أسرارالعباءة الدمشقية

14-06-2006

أسرارالعباءة الدمشقية

الجمل- تحقيق: سعاد جروس : رغم أن ارتداء العباءة قد قل كثيراً في مدينة دمشق، مازال سوق مدحت باشا من أهم أسواق العبي في منطقة الشرق، منذ عهد المماليك وكان يعرف باسم سوق جقمق لبيع الثياب والقماش بالأذرع. وقد ذاع صيت هذا السوق المسقوف، والموازي لسوق الحميدية الشهير أحد الأسواق الشعبية الكثيرة التي اشتهرت بها دمشق على مر الزمن، والتي لا يمكن الحديث عن دمشق بمعزل عنها إلى جانب ميزات العباءة الدمشقية التي منحت لسوق العبي صيته الذائع، لما تمتلكه هذه العباءة من جودة ومهارة وفن رفيع. والعباءة المشغولة بأيدي الدمشقيات لا تسمى باسم مدينتها كمقياس على جودتها بل تدعى باسم منشأ قماشها فأفضل العباءات النجفية، والمضي في بحث أصل التسمية يقودنا إلى عالم آخر كل معلومة فيه تثير الفضول للتوغل في عالم لا يمنح ذاته بسهولة. فهذا النوع من الملابس التي تتدلى من الأسقف وعلى الأرصفة وداخل الفترينات الزجاجية، قد لا يخطر للمرء أن تكون بشكلها البسيط حصيلة، جهود متعددة ومعقدة تداولها أياد كثيرة قبل أن تصل إلى السوق، كما قد لا يمضي ذهن المتفرج كثيراً في دلالات الجودة والأبهة التي تحملها خامات تلك العباءات. فأجود أنواع العباءات النجفية القماش، المزينة بالخيط الذهبي إما ألماني المصدر أو فرنسي، والمشغولة بأيدي الدمشقيات.
يقصد سوق العبي زبائن من أنحاء متعددة ،فمن سورية يأتون من أرياف المحافظات مثل  دير الزور ودرعا والحسكة وحمص، ومن البلدان العربية من الخليج العربي والسعودية واليمن وعمان والأردن.
معاني كثيرة ترتبط بالعباءة كزي شرقي الهوية ، ترتبط بمفهوم الرجولة في المجتمع الشرقي، فهي دليل عز وجاهة إلى جانب كونها من الزي العربي المشرقي الأصيل، وفي منطقة الشام جرت العادة أن ترتدي العروس عباءة والدها فوق ثوب الزفاف كتعبير عن حماية أهلها وأنها ابنة عز ومدللة وإلى ما هناك من معاني الفخر الاجتماعي، كما ارتبط معنى "العباية" في دمشق بالسلطة ففي أواسط القرن الـ 19 درج أحدهم وهو مأمور في الدرك العثماني على ارتداء عباءة سوداء أثناء تجواله في السوق، فأطلق عليه الناس لقب "عباية" للتنبيه عن جولاته المفاجئة فكان ما إن يخرج إلى الشارع حتى يبدأ الناس يقولون عباية عباية حتى يعم الخبر إلى كافة تجار السوق الطويل (الحميدية) ليحتاطوا من جولته، وفيما بعد صار الدمشقيون يطلقون هذا اللقب على دوريات الدرك التي كانت تخرج لتسوق الشباب إلى العسكر للمشاركة في حرب السفر برلك وما أن يقول أحدهم عباية حتى يختفي الشباب عن الأنظار.  

