كورت فونيجت: ما وراء هاريسون بيرجيرون

14-12-2021

كورت فونيجت: ما وراء هاريسون بيرجيرون

Image
كورت فونيجت

ندى أشرف: 

إن روايات كورت فونيجت هي مصدر الاحتفاء الرئيسي به، ومع ذلك، فقد حظيت قصته القصيرة “هاريسون بيرجيرون” على شهرة واسعة، وكثيرًا ما يأتي بذكرها كمِثَال على قصص الخيال العلمي، وخاصة لِتَسْليط الضوء على موضوع المساواة. لقد نُشِرَت القصة في مجلة “العلم والخيال” أكتوبر 1961، وهي متاحة حاليًا ضمن مجموعته القصصية “مرحبًا في بيت القردة”، كما أن مقطعًا من مسرحية “بين الوقت وتمبكتو” مُقتبَسًا منها، وتم تحويلها إلى فيلم تلفازي في 1995، حيث لَعِبَ شون استين دَور البطولة. 

 
تروي القصة سعي المجتمع لتحقيق المُساواة المُطلقة عام 2081 دون جدوى، ففضلًا عن أن هذا العالم الجديد لا يحاول السُّمُو بