الكاتب كريماً

05-03-2023

الكاتب كريماً

الجمل ـ عماد عبيد:

منذ أن كتب الناقد الفرنسي (رولان بارت) مقاله الشهير عن (موت المؤلف) في نهاية الستينيات من القرن الفائت، اشتغلت حركة النقد على هذه الفكرة إلى أن أصبحت نظرية نقدية تعمل بها النقودات الأدبية في معايرتها للنصوص والتركيز على البنية اللغوية والفنية والفكرية بعيدا عن إسقاط شخصية الكاتب على النص أو العكس.
اعتمادا على هذه النظرية توجب على النقد أن يتعامل مع النص كقيمة فنية مستقلة عن مرجعيته الكتابية، سواء من حيث شخصية الكاتب أو معتقداته السياسية أو الدينية أو الاجتماعية، وكم من نص مغفل من اسم المؤلف، خلب الألباب واستقر في الموروث النقدي كقيمة جمالية عالية، مع الجهل التام لاسم مؤلفه ومرجعيته العقائدية.

لكن مهما حاولنا تطبيق شروط هذه النظرية فإننا سرعان ما نتجرد منها عندما نعرف شخص الكاتب ونحاول الربط بينه وبين النص في محاولات تكهنية لاستنباط المرامي والرؤى التي تمخض عنها النص، لذلك ترانا نقيّم الكثير من النصوص لكتّابٍ إما جمعتنا بهم المعرفة الشخصية، أو اختزنا معلومات عنهم، قد يكون بعضها سري غير معلن، فنجنح إلى التأويل المغاير لظاهر النص متجاوزين البناء الفني والقيمة الأدبية له.

وبعد استشراء نهم الكتابة الأدبية على وسائل التواصل الاجتماعي، وما وفرته تلك الوسائل من مؤثرات صوتية وبصرية وخدع إعلامية تضفي على النصوص بريقا لامعا، كإرفاق صورة لصاحب/ة النص، أو تحويل النص إلى صوت موظف عبر إلقاء إيقاعي وترافق موسيقي، أو تلفيق شهادات كرتونية صادرة عن جهات وهمية، فيتحول انتباه المتلقي عن جوهر النص إلى شخص الكاتب، خاصة إن كانت الصورة تحمل مواصفات جمالية ووسامة ملفتة، هنا تبدأ شخصية المؤلف بالتأثير، فتستحوذ على إعجاب المتلقي، وتتجه التقييمات بنظرة مسبّقة تُترجم بالمديح والتجامل والثناء، حتى من أولئك الذين يدعون مسؤوليتهم عن السوية الأدبية و عدم المهادنة حولها، وبنفس الوقت هناك معايرات لنصوص أدبية انطلقت من المعرفة الشخصية بالكاتب، سواء أكان من الأعلام المشهورين الملمعين إعلاميا وأدبيا، أو من الذميمين البسطاء المعتكفين عن الأضواء والمرهونين لأمزجتهم الشخصية وظروفهم المعتكرة، ونرى بعض النقودات تلج العوالم النفسية للكاتب لتسقطها على أدبه، سيما إذا كان الكتّاب ممن عرفوا بأنانيتهم أو نرجسيتهم أو غرورهم أو اعتواراتهم العقلية الأخرى، لنجد الناقد يبحث عنها بين السطور ليربطها بالأفكار والمعاني المندرجة في نصوصهم

