياع الخواتم) عام 1965 تتكرس رقابة الأم على حالة اللهو العاطفي البريء الذي يمثله عيد العزابي منذ البداية:
أمي نامت عابكير
وسكّر بيي البوابة
وأنا هربت من الشباك
وجيت لعيد العزابي!
في المسرح والسينما: فيروز بلا أم!
لكن بخلاف هذا الحضور الخاص للأم في أغنيات فيروز، نجد غياباً شبه تام، لشخصية الأم في الأعمال المسرحية والسينمائية وحتى الاسكتشكات التلفزيونية التي غنتها فيروز... كاسكتش (حكاية الأسوارة) الذي تتغنى فيه فيروز بامرأة عجوز تذكرها بجدتها وحكاياتها لا بأمها:
بيتك يا ستي الختيارة بيذكرني ببيت ستي
تبقى ترندحلي أشعارها والدنيه عم بتشتي.
في كتابه (فيروز والرحابنة: مسرح الغريب والكنز الأعجوبة) يلحظ فواز طرابلسي أن: (بطلة المسرح الرحباني هي البنت التي لا أم لها، تعيش مع خال هنا، تحن إلى جد هناك، تسعى إلى جدة في قرية نائية هنالك، ولا تستطيع إليها وصولا... لكننا لن نعثر لها على أم في أي مسرحية من المسرحيات، ولسنا نعرف لها أخوة ولا أخوات. ثم أن البنت التي لا أسرة لها أو بالكاد، لن تكون لها أسرة هي ذاتها. فالبطلة الرحبانية المسرحية عزباء دائمة، لها خُطّاب، ولها من تحب.. لكن معظم قصص الحب التي نعرفها، قد حصلت في الماضي أي خارج زمن المسرحية.. وللدقة، بطلتنا المسرحية عزباء دائمة إلا في مسرحية واحدة (بترا) حيث هي متزوجة وأم، لكن زوجها غائب في الحرب، ترك لها إدارة شؤون المملكة في غيابه، وهو لن يعود إلا في نهاية المسرحية ليشهد مصرع ابنته. الحاصل أن البطلة المسرحية الرحبانية التي لا أم لها، لن تنعم بالأمومة، والاستثناء في (بترا) يثبت القاعدة في سائر المسرحيات).
ويتساءل الكاتب فواز طرابلسي في سياق عرض هذه الحالة لفيروز التي بلا أم في أكثر من عشرين مسرحية: (هل في الأمر سهو ما أو صدفة؟!) ثم يجيب: (يكاد يستحيل أن تتكرر مثل هذه الصدفة وأن يتمادى ذاك السهو خلال ربع قرن وأكثر من عشرين مسرحية! قد يقال أن فيروز هي المرأة التي بلا أم، لأن الأم الحقيقية ـ عاصي ومنصور- قابعة في الكواليس تحرك خيوط الشخصية كما تحرك خيوط المسرحية) ويضيف طرابلسي: (ينطوي القول على مقدار كبير من الصحة، بكن في الأمر ما يتعدى ذلك... يستطيع عاصي ومنصور أن يقولا عن فيروز ـ الشخصية المسرحية- ما قاله فلوبير عن بطلة روايته مدام بوفاري: فيروز هي نحن).
وإضافة إلى ما قاله فواز طرابلسي في كتابه (فيروز والرحابنة: مسرح الغريب والكنز الأعجوبة) يمكن أن نضيف أن فيروز حتى عندما غنت لابنتها ريما في فيلم (بنت الحارس) وهي تهدهدها كي تذهب إلى النوم: (يلا تنام ريما... يلا يجيها النوم) غنتها باعتبارها تغني لأختها الصغيرة، في ظل وفاة الأم... فقد جعل الأخوان رحباني من فيروز شقيقة ريما وليست أمها... ومن المعروف أن معظم نجمات الدراما العربية، أو ما يمكن أن يوصفن بأنهن (نجمات شباك) في المسرح والسينما... كنا يهربن من تجسيد دور الأم ما أمكن لهن ذلك... لأن هذا يعني الخروج من سن الشباب... إذ لا تعترف الدراما العربية عموماً بالأم الشابة، إلا إذا تطلب الأمر صناعة ميلودراما عنيفة عن الأمومة أو العقم أو فقد الأبناء... ويبدو أن الأخوين رحباني أرادا لفيروز ألا تكون الأم، كي يكون بمقدورها أن تبقى نجمة شباك... صحيح أن نجومية فيروز لا تعتمد على جمالها الشخصي، ولا نسيج العلاقات العاطفية الذي يجعلها البطلة والمحور... لكن من الضروري أن تبقى فيروز شابة، فالأم هي مرجعية اجتماعية لوضع قائم، ومهما قيل عن أنها (مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق) فهي في الدراما العربية مكبلة بقدسية دورها، وهي لذلك لن تكون قادرة على حمل قيم التغيير والتمرد التي آمن بها المسرح الرحباني خصوصاً، والفن الرحباني بمختلف أشكاله على وجه العموم.

محمد منصور

المصدر: القدس العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...