ميشيل فوكو الحاضر الغائب في الفكر العربي المعاصر

08-01-2022

ميشيل فوكو الحاضر الغائب في الفكر العربي المعاصر

 فريد الزاهي:
كانت بصمة ميشيل فوكو في العالم العربي من الكبر والإبهار بحيث لا يعادلها فكريًا إلا حضور سارتر في أذهان وممارسات مثقفيه وقرائه. ومع أن سارتر كان من أوائل المهاجمين لفوكو في أواسط الستينيات، فإنهما في الحقيقة، ومع مرور الوقت، سوف يلتقيان في الكثير من التصورات. بل لن نبالغ إذا قلنا إن مصير فكر فوكو، مثله في ذلك مثل سارتر، سيكون مروره كسحابة صيف في ثقافة عالمنا العربي، من غير أن يكون لهما أتباع، مثل ما كان حال هيجل وماركس وألتوسير وبارت مثلًا. فلقد حظيا معًا بالترجمة إلى العربية، ربما أكثر من غيرهما، من غير أن يحظيا بالتمثل الذي حظي به بارت ودريدا، ما يدفعنا إلى التساؤل عن عوائق ومسوغات هذا الوضع.


المفكر الملغز والزئبقي


ترك فوكو وراءه من الآثار أكثر مما تركه معاصروه، هو المثقف المفكر الباحث الذي انخرط في كافة الصراعات وتدخل في أغلب القضايا التي وسمت النصف الثاني من القرن العشرين. فهو ينتمي إلى جيل كان وراء تحولات كبيرة في مجال العلوم الاجتماعية (بورديو) والفلسفة (دولوز، دريدا) وبشكل جذري غير مشهود. وبالرغم من أنه من أكثر المفكرين الذي تعرضوا للنقد، وأكثرهم تطويرًا لمواقفه - خاصة في المرحلة الأخيرة التي يبدو أنه تخلى فيها عن موت الذات sujet- إلا أنه في الآن نفسه ظل موردًا لأغلب الاتجاهات الجديدة في العلوم الإنسانية في الغرب. بالمقابل، وبالرغم مما حظيت به مؤلفاته من ترجمة وتداول وتحليل في العالم العربي، إلا أننا لا نعثر له على آثار عميقة لدى المفكرين والمثقفين العرب، بل إن أصحاب النقد الثقافي والنقد الجندري وغيرهما من "التيارات"، في صورتها العربية، لا يبدو أنها تحيل له ولا لمفاهيمه وتحليلاته، وإنما بالأحرى لتأويلاته الأميركية المبسطة وللمزائج التي خلقتها.
ليس من قبيل الصدفة أن يكون فوكو، من بين معاصريه، الأكثر انتقالًا بين المباحث، ومن ثم الأكثر تعرضًا للنقد. فهو فيلسوف من غير أن يكون كذلك (الكلمات والأشياء) وهو مؤرخ للأفكار (حفريات المعرفة)، وهو مؤرخ وعالم نفس (تاريخ الجنون)، وهو فوق هذا وذاك رجل مناضل في كافة الجبهات، بما يذكرنا بشكل كير بشخصية سارتر. بيد أن المفكر لا يزال لحد اليوم يبهر بتحولاته. فبالرغم من أنه أوصى ألا يُنشر له نص بعد وفاته، ستكشف المنشورات التي تلت رحيله عن منظورات جديدة وموضوعات أجدّ، بحيث يصعب على أي شخص أن يجمعه في كلية متجانسة. نصوصه كما "تخصصاته" تقف في وجه كل محاولة شاملة للإمساك به. لذا فإن ما نقف عليه هو الحقيقة التالية: نصوصه يُستشهد بها بكثرة، وبوفرة لا تنبئ دومًا بإدراك عميق لشجرة فكره. إنه الخلفية التي تقف عنيدة في وجه التأويل والاستعمال.
مع ذلك، وربما بسبب ذلك، أضحى فوكو مصدرًا خصبًا لكافة التيارات الفكرية الجديدة لأن فكره "ما بعد الحداثي"، ذا الطابع المشاغب، المهتم بالهوامش، اليقظ تجاه تحولات السلطة وتحولات المعرفة، يبيح ذلك ويمنحه أسسه الفكرية. فهو بتحليله للتاريخ (تاريخ الجنون وأركيولوجيا المعرفة) يمنح الأرضية الخصبة لتحليل الحاضر المستقبل. في هذا السياق، يمكن اعتبار مفهومه عن "المثقف الخصوصي" l’intellectuel spécifique "قطيعة" مع مفهوم "المثقف العضوي" الذي كان شائعًا في تلك الفترة التي هيمنت فيها المعرفة السياسية الماركسية. يجد هذا المفهوم جذوره في نقاش بين فوكو وجيل دولوز عن "المثقف والسلطة" عام 1977، ليتبلور بشكل كامل لاحقًا. هذا المفهوم كان يخص حينها التحول من الدفاع عن الطبقة العاملة التي تبرجزت، إلى الدفاع عن الكتل الاجتماعية الهامشية الجديدة كالمهاجرين والسجناء ونزلاء المستشفيات العقلية وغيرهم من المثليين والتحولين جنسيًا.


فوكو وأفق الحاضر


هل كان ريجيس دوبريه محقًا حين قال بأن فوكو، القلم الأكثر تمردًا والأكثر انقلابية، قد غدا "فيلسوفًا رسميًا"؟ ألا ينطبق هذا الحال على ريجيس دوبريه نفسه، وبشكل أكبر وأوْجه؟ لعلّ عودة فوكو لمسألة الذات، وتشكيكه في الطبقة العاملة المتبرجزة، واهتمامه بالمهمشين وبالبروليتاريا الرثة، ومنحاه النيو ليبرالي كان حافزًا على هذا التصنيف المجحف. بيد أن الأكيد أن هذا المفكر المشاغب، الذي بدأ بنيويًا، يدعو لفكر نسقي، سوف ينظّر لما بعد الحداثة ويجاوز عقلانيتها الصارمة، ويفكك كافة الثنائيات الميتافيزيقية، ويصوغ فكرًا لحاضر متنام باستمرار.
إذا كان فوكو قد ساهم في تحرير المثقفين العرب من الماركسية الدوغمائية، كما من صرامة العقلانية البنيوية، ففي الحقيقة ظل الطابع الأركيولوجي لفكره الأشدّ عسرًا على التمثل والتوظيف. فهو في قراءته لتاريخ الذات والجنس لدى الإغريق ولحفريات السلطة والمعرفة كان يدعو إلى بناء تصور معرفي ينبني على مواجهة الحاضر بتملك ماضيه. وهو في ذلك، وكما يعترف بهذا، تلميذٌ لنيتشه وهايدغر، اللذين أرسيا تصوراتهما الفلسفية على إعادة قراءة التراث بمنظور غير تاريخاني.
لقد ظل مفهوم السلطة الفوكوي أيضًا مفهومًا ضبابيًا لدى المثقفين العرب. فهو مفهوم متعدد الاتجاهات، عكس مفهوم السلطة الماركسي في تنويعاته المتعددة التي تبلورت بعد ماركس. وهو لدى فوكو يخترق التاريخ كما معطيات الحاضر، ويتلون بهوامش المجتمع. إنه مفهوم تشجيري سوف يصطدم بعقلانية الفكر العربي ومرجعياته. فالسلطة لدى فوكو ترتبط بالمعرفة: "ليس ثمة علاقة سلطة من غير تشكل مترابط لحقل معرفة معين، ولا من معرفة لا تفترض ولا تشكل في الآن نفسه علائق سلطة". وهو تعالق يمنحها صفة اجتماعية. فليس ثمة طبقة اجتماعية محظوظة تملك السلطة، وإنما تنجم السلطة في الواقع عن سيرورات عديدة مركبة من التفاعل بين الأفراد. ومن ثم فالسلطة موجودة في كل شيء وجودًا فاعلًا. وهذا المفهوم المركب للسلطة يبدو للأسف أنه كان غير ملائم للحقل المعرفي العربي في السبعينيات والثمانينيات نظرًا لطابعه المتعدد والعابر للأفراد والطبقات.   