 من الأدباء العالميين الشهيرين الإشكاليين الذين تركوا أثرا ثريا في المشهد الأدبي العالمي وانقسمت حوله الآراء، الكاتب الأمريكي (باوند عزرا 1885-1972) فهذا الكاتب الفذّ يعتبر من أميز الكتاب الأمريكيين، ومن أغرب كتّاب العالم في سلوكه وطباعه، انحاز بشكل مطلق للزعيم الإيطالي (موسوليني) إبان الحرب العالمية الثانية، ولقب بالكاتب الفاشي، وكان يذيع البيانات النارية ضد دول الحلفاء، وحوكم في بلده أمريكا بتهمة الخيانة، وتم حجره في مصح عقلي لمدة عشر سنوات، ومع ذلك لم يستطع النقاد والساسة أن ينزعوا عنه عبقريته وموهبته الفذة، ولا أن ينالوا من القيمة التقديرية العالية لإرثه الأدبي، سيما إن عرفنا أن (باوند) له دور وأفضال على أدباء عالميين كـ (جيمس جويس) و (تي أس إليوت) و (ارنست همنغواي)، كمرشد وناصح لهم،  كما فاز بجائزة (بوللنجن) الأمريكية الشهيرة عن مؤلفه الشعري (أناشيد ليزا)، فبالرغم من كل الاتهامات والأخطاء التي ارتكبها بنظرهم، لم يتمكنوا من تجاهل قيمته الأدبية المائزة، لتتنحى جانبا معتقداته وسلوكياته السياسية بعد أن أقصتها الثروة القيمية لرصيده الأدبي.

Image

أقام (باوند) في باريس في العشرينيات من القرن العشرين، وهناك التقى بأهم أدباء فرنسا وشارك معهم في تأسيس الحركة الدادائية ومن ثم السوريالية، وفي شقته الباريسية استقبل أدباء نجوما كـ (جان كوكوتو) و (أندريه بروتون) وكان ينفق على زواره ويكرمهم بسخاء باذخ، وأضحت شقته محجا للمتبطلين والمتعطشين للأدب، هناك تصطخب الجدالات الفكرية والثقافية، وهناك يُسكت كرمه زقزقة البطون الشرهة.

لعل صفة الكرم التي امتاز بها (باوند) جعلت منه شاعرا مختلفا ومبدعا سامقا، لأن الأديب الكريم يطير دون أن يخاف السقوط، تصبح قدرته على التهويم والمجازفة والاختراق أكثر، لا يأبه للحريق، ولا يخشى الصقيع، ليس لديه تطلعات مادية تشغله، ولا حسابات اقتصادية تقيده، تتجلى قدرته على الخلق بأقصى امكانياتها، يغامر دون خوف، لا يقلقه الغد ولا يأسى على أمسٍ تولّى، زاهدا بالبهارج والانشغالات الترفيّة، على عكس الأديب البخيل المنصاع إلى أوتاد تشده كلما حاول التحليق، وتظهر لديه معادلة الربح والخسران حتى في نتاجه الأدبي، وتتجلى هذه الصفة في الأجناس الشعرية أكثر من السردية، لما يحتاجه الشعر من تطيّر وجموح وانفلات وتعكير للقار وصدع للمألوف والجنوح إلى التوليد والخلق.

ويحضرنا الذكر للعديد من الأدباء الذين امتازوا بصفة الكرم، حيث تراصفت هذه الصفة مع نتاجاتهم الأدبية وتجلت بها، فالشاعر المصري الشهير (أحمد فؤاد نجم 1929-2013) الملقب بسفير الفقراء، والفائز بجائزة (كلاوس) وقيمتها مئة ألف يورو، تبرع بها لمشفى السرطان، وسحب رصيده الباقي من البنك، ووزعه على (المساكين والغلابة) في طريقه إلى البيت حتى وصل مفلسا. ولا شك أن (نجم) كان نجما بحق بما تركه من إرث شعري وهاج لن ينسى.

من الشعراء الكرماء الأيقونة الفلسطينية الباهرة (محمود درويش) فكان معروفا عنه حبه للبذخ والرغد وكرمه على أصدقائه وضيوفه، ويروى أنه كان يصطحب معه ثلة من رفاقه في أسفاره يعتاشون على نفقته، صحيح أن (درويش) كانت تموله منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، وصحيح أنه كان ينتقى مكرميه من أصدقاء وندماء ونساء، ولم يكن همّه البسطاء والمعدمين، لكنه أيضا حصل على العديد من الجوائز العالمية ذات القيمة الباهظة وصرفها على نفسه وصحبه، وصفة الكرم كانت متأصلة به بغض النظر عن مصبّها ومن يناله غيثها، فانعكست هذه المجازفات الباذخة بسخاء شعري وشم أشعاره بالسمو الجمالي الفائق.