قماش العباءة
أبو ايمن تاجر العبي في سوق مدحت باشا يقول إن أفضل الأقمشة تلك المجلوبة من النجف المصنوعة يدوياً من الصوف الطبيعي الخالص، وهو من أغلى الأصناف وكلما كان القماش النجفي صاف أي خال من العقد كان أفضل، ويفضله أهل الكويت طاق واحد بينما أهل السعودية يفضلونه طاقين، وهناك من الأقمشة الغالية الثمن الرهيف الندني، رغم أنه قماش صناعي يعتبر من الأقمشة الفاخرة لكنه ليس بجودة النجفي حتماً، وكذلك القماش السوري وبر الجمل الطبيعي، الذي تشتهر به بادية الشام ويتميز بلونه الحنائي ومنه تصنع العباءات الشتوية، إلى جانب أنواع متعددة من القماش الصناعي المتوفر في الأسواق ، أما بالنسبة لـ"لزري" (القصب) الذي تزين به العباءة ويسمى تخريج فهو من خيوط الذهب وأفضلها الألماني من ثم الفرنسي، وهذان يتميزان باحتفاظهما بلمعان الذهب لفترة طويلة جداً فلا يسود مع الزمن، مثل الأنواع الأخرى الرخيصة أو البازارية كالحلبي والهندي والياباني . وتعرف هذه الخيوط من لونها فغالبية الأنواع الرخيصة يميل لونها للاحمرار بعض الشيء.
رياض زهر الدين في محل عباءات اللورد حدثنا عن طريقة صنع العباءة ومن أين أتت شهرة العباءة الدمشقية قال: العباءة في دمشق تتميز بكونها شغل يدوي تقوم بها مجموعة من الشغالات الماهرات وكلما زادت خبرة الشغالة ارتفع ثمن العباءة بسبب ارتفاع اجر الشغالة لأنه حتماً ينعكس على إتقان الشغل، فالعباءة تستهلك 25 يوم شغل تستلمها ست شغالات كل واحدة منهن تعمل باختصاصها، ولا واحدة تكمل اختصاص الأخرى في شغل الزري (القصب)، فبيدأ العمل أولاً بالحبكة ومن ثم الدكة وبعدها التحشاية ثم غرزة اللوزة، بعد الانتهاء من الغرز تأتي البردغة لتسوية الشغل، ومن ثم يأتي الدق وهو دق القصب بالمطرقة لتلميع الذهب والدق يحتاج لدقة وحساسية عالية بالطرق لأن من شأن الطرق الخاطئ أن يفسد لمعان القصب. وشغل العباءات لا يحتمل الخطأ أبداً لصعوبة التراجع في الشغل كونه شديد الدقة من هنا تأتي أهمية الخبرة .
حول آلية إدارة العمل حدثنا أحد المعلمين الكبار في السوق ورفض الإفصاح عن اسمه فيقول: العمل يتم من خلال ورشات نسائية تترأسها معلمة تدعى بالسوق (أماية)، وهي تتولى التعامل مع التاجر فتأخذ منه المواد الأولية وتسلمه للشغالات، من ثم تسلم التاجر العباءات جاهزة للعرض والبيع . تحافظ الأماية على أسرار العمل فلا تسمح للشغالات بالتعامل المباشر بين التاجر والشغالات، كما لا تسمح بنزول الشغالة إلى السوق لعدة أسباب منها حتى لا تتجاوز الشغالة الأماية، وثانياً لأن الشغالات من صاحبات المناديل (المحجبات) ولا يسمح لهن مجتمعهن بالخروج إلى السوق، وأيضاً للمحافظة على سرية أسماء الشغالات بين تجارالسوق الذين يتنافسون على استقطاب الأفضل منهن لما تمتلكنه من أسرار بالشغل والتفنن به.
من يتجول في السوق ويرى العباءات المعروضة على الأرصفة لا يتوقع أن تكون نسخا آلية لتحف يدوية مشغولة بإتقان وأسرار لا تمنح ذاتها بسهولة ، فالكومبيوتر الذي دخل على صناعات كثيرة دخل أيضاً في شغل العبي كما دخلت الآلة الكهربائية لتطرح في السوق أنواعاً بازارية كثيرة ورغم وفرتها لم تستطع منافسة تلك التحف، التي لا تعرض وإنما تخبأ داخل علب فاخرة بانتظار زبائنها من الطبقات الغنية والأمراء اللذين يقصدون سوق مدحت باشا من مختلف الأنحاء.         

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...