في هذا السياق، لن نعثر لدى قرائنا العرب للتراث من المغرب إلا على شذرات من فكر فوكو. فلا الجابري ولا العروي ولا محمد أركون ولا غيرهم يبدو أنهم وجدوا فيه ولديه ما يعضد تحاليلهم للموروث العربي الإسلامي. بل إن الخطيبي نفسه لا يحيل عليه أبدًا بالرغم من أنه عاصره، وبالرغم من أن بعض مواقفهما الفكرية تبدو متوافقة. بيد أن العودة لفوكو سوف تتم بشكل موارب وبشكل بعْدي. فحين أبانت تصوراته العميقة عن خصوبتها في ما يُعرف بالدراسات الثقافية وما بعد الكولونيالية والجندرية، سوف تتم إعادة الاعتبار لفوكو بشكل ضمني. وإذا كانت هذه الدراسات قد بدأت تجد لها أتباعًا في فضاء الثقافة العربية المعاصرة، كما في جامعاتها وأبحاثها الأكاديمية، فإن طابعها الهجين والمركب نظريًا ومنهجيًا، جعل فكر فوكو، ينصهر في مزيج من التصورات تبدو أحيانا بعيدة عن مفاهيمه الأساس (الأركيولوجيا، المعرفة، السلطة، الهوامش...).
تلكم هي مصائر التحولات الفكرية المعاصرة في إشعاعها وخبْوها. فالتوجهات الفكرية "الثورية" المعاصرة التي بدأت في الغرب منذ نهايات القرن التاسع عشر (مع ماركس، نيتشه، فرويد، هايدغر، سارتر، فوكو، ألتوسير، دريدا وغيرهم)، تعيش حياتها الصريحة لمدة معينة قد تطول أو تقصر، لتندمج في مزائج جديدة تمنح لها حياة مغايرة. لكن هذه المصائر تكون ذات إيقاع مغاير في الثقافة العربية، نظرًا للرهانات التي تخدمها. ونحن نلاحظ أن تحديث الفكر العربي يسير بإيقاع أسرع نظرًا للمسافة الزمنية التي تفصله عن تلقي معطيات الفكر الغربي، ونظرًا أيضًا لإيقاع وزمنية الترجمة والتمثلات. فما إن يبدأ الاهتمام بفكر ما يبدو مخصبًا، حتى تأتي زوبعة أو زوبعات فكرية جديدة تطوي صفحته قبل أن تنضج وتكتمل.
وليس من الغريب أيضًا أن المفكرين الفرنسيين الأعلام كفوكو ودريدا مثلًا، قد وجدوا لهم متّسعا في الثقافة الأنجلوسكسونية، التي دأبت منذ عقود على ابتكار وصفات فكرية جديدة مركبة وبديلة تمنحها أسماء جديدة وترمي بها للسوق الثقافية العالمية المتعطشة للجديد. إنها وصفات ثقافية باتت تجد في الفضاء الثقافي والجامعي العربي مرتعًا خصبًا لها. ولعل هذا الطابع الانتقائي الاتباعي الذي يسم تحولات الثقافة العربية، سيكون سببًا حاسمًا في عدم تجذر المفاهيم والأفكار في التربة وعدم نموها وخصوبتها الفكرية والثقافية. فهل كان مشروع مشيل فوكو الفكري سحابة صيف في ثقافتنا العربية المعاصرة؟

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...