Image

الشاعر (يوسف الخال 1917-1987) صاحب الصالون الأدبي الشهير في بيروت، عُرفَ ببيته المفتوح لعشاق الأدب وهواة الطعام، ويذكر الشاعر (محمد الماغوط) كيف كان يترك رواد الصالون لاهين بمعاركهم الأدبية وحواراتهم الفكرية، وينسل مع (شوقي أبي شقرا) إلى مطبخ الخال ليشبعا جوعا قديما راكسا في العقل قبل المعدة، وقد استضاف (الخال) الكثير من الأدباء في بيته، وساعد بعضهم ماديا، وإن لم يسطع وهجه الشعري كالمتوجين الكبار، لكنه عوضّ في سعيه للابتكار والتجديد وتأسيسه لمجلة شعر وتنظيره لقصيدة النثر التي ظهرت كمولود حديث مختلف ومخالف للأنساق الشعرية السائدة وقتها.

الأديب اليوناني الكبير (نيكوس كازانتزاكس 1883-1957) من يقرأ مذكراته الشهيرة (تقرير إلى غريكو) يعرف إلى أي مدى كان كريما وعازفا عن الثروة والشهرة، ولعل خلقه لشخصية (زوربا) وتماهيه معها يؤكد هذه النظرة، فقد حقن هذه الشخصية بكل الصفات العالية (الكرم – الشجاعة – الشهامة – النبل – الصدق) ولم يجعله (سوبرمانا) خارقا غير واقعي، بل اختلق صفاته من الإنسان العادي، فرسمه على طبيعته، يخيب ويعترف ويحب ويفشل ويسكر ويؤمن، فالكرم والشجاعة صنعا من (زوربا) شخصية مركبة ومختلفة فرضت حبها على قرائها دون استئذان، وهذا ما يجعلنا نستنتج أن من خلق هذه الشخصية المتفردة الكريمة كاتب كريم، سجل اسمه في قائمة الأدباء العالميين العمالقة.

Image
الأديب اليوناني الكبير (نيكوس كازانتزاكس 1883-1957)

قد تطول القائمة في استعراض أسماء الكتّاب الكرماء، ووصف حوادث كرمهم، وسيتبين لنا أن أكثرهم من الكتاب المجيدين الذين استطاعوا أن يسجلوا أسمائهم كعلامة فارقة في السيرة التاريخية للأدب، وأعرف أدباءً معاصرين وعلى علاقة شخصية بهم، اتصفوا بالكرم وانعكس هذا الكرم على نتاجاتهم المميزة والمختلفة والقيّمة.

ربما يشذ البعض عن القاعدة كطفرات استثنائية، فهناك قامات أدبية تألقت بنتاجاتها بالرغم مما عرف عنهم من البخل، كالشاعر (الحطيئة) والعالم اللغوي الكبير (أبو الأسود الدؤلي) وشاعر العرب الألمع (المتنبي) أهم أهرامات الشعر العربي، الذي وصف الشجاعة والفروسية والكرم بأجمل الشعر ولم يكن منهم بشيء، إن صفة الكرم لها تأثير نفسي سيكولوجي على الشخصية التي تمتلكها، ولأن الكرم شجاعة، والشجاعة لا تتوقف عند الكرِّ والفرِّ في المعارك، بل هي سلوك إنساني وموقف في الحياة ومن الحياة، تمنح صاحبه جرأة الإقدام والاعتزاز والإفصاح والمجاهرة والعطاء وتجاوز الخوف والرنو إلى الحياة برؤية متفائلة، فكيف إن اجتمعت هذه الصفات بأديب، تؤازرها موهبة إبداعية وخميرة معرفية، فلا شك أنه لن يرضى بأن يكون مجرد رقم فائض في الذكر الأدبي، بل ستتملكه الرغبة الجامحة لأن يتجاوز المألوف ويفرغ هذه الحمولة الكامنة في أعماقه ليجعلنا نقول ما هذا.

 

 
 

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...