ميشال أونفراي وخطاب الهذيان

04-10-2022

ميشال أونفراي وخطاب الهذيان

علي حرب:

مقولة مفخّخة

أجرت مجلة العالَمَيْن (Revue des deux mondes)، عدد أكتوبر 2021م، حوارًا مع الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي، تحت عنوان «مقاومة الهذيان». في هذا الحوار يشن أونفراي هجومًا عنيفًا على الفلاسفة الذين صنفوا تحت خانة المدرسة البنيوية، كفوكو ودولوز ودريدا وبارت وليفي ستراوس… وملخص ما يتّهمهم به قوله عن البنيوية: إنها ليست سوى هذيان عدمي يذكّر بالثرثرات اللفظية للفلسفة المدرسية في العصور الوسطى. وكان المفكر الأميركي نعوم تشومسكي قد سبقه إلى مثل هذا الرأي، بقوله عن فلسفة ما بعد الحداثة: إنها مجرد ثرثرة لمثقفين يجلسون على مقاهي باريس.

وحجّة أونفراي أن أصحاب المدرسة البنيوية أرادوا قلب القيم بتمجيد المرضى والمجانين، وإعادة الاعتبار لهم، فلم يكن بإمكانهم أن يكتبوا عنهم إلا باستخدام لغتهم. ولم يكن ينقص أونفراي سوى القول: لا يعرف المجنون أو المنحرف إلا من كان مجنونًا أو منحرفًا.

بهذا يطلق أونفراي مقولة مفخّخة ترتد ضده، من حيث لا يحتسب؛ لأنه إذا كان الواحد لا يحسن الحديث عن الانحراف والجنون، إلا باستعارة لغة أهلهما، كما يحكم أونفراي على فوكو وعلى نظرائه؛ أو إلا إذا كان هو نفسه منحرفًا أو مجنونًا، فالمنطق يقضي بأنه لا يحسن الحديث عن الهذيان إلا من كان يهذي.

قتل الآباء

اعتاد أونفراي على تفجير قنابل نقدية، تحت مسمى تحطيم الأصنام، هي من قبيل قتل الآباء من أعلام الفلسفة والعلم، نظير نقده لسارتر وفرويد. ولكن مقولة التحطيم لا تضيف شيئًا له قيمته ووزنه إلى رصيد المعرفة. ولا أعتقد أن أونفراي أتى، بنقده، بالجديد المبتكر وغير المسبوق، مقارنةً بالأعمال التي تركها فلاسفة ما بعد الحداثة، التي خلقت مجالها التداولي على ساحة الفكر العالمي، بقدر ما تجدد معها عالم الفكر واتسع، إن من حيث الحقل والطريقة أو من حيث النمط والعدّة. هذا ما تشهد به المصطلحات التي ابتكروها، مثل الحفر المعرفي، الوقائع الخطابية، التفكيك، الإرجاء، غير المُفكَّر فيه، المكنة الراغبة، موت الإنسان.

سياسة الحقيقة

أتوقف، في مثال أول، عند ميشال فوكو، لأقول: إن نقده للعقل لا يعدّ تراجعًا عن عقلانية عصر الأنوار، كما يحسب ديناصورات الحداثة وبطاركة العقلانية، وإنما كان محاولة لتسليط الضوء على مأزق المشروع الحداثي التنويري، باقتحام مناطق للوجود، مؤسسات وممارسات أو سلطات، كانت مهملة أو مستبعدة أو مرذولة من حقل الدرس: كالجنون، والمرض، والسجن، والجنس، فضلًا عن الطبقات الدنيا التي تعيش على هامش المجتمع أو في قعره.

وكان سبيله إلى ذلك اجتراح طريقة جديدة في التفكير، انكسر معها تقليد فلسفي راسخ يتعامل مع المعرفة كنتاج صافٍ وشفّاف للوعي والفكر. بذلك عاد فوكو إلى الأرشيف، أي إلى الخطابات التي ينتجها البشر ويتداولونها، من غير تهويم أيديولوجي أو تشبيح مثالي أو قطع يقيني ثبوتي.
من هنا اشتغاله على النصوص بالحفر في طبقاتها وتفكيك أبنيتها أو بفضح بداهاتها وكشف طياتها، لتبيان ما تمارسه الذات المفكرة فيما تفكر فيه من وجوه الصمت والجهل والنسيان، أو ما يتستّر عليه العقل فيما يعقله من وجوه الحمق والشطط والجنون. وهكذا ففي كل ما نفكر فيه جانبٌ معتم يخرج عن سيطرة العقل وقبضة المنطق. هذا المنحى في التفكير تمّ التعبير عنه بصوغ مقولة غير المُفكَّر فيه. ومعها نتجاوز ثنائية العقل واللاعقل أو الصح والخطأ، نحو ثنائية أخرى بصيغها المختلفة: المطروح والمستبعد، المنطوق به والمسكوت عنه، الواضح والملتبس. وإذا شئت استخدام صيغتي بوسعي القول: ثنائية الممنوع والممتنع، أو المفهوم والمستعصي على الفهم. نحن إزاء منطقة خصبة لعمل الفكر، أفضى إخراجها إلى دائرة الضوء، إلى تغيير مفهومنا للعقل ونظرتنا إلى الذات وعلاقتنا بالحقيقة.

لم يعد نقد العقل مجرد معرفة بشروط الإمكان، لأن خطاب العقل المتعالي والمحض يتناسى دومًا شروط إمكانه في الجسد والرغبة أو في اللغة والتجربة. من هنا أصبح نقد العقل محاولة لخرق الشروط المسبقة وتجاوز الحدود المرسومة، وعلى نحو يتسع معه الإمكان الوجودي، بابتكار الجديد وغير المسبوق من مبادئ التنصيف ومعايير التقييم أو من أطر النظر وقواعد العمل.

ولم تعد الحقيقة مجرد قبض على الماهيات الثابتة بعقل محض، أو مجرد تصحيح وتراكم للمعارف، وإنما أصبحت ثمرة ممارسات وإجراءات وتدابير فكرية وخطابية أو معرفية وتقنية أو مجتمعية وسياسية. من هنا مقولة فوكو حول سياسة الحقيقة. ومعنى القول: إن الحقيقة ليست ما نقبض عليه، بل ما نقدر على خلقه واختراعه أو فعله وإنجازه، في هذا المجال أو ذاك. وإذا شئت إعادة صياغة المقولة، بلغتي ومفرداتي، بوسعي القول، فيما يخص علاقتنا بالحقيقة، بأنها ذات طابع لوجستي عملاني، أكثر مما هي ذات طابع منطقي نظري، من هنا أتعامل معها بمفردات القراءة والرهان أو اللعب والإستراتيجية أو الخلق والتحويل أو الصرف والتداول.

كذلك، لم تعد الذات مجرد جوهر فكري مساوٍ لنفسه وخالٍ من الأهواء والوساوس. من هنا مقولة فوكو حول موت الإنسان، ومفادها كسر الذات السيدة المتعالية التي تملك زمامها وتُحكم سيطرتها على الأشياء. وهو الأمر الذي يحملنا على ممارسة التواضع للإقرار بهشاشتنا وازدواجيتنا.

لعبة المعنى

أتوقف في مثال ثانٍ عند مصطلح التفكيك لجاك دريدا. ومع أن أول من استخدم المفردة هو الفيلسوف مارتن هيدغر، فإنها تحولت مع دريدا إلى مفهوم خارق أو إلى إستراتيجية فعالة، تقوم على قواعد عدة: الأولى هي إعطاء الأولوية للنص على المعنى. من هنا قوله: لا وجود إلا للنص. ذلك أن النص، كتشكيل خطابي، هو ما في المتناول، وما هو قابل للتداول. أما المعاني والأفكار والفلسفات، حتى العقول، فلا وجود لها من دون الخطابات التي هي مادتها وأرضها أو مبناها وأبجديتها. القاعدة الثانية ومفادها ألا تطابق بين النص والمعنى أو بين الخطاب والواقع أو بين اللغة والفكر. ثمة هوة لا تردم، بين المفهوم والمنطوق، أو بين المكتوب والموجود. نحن إزاء مستويات أربعة لكل منها حقيقته ونصابه، ولكل فاعليته وأثره. ولا يمكن لأحدها أن يتطابق مع الآخر أو يختزله ويحل محله.

