كيف بدأت اللغة؟

19-01-2022

كيف بدأت اللغة؟

Image
كيف بدأت اللغة

– ماذا يعني السؤال؟

عند السؤال عن أصول اللغة البشرية، علينا أولًا أن نوضِّح ماهية السؤال. السؤال ليس كيف تطورت اللغات تدريجيًا بمرور الوقت إلى لغات العالم التي نراها اليوم؟ بل بالأحرى، كيف تطور الجنس البشري بمرور الوقت حتى أصبح البشر – وليس أقرب أقربائنا، الشمبانزي والبونوبو – قادرين على استخدام اللغة؟

 
ويا له من تطورٍ مذهل! لا يوجد نظام اتصال طبيعي آخر يشبه لغة الإنسان. يمكن للغة البشرية أن تعبِّر عن الأفكار حول عدد غير محدود من الموضوعات (الطقس، الحرب، الماضي، المستقبل، الرياضيات، القيل والقال، الأساطير، كيفية إصلاح البالوعات …). يمكن استخدام هذا النظام، ليس فقط لنقل المعلومات، ولكن لطلب المعلومات (الأسئلة)، وإعطاء الأوامر، وعلى عكس أي نظام اتصال حيواني آخر، فإن لغة البشر تنطوي على أسلوبٍ للنفي (النفي هو ميزة كل لغة بشرية، وهو غائب عن أنظمة التواصل الحيوانية المعقدة الأخرى. النفى هو الذي يجعلنا بشرًا، فهو يمنحنا القدرة على الوقوع في التناقض والكذب وإنكار الحقائق … لن تجد أبدًا قردًا يكذب أو فيلًا ينكر حقيقة). كل لغة بشرية لديها مفردات من عشرات الآلاف من الكلمات، وهذه الكلمات لها عشرات الأصوات المختلفة (أصوات الكلام)، يمكن للمتحدثين بناء عدد غير محدود من العبارات والجمل من الكلمات، بالإضافة إلى مجموعة صغيرة من البادئات واللواحق، ويتم بناء معان الجمل من معان الكلمات الفرديَّة. الأمر الأكثر أهمية هو أن كل طفل عادي يتعلَّم نظام التواصل بأكمله من سماع الآخرين لاستخدامه.

على النقيض من ذلك، عادةً ما تحتوي أنظمة الاتصال الحيواني على بضع عشرات من الاتصالات المميزة على الأكثر، ويتم استخدامها فقط للإبلاغ عن القضايا العاجلة؛ مثل الطعام أو الخطر أو التهديد أو التصالح. العديد من أنواع المعان التي تنقلها اتصالات الشمبانزي لها نظائر في ”لغة الجسد“ البشرية. بالنسبة للحيوانات التي تستخدم مزيج من الاتصالات (مثل بعض الطيور المُغرِّدة وبعض الحيتان)، فإن معاني الأمزجة لا تتكوَّن من معانٍ الأجزاء التي تكوِّن المزيج (على الرغم من وجود العديد من الأنواع التي لم تتم دراستها بعد)، ومحاولات تعليم القردة بعض نسخ اللغة البشرية، رغم كونها محاولات رائعة، لم تسفر إلا عن نتائج ابتدائية، لذا فإن خصائص لغة البشر فريدة من نوعها في العالم الطبيعي.

كيف وصلنا من هناك إلى هنا؟ تحتوي جميع اللغات الحالية، بما في ذلك اللغة الخاصة بأسلافنا الصيادون-الجامعون، على الكثير من الكلمات، ويمكن استخدامها للتحدُّث عن أي شيءٍ تحت الشمس، ويمكنها التعبير عن النفي. بقدر ما كتبنا من سجلات للغة البشرية – 5000 سنة أو نحو ذلك – تبدو الأشياء في الأساس كما هي. تتغيَّر اللغات تدريجيًا بمرور الوقت، أحيانًا بسبب التغيُّرات في الثقافة والموضة، وأحيانًا كاستجابة للتواصُل مع لغاتٍ أخرى، لكن الهندسة الأساسية والقوة التعبيرية للغة تظل كما هي.

السؤال إذن هو: كيف بدأت خصائص اللغة البشرية؟ من الواضح أنه لم يُقرِّر مجموعة من رجال الكهوف الجلوس وتكوين لغة، لأنه من أجل القيام بذلك، يجب أن يكون لديهم لغة للبدء بها (لغة يتفقون من خلالها أنهم سيجلسون ويصنعون لغة)! حدسيًّا، يمكن للمرء أن يتكهَّن بأن أسلاف الإنسان بدأوا من خلال الشخير أو الصياح أو الصراخ، ”وتدريجيًا“ تطوَّر هذا ”بطريقةٍ ما“ إلى نوعٍ من اللغة التي نملكها اليوم. (كانت مثل هذه التكهنات متفشية للغاية قبل 150 عامًا لدرجة أن الأكاديمية الفرنسية في عام 1866 حظرت الأوراق الخاصة بأصول اللغة!). تكمن المشكلة في ”بشكلٍ تدريجي“ و ”بطريقةٍ ما“. الشمبانزي ينخر ويصيح ويصرخ أيضًا. ماذا حدث للبشر في ستة ملايينٍ سنة أو نحو ذلك منذ انفصال سلالات البشر والشمبانزي؟ ومتى وكيف بدأ التواصُل البشري في الحصول على خصائص اللغة الحديثة؟


بالطبع، هناك العديد من الخصائص الأخرى إلى جانب اللغات والتي تميز البشر عن الشمبانزي: الأطراف السُّفليَّة مناسبة للمشي والجري في وضع مستقيم، أصابع إبهام قابلة للمعارضة، نقص شعر الجسم، العضلات الضعيفة، والأسنان الأصغر – والأدمغة الأكبر. وفقًا للتفكير الحالي، لم تكن التغييرات الحاسمة التي أدت إلي تطور اللغة قاصرة على حجم الدماغ فقط، ولكن في طبيعة اللغات ذاتها: أنواع المهام التي تطورت اللغة كي تكون مناسبة للقيام بها، لذا فإن مسألة أصل اللغة تعتمد على الاختلافات بين أدمغة الإنسان والشمبانزي. متى ظهرت هذه الاختلافات، وتحت أي ضغوطٍ تطوريَّة؟

– ما الذي نبحث عنه؟

تكمن الصعوبة الأساسية في دراسة تطور اللغات في أن الأدلة قليلة جدًا. لا تترك اللغات المنطوقة أحافيرًا، ولا تخبرنا الجماجم المتحفرة إلا بالشكل العام وحجم أدمغة أسلاف البشر، وليس ما يمكن أن تفعله هذه الأدمغة. الدليل القاطع الوحيد الذي نملكه هو شكل المسالك الصوتية (الفم واللسان والحلق): حتى الإنسان الحديث تشريحيًا، منذ حوالي 100000 عام، لم يكن شكل المسالك الصوتية البشرية يسمح بالمجموعة الحديثة من أصوات الكلام، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن اللغة بدأت في ذلك الوقت. كان من الممكن أن يكون لدى البشر الأقدم نوعًا من اللغة التي تستخدم نطاقًا أكثر تقييدًا من الحروف الساكنة والحروف المتحركة، وقد يكون للتغيُّرات في المسلك الصوتي تأثيرًا في جعل الكلام أسرع وأكثر تعبيرًا، حتى أن بعض الباحثين يقترحون أن اللغة بدأت كلغة إشارة، ثُمَّ تحولت (تدريجيًا أو فجأة) إلى الأسلوب الصوتي، تاركين الإيماءات الحديثة كبقايا تطوريَّة.

تخضع هذه القضايا والعديد من القضايا الأخرى لتحقيق نشط بين العلماء اللغويين وعلماء النفس وعلماء الأحياء. أحد الأسئلة المهمة هو: الدرجة التي توجد بها سلائف القدرة اللغوية البشرية في الحيوانات. على سبيل المثال، ما مدى تشابه أنظمة تفكير القردة مع أنظمة تفكيرنا؟ هل تتضمن أشياءًا قد يجد أسلاف البشر أنه من المفيد التعبير عنها لبعضهم البعض؟ هناك بالفعل بعض الإجماع على أن القدرات المكانية للقرود (القدرة على فهم وتذكُّر العَلاقات المكانية بين الأشياء)، وقدرتهم على التفاوض داخل عالمهم الاجتماعي، توفر الأسس التي يمكن أن يُبنى عليها نظام المفاهيم البشري.

سؤال ذو صلة هو: ما هي جوانب اللغة التي تنفرد بها ، وما هي الجوانب التي تعتمد فقط على القدرات البشرية الأخرى غير المشتركة مع بقية الرئيسيات؟ هذه القضية مثيرة للجدل بشكلٍ خاص. يدَّعي بعض الباحثين أن كل شيء في اللغة مبني على قدرات بشرية أخرى: القدرة على التقليد الصوتي، والقدرة على حفظ كميات هائلة من المعلومات (كلاهما ضروري لتعلُّم الكلمات)، والرغبة في التواصُل، وفهم نوايا الآخرين ومعتقداتهم، والقدرة على التعاون. يبدو أن البحث الحالي يُظهر أن هذه القدرات البشرية غائبة أو أقل تطورًا في القردة. يعترف باحثون آخرون بأهمية هذه العوامل، لكنهم يجادلون بأن أدمغة البشر تتطلَّب تغيُّرات إضافية تُكيِّفها خصيصًا للغة.

 
– هل تطوَّرت اللغة فجأة، أم بالتدريج على مراحل؟


كيف حدثت هذه التغيُّرات؟ يزعم بعض الباحثين أن هذه التغيُّرات جاءت في قفزةٍ واحدة، من خلال طفرة واحدة خلقت النظام الكامل في الدماغ، والذي يُعبِّر من خلاله البشر عن معانٍ مُعقَّدة من خلال مزيج من الأصوات. يميل هؤلاء الأشخاص أيضًا إلى الادعاء بأن هناك جوانب قليلة من اللغة غير موجودة بالفعل في الحيوانات.

يعتقد باحثون آخرون أن الخصائص الخاصة للغة قد تطورت على مراحل، ربما على مدى ملايين السنين، من خلال سلسلة من سلالات أسلاف البشر. في مرحلةٍ مبكرة، كان يمكن استخدام الأصوات لتسمية مجموعة واسعة من الأشياء والأفعال في البيئة، وسيكون الأفراد قادرين على ابتكار مفردات جديدة للتحدُّث عن أشياءٍ جديدة. من أجل الحصول على معجم لغوي كبير، كان من الممكن أن يكون التطور المهم هو القدرة على ”رقمنة“ الإشارات السمعية إلى تسلسل أصوات الكلام المنفصلة – الحروف الساكنة والحروف المتحركة – بدلًا من الاتصالات غير المنظمة. قد يتطلَّب ذلك تغيُّرات في الطريقة التي يتحكَّم بها الدماغ في المسالك الصوتية، وربما في الطريقة التي يُفسِّر بها الدماغ الإشارات السمعية.

سيؤدي هذان التغييران وحدهما إلى نظام اتصال مكوَّن من إشارات (كلمات) فردية – أفضل من نظام اتصال الشمبانزي ولكنه بعيد عن اللغة الحديثة. ستكون الخطوة التالية المعقولة هي القدرة على ربط العديد من هذه ”الكلمات الفردية“ معًا لإنشاء رسالة مبنية من معانٍ أجزائها. هذا لا يزال غير معقد مثل اللغة الحديثة. يمكن أن يُمثِّل ذلك نظام تواصُل بدائي: ”أنا طرزان، أنت چين“، ولا يزال هذا النظام أفضل بكثير من الكلمات المفردة. في الواقع، نجد مثل هذه ”اللغة البدائية“ في الأطفال البالغين من العمر عامين، وفي الجهود الأولى للبالغين الذين يتعلمون لغة أجنبية جديدة، وفي ما يسمى بـ ”اللغات الهجينة“، الأنظمة اللغوية التي تم تجميعها معًا بواسطة متحدثين بالغين بلغات مختلفة، عندما يحتاجون إلى التواصل مع بعضهم البعض للتجارة أو لأنواعٍ أخرى من التعاون. وقد دفع هذا بعض الباحثين إلى اقتراح أن نظام ”اللغوي البدائي“ لا يزال موجودًا في أدمغة الإنسان الحديث، لكنه موجود بشكل مخفي في ظل نظام التواصُل الحديث، ولا يظهر إلا عندما يكون هذا الأخير مُعطَّلًا أو لم تتم عملية تطويره بعد.

سيؤدي التغيُّر النهائي أو سلسلة من التغيُّرات إلى إضافة بنية أكثر ثراءً إلى ”اللغة البدائية“، بما في ذلك الأدوات النحوية مثل علامات الجمع، وعلامات الزمن (أفعال الماضي والحاضر والمستقبل)، الجمل النسبية والجمل التكميلية. مرة أخرى، يفترض البعض أن هذا قد يكون تطورًا ثقافيًا بحتًا، ويعتقد البعض أنه يتطلَّب تغيُّرات جينية في أدمغة المتحدثين.

متى حدث كل هذا؟ مرة أخرى، من الصعب جدًا معرفة ذلك. نحن نعلم أن شيئًا مهمًا حدث للبشر بين 100000 و50000 سنة مضت: هذا عندما نبدأ في العثور على القطع الأثرية الثقافية، كالقطع الفنية والأشياء المستخدمة لأداء الطقوس المختلفة، دليل على ما يمكن أن نسميه ”حضارة“. ما الذي تغيَّر في الأنواع في تلك المرحلة؟ هل أصبحوا أكثر ذكاءً (حتى لو لم تتضخم أدمغتهم فجأة)؟ هل طوروا لغتهم فجأة؟ هل أصبحوا أكثر ذكاءً بسبب المزايا الفكرية التي توفرها اللغة (مثل القدرة على الحفاظ على التاريخ بشكل شفهي عبر الأجيال)؟ إذا كان هذا عندما طوروا لغتهم، فهل تطورت من حالة ”عدم وجود لغة“ إلى ”اللغة الحديثة“، أو ربما من ”اللغة البدائية“ إلى ”الحديثة“؟ وإذا كانت الأخيرة، فمتى ظهرت ”البدائية“؟ هل تحدَّث أبناء عمومتنا – إنسان النياندرتال بلغة بدائية، في الوقت الحالي، لا نعرف.

ظهر مؤخرًا مصدر محيِّر للأدلة. تبيَّن أن طفرة في جين، يُسمَّى (FOXP2)، تؤدي إلى عجز لغوي وكذلك في التحكُّم في الوجه والفم. هذا الجين هو نسخة مُعدَّلة قليلًا من الجين الموجود في القردة، ويبدو أنه حقَّق شكله الحالي منذ 200000 و100000 عام. لذلك من المغري جدًا تسمية (FOXP2) بـ ”جين اللغة“، لكن الجميع تقريبًا يعتبر هذا الأمر مفرط التبسيط. هل يعاني الأفراد المصابون بهذه الطفرة من ضعفٍ لغوي حقًا، أم أنهم يواجهون مشكلة في التحدُّث فقط؟ علاوة على ذلك، على الرغم من التقدُّم الكبير في علم الأعصاب، فإننا لا نعرف حاليًا سوى القليل جدًا عن كيفية تحديد الجينات لنمو وبنية الأدمغة، أو كيف تُحدِّد بنية الدماغ القدرة على استخدام اللغة؟ ومع ذلك، إذا أردنا أن نتعلَّم المزيد عن كيفية تطور القدرة اللغوية البشرية، فمن المحتمل أن يأتي الدليل الواعد من الجينوم البشري، الذي يحفظ الكثير من تاريخ جنسنا البشري. سيكون تحدي المستقبل هو فك شفرته.


المحطة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...