ألكسي تولستوي في الذكرى الـ140 لميلاده

17-01-2023

ألكسي تولستوي في الذكرى الـ140 لميلاده

 سامي عمارة: 
 
ألكسي تولستوي روائي وقاص ومسرحي روسي سوفياتي ينتمي بصلة قرابة جمعته مع الأديب العالمي ليف تولستوي صاحب الأعمال الأكثر ذيوعاً والأوسع انتشاراً، ومنها "الحرب والسلام" و"أنا كارينينا". غير أن هذه القرابة لم تكن يوماً من أسباب ما نال من شهرة ومكانة بين أترابه من جيل أدباء ذلك الزمان، بقدر ما كان ذلك يعود لسيرته ومسيرته المثيرتين للجدل.

فأديبنا ألكسي تولستوي ولد عن أب ينتمي إلى طبقة نبلاء ذلك الجيل وأم عرف عنها ميلها إلى الفنون والآداب، وكان تولستوي جمع بين هواية الخيال العلمي واستلهام التاريخ موضوعاً لعدد من أعماله الأدبية، فضلاً عما شاب مسيرته في مراحل لاحقة من توجه صوب النشاط الاجتماعي السياسي بعد أن تحول من العداء المفرط لثورة أكتوبر (تشرين الأول) الاشتراكية عام 1917، إلى التأييد المطلق لسياسات وممارسات الزعيم السوفياتي ستالين.

وفي هذا الصدد يذكر نقاده ومعاصروه ما أبدعه من مواضيع الخيال العلمي ومنها رواية "إيليتا" التي تناول بين طياتها تفاصيل رحلة إلى كوكب المريخ، وجرى وضعها في وقت لاحق أساساً لأحد أشهر أفلام الخيال العلمي عام 1924.

ومن المواضيع التاريخية نتوقف عند ثلاثية "بطرس الأول" التي ثمة من وصفها بقمة إبداعاته بما حفلت به من تفاصيل فنية جمعت بين السرد التاريخي لأحداث ذلك الزمان، وما تضمنته من سيرة ذاتية لبطرس الأول من جانب، ولنشاطه الإصلاحي وصراعه مع خصومه في الداخل والخارج من جانب آخر، مع استعراض لمعتقداته ورؤاه تجاه واقع وأحداث العصر، وذلك ما وضعه في دائرة الاتهام بتبني منهج "إسقاطات العصر" على الماضي، وهو ما رفضه على اعتبار أنه "منهج كاذب تاريخياً وفنياً".

وكان تولستوي بدأ كتابة الجزء الأول من هذه الرواية عام 1929، وتوفي قبل أن ينتهي من كتابة جزئها الثالث عام 1945.

وجاءت هذه الرواية بعد ثلاثية "درب الآلام" التي استعرض من خلالها دقائق حياة المجتمع الروسي وما عاشه مواطنو تلك الحقبة التاريخية من أحداث وتطورات إبان سنوات الحرب العالمية الأولى، مروراً بالثورة البلشفية عام 1917، وما أعقبها من "حرب أهلية" ومواجهات عسكرية بين الجيشين الأحمر والأبيض، وقد صدرت هذه الثلاثية تحت عناوين "الشقيقتان" و"1918" و"صباح غائم".

الكتابة للأطفال

ولم يغفل الروائي والقاص الروسي السوفياتي الكتابة للأطفال التي كانت قمتها الإبداعية في قصته "طفولة نيكيتا" التي نشرها عام 1922، وهي التي اعتبرها كثيرون بمثابة "سيرة ذاتية" تحدث فيها تولستوي عن حياته في منزل زوج الأم، وأصبحت والدة الكاتب نفسه نموذجاً أدبياً لوالدة البطل، بل وتم الاحتفاظ أيضاً بالأسماء الأصلية للمعلم أركادي إيفانوفيتش وصديق الطفولة للمؤلف ميشكا كورياشونوك.

ومن روائع كتابات تولستوي في هذا المجال أيضاً قصة "مغامرات بوراتينو" أو "المفتاح الذهبي" التي كتبها عام 1936، وذاع صيتها وانتشرت على نطاق هائل، بما أصبحت معه شخصية البطل بوراتينو إحدى الشخصيات الأكثر شهرة في المجتمع السوفياتي.

ومن نافلة القول ما تردد آنذاك حول أن تولستوي اقتبس فكرة هذه القصة عن حكاية إيطالية كانت تحمل اسم "بينو كيو"، ولعله من الطريف في هذا الصدد أن نشير إلى أن الكاتبة الروسية المعاصرة تاتيانا تولستوي (تولستايا اللقب المؤنث) هي ابنة نيكيتا تولستوي الابن الأكبر لألكسي تولستوي الذي أخذ اسمه عن بطل قصته "طفولة نيكيتا".

ويسجل التاريخ أيضاً للروائي والقاص تولستوي تجاربه في نظم الشعر الذي بدأه ولم يكن تجاوز الـ 16 من العمر، ويقول النقاد إنه تأثر في أولى تجاربه الإبداعية بكتابات الشعراء الرمزيين، وتجلى ذلك في أول أعماله التي نشرها عام 1907 وهو ديوان "غنائيات" الذي نشره على نفقته الخاصة عام 1907، أما ديوانه الثاني والأخير "ما وراء الأنهار الزرقاء" الذي نشره عام 1911، فاقتبس كثيراً من أفكاره من إيحاءات الفولكلور الروسي واتسم بامتزاج الرمزية مع الواقعية.

ويقول تولستوي إنه تأثر بأشعار نيكولاي نكراسوف، لكنه شعر بالخجل لاحقاً من هذه التجارب الباكرة التي قال إنها "كانت تقليداً غير لائق، ويفضل عدم تذكرها على الإطلاق".

ومن اللافت في سيرة هذا الأديب المثير للجدل أن كثيراً من مشاهد صباه وطفولته حددت ملامح خطواته اللاحقة، وما حفلت به سيرة حياته من طرائف ومفارقات. وكان ألكسي تولستوي ولد في مدينة نيكولايفسك في مقاطعة ساراتوف جنوب روسيا عن أب من كبار ملاك الأراضي هو نيكولاي تولستوي أحد نبلاء ذلك الزمان، وأم تنتمي بصلة قرابة مع الأديب المعروف إيفان تورغينيف، وكانت أديبة موهوبة تكتب قصص الأطفال، وهو ما أسهم في تنمية مواهب الابن وحبه للإبداع الأدبي منذ نعومة أظفاره.

وتقول المصادر إن الأم انفصلت عن أبيه ولم يكن ولد بعد، ومن هنا كان ظهوره مثار جدل حول حقيقة الأصل والنسب، "ليعيش طفولته الباكرة في ضيعة يملكها زوج أمه النبيل ألكسي بوستروم، وليتلقى تعليمه الابتدائي في المنزل بتوجيه من مدرس زائر، وتلك فترة حرص ألكسي تولستوي على تسجيل بعض ما علق منها في الذاكرة من انطباعات ومشاهد.

يقول تولستوي "إذا نظرنا إلى الوراء فأعتقد أن الحاجة إلى الإبداع تحددت من خلال عزلة طفولتي، لقد نشأت وحدي في التأمل وفي الانحلال بين الظواهر العظيمة للأرض والسماء، برق يوليو فوق الحديقة المظلمة، ضباب الخريف مثل الحليب، غصين جاف ينزلق تحت الريح على الجليد الأول من البركة".

حياته

ونعود لسيرته الذاتية لنشير إلى أن الأسرة انتقلت عام 1897 إلى مدينة سمارا حيث أنهى تولستوي دراسته الثانوية عام 1901، وانتسب إلى معهد العلوم التقنية في بطرسبورغ وتخرج فيه مهندساً عام 1907.

ويقول تولستوي إنه مع بداية سنوات الحرب العالمية الأولى جرى إعفاؤه من الخدمة العسكرية لأسباب صحية، لكنه أوفد إلى الجبهة مراسلاً حربياً لصحيفة "روسكيه فيدوموستي"، وليزور بهذه الصفة عام 1916 كلاً من إنجلترا وفرنسا، وليجد الوقت ليكتب عدداً من القصص والمسرحيات والمقالات ذات الصبغة العسكرية.

وتقول الأدبيات الروسية إن إلكسي تولستوي انحاز عند قيام ثورة أكتوبر عام 1917 إلى صفوف معارضيها، وفي يوليو 1918 انتقل إلى أوديسا ومنها إلى القسطنطينية ثم إلى باريس ليستقر أخيراً في برلين.

وفي رسالة إلى إيفان بونين الكاتب الروسي المعروف كتب يقول حول مغادرته أوديسا، "كانت الساعة صعبة، لكن بعد ذلك كان الأمر كما لو أن الريح حملتنا وسرعان ما عدنا إلى حالنا الطبيعية، على متن السفينة نمنا مع الأطفال في مخبأ رطب متأثرين بمن جاورونا من مرضى التيفويد، وزحف القمل فوقنا، وأقمنا شهرين بجزيرة كلاب في بحر مرمرة. كان المكان جميلاً لكننا لم نكن نملك المال".

لم يحب تولستوي باريس أو برلين، وكان هاجر عام 1919 إلى باريس وانتقل منها خريف 1921 إلى برلين حيث التقى في ربيع 1922 ماكسيم غوركي وارتبط معه بعلاقة صداقة لم تستمر طويلاً، وتواصل مع إيفان بونين الأديب الروسي ذائع الصيت، وأول الأدباء الروس الذين فازوا في وقت لاحق بجائزة نوبل للآداب، وهو ما أشارت إليه "اندبندنت عربية" في تقرير سابق من موسكو.

ولطالما كتب تولستوي حول رحلاته إلى الوطن وما علق بالذاكرة من مشاعر المعاناة والشكوى من شظف الحياة وصعوبتها في خاركوف، ومع ذلك فقد قرر في وقت لاحق التخلي عن حياة المهجر والطلاق مع الماضي بعد أن دبّ الشقاق بينه وبين كثير من المهاجرين الروس في أوروبا الغربية، وتغيرت نظرته إلى الثورة البلشفية ليعود مع أسرته إلى الوطن عام 1923، ويغدو من غلاة المتشددين المؤيدين للاتحاد السوفياتي الجديد، وفيه أقام علاقات مميزة مع السلطات السوفياتية وأصبح نائباً بمجلس السوفيات الأعلى وعضواً في أكاديمية العلوم، وأطلقوا عليه لقب "الكونت الأحمر" كونه نبيلاً بالولادة على رغم عدم تبنيه أية أيديولوجية ثورية.

ولعل ذلك كان تفسيراً ليس فقط لنجاته من كل أشكال القمع والملاحقة، بل ولما صار يتمتع به من مواقع وحيثيات في ذلك المجتمع، وأصبح أحد الكتاب المفضلين للزعيم السوفياتي ستالين.

على أن ذلك لم يستمر طويلاً، وها هو ألكسندر فادييف الذي كان سكرتيراً لاتحاد الأدباء السوفيات يذكر أنه في شتاء عام 1945 اتصل به ستالين وقال "أنت الرفيق فاديف رئيس اتحاد الكتاب، ومع ذلك لا تلاحظ وجود جواسيس دوليين كبار يجلسون إلى جوارك"، وأشار إلى عدد من أسماء الكتاب ومنهم بيوتر بافلينكو وإيليا إهرينبورغ ثم أضاف، "ألا تعلم أن ألكسي تولستوي جاسوس إنجليزي؟"، وتلك كانت إشارة صوب مصير قاتل لم ينقذه منه سوى وفاته الباكرة.

على أن هناك من يقول أيضاً إن رأي ستالين في تولستوي لم يكن على الدرجة نفسها من القسوة التي اتسم بها حديثه عنه، إذ جرى منحه "جائزة ستالين" بعد وفاته وحظي اسمه بكثير من التقدير والتبجيل في الأوساط الروسية الأدبية التي احتفلت بالذكرى الـ 140 لميلاده في الـ 10 من يناير (كانون الثاني).


اندبندنت عربية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...