الثالثة هي أن النص يتعدى أطروحته كما يتجاوز مؤلفه؛ إذ هو محجوباته ومنسياته بقدر ما هو صمته وفراغاته، وهو آلياته وإجراءاته بقدر ما هو سلطته وألاعيبه. ولذا فهو ليس مجرد مرآة تعكس الواقع أو أداة تنقل وتوصل، وإنما هو يشكل حقلًا للقراءة وإمكانًا للتفكير، بقدر ما يستعصي على الحصر والتصنيف بتعدده والتباسه، باشتباهه وتعارضاته.

الرابعة هي أن المعرفة ليست مجرد تطابق يتم في عقل محض أو متعالٍ، بين الرؤية والعبارة، أو بين الكلمة والشيء، وإنما هي قراءة للواقع والمجريات. والقراءة، بما هي اشتغال على اللغة بشيفراتها ومجازاتها واستعاراتها ولعبها، إنما هي عملية معقدة ومتشعبة، مواربة ولولبية، بها نخرج على الدلالة، بالزحزحة والإحالة والتدوير، من دال إلى دال أو من مدلول إلى مدلول، وهو ما يجعل الكلام على الشيء عبارة عن سلسلة من الإحالات لا تتوقف أو شبكة من التحويلات لا نهاية لها وتلك هي لعبة المعنى. ويبلغ اللعب ذروته عند دريدا، بتجاوز المستوى الدلالي، إلى المستوى الصرفي، بتغيير بنية الكلمة، نظير استخدامه كلمة (Differance) محل كلمة (Difference) للتعبير عن معنى الإرجاء، أو إحلاله محل كلمة غير ممكن (impossible) كلمة (im-possible)، بحيث يصبح المعنى فتح الإمكان لا امتناعه.

هذا ما كشفه تفكيك النصوص سواء لدى فوكو أو دريدا: لا نص يقبض على الواقع، كما لا قراءة تقبض على معنى النص، تمامًا كما لا شيء يُقال بصورة نهائية. إنها استحالة البت والقطع، وهو ما يجعل المعرفة بالشيء إعادة تعريف له. هذه الاستحالة عبّر عنها دريدا بصوغ مفهوم الإرجاء. نحن إزاء انقلاب، سواء على مستوى المنهج أو المفهوم، تغيرت معه قواعد اللعب وخريطة الفكر وجغرافية المعنى.

المفهوم وإشكاليته

أتوقف عند نموذج آخر يمثله جيل دولوز، الذي أعاد النظر في كثير من الثوابت الفلسفية، وأخصها بالذكر، أداة الفهم والتشخيص، أعني مصطلح المفهوم نفسه. فما كنا نحسبه المفهوم عندما نتداول اللفظة لم يعد كذلك، أي ليس هو من قبيل الكلي والواحد والمتعالي والأصل والمركز، وإنما هو شيء يتصف بالكثافة والحدة، بالمحايثة والمباطنة، بالذبذبة والزحزحة، بالالتفاف والدوران، بالارتحال والانتشار.

من هنا فالمفهوم لا يقوم بذاته أو يتماهى مع ذاته، وإنما هو علاقته الملتبسة بمكوناته اللامفهومة، بقدر ما هو علاقته بأرضه وشروطه وشخوصه، كما تتجسد في الصعيد الذي يستوطنه المفهوم، أو في الوسط الذي يتحرك فيه، أو في البيئة التي تتيح انتشاره وتجدده، أو في الشخص الذي يتيح اشتغاله. والشخص ليس هو الذي ينطق باسم الفيلسوف، بل الذي يجعل الكلام أمرًا ممكنًا، نظير سقراط لدى أفلاطون. بذلك يقلب دولوز النظرة ويغير قواعد اللعبة، بقدرة ما يغلب في قراءته لمصطلح المفهوم البُعد الجغرافي والجيولوجي التزامني، على البعد الأصولي والتاريخي، التعاقبي والسلالي.

هناك دومًا فيما يقال جانبٌ محجوب أو مستبعد أو غير مُفكَّر فيه ولا مُدرَك. وهكذا فما ينفيه الخطاب من وجه يقع فيه من وجه آخر. ولكن ذلك لا يحملنا على نفي ما أنجزه دولوز، بل يحثنا على المراجعة النقدية لإعادة التفكير والفهم. وهذا شأن المكنة الراغبة لدى دولوز. إنها ليست مجرد هذيان، بل هي مفهوم أعاد الأمور إلى نصابها، ليقول: إن الإنسان هو ذات راغبة بالدرجة الأولى، وقبل أن يكون ذاتًا مفكرة، وهذا ما يفسر كيف أن كبار المفكرين يصلون إلى عكس ما فكروا فيه أو إلى خلاف ما سعوا إليه.

ومبنى القول أن الأصل لدى الإنسان ليس العقل أو المساواة أو الحرية، ولا التضامن أو السلام. وإنما هو الهوى والتعصب أو الانفراد والاستئثار أو الطمع والتكالب أو العداء والحروب.

وإلا كيف نفسر كل هذه الانهيارات والتراجعات فيما يخص عناوين المشروع الحداثي التنويري؟! بكلام آخر، إن الكلام على الذات كآلة راغبة، بعد قرون من الكلام على الأنا المتعالي، إنما يعني أن الرغبات هي أقوى من العقائد والفلسفات أو من الدعوات والرسالات.

كيف نفسر كل هذه النزاعات والصدمات بعد كل هذه الأطوار الحضارية والمكاسب المدنية؟! إنه تنافر الأهواء والرغبات والمصالح، الذي يولد صدام الأصوليات واصطراع الإمبرياليات.

خلاصة القول: ما تركه أعلام الموجة الحداثية الجديدة، هي أعمال باقية؛ لأنها تختزن إمكانياتها وتنفتح على احتمالاتها. وهي بوصفها كذلك تحضنا على إعادة التفكير فيما كنا نفكر فيه أو به، لكي نجدد عالم الفكر بوجه من وجوهه، بحيث نقرأ في العمل الفلسفي، ما لم يُقرأ، فلا نتماهى معه حتى لا نستعيده على سبيل الاختزال أو التشويه، ولا ننفيه حتى لا نشهد على سذاجتنا وجهلنا. ما ينتظر هو أن نقرأ الآثار الفكرية قراءة حية، خلاقة، راهنة تجدد المعرفة بها وبالمعرفة العامة. من غير ذلك نعود إلى الوراء، لممارسة النقد العقيم، تحت عناوين الهذيان والجنون أو الثرثرة.

والأطرف هم أولئك المثقفون العرب، الذين يحدثوننا عن «التقليعة» الفكرية، فيما يخص «ما بعد الحداثة»، بعد أن قضوا الشطر الأكبر من حياتهم المهنية وهم يرفعون راية الماركسية، ولكن ليحصدوا الفشل والإخفاق والعقم؛ إذ هم عجزوا عن إضافة حرف واحد، سواء إلى الماركسية أو إلى الفلسفة وعلوم الإنسان.

أختم بالقول: إن الواقع هو أكثر التباسًا وتعقيدًا وتقلبًا مما نحسب، كما أن الذات هي مفارقاتها وهشاشتها وربما فضائحها، وما بوسعنا القيام به هو وضع خطاباتنا ومشروعاتنا وتجاربنا وصنائعنا، على محك النقد، لاجتراح أنماط أو أشكال أو صيغ جديدة، ومختلفة، من العقلنة أو المعقولية، تكون أكثر مرونة ووسعًا وأكثر تركيبًا وفاعلية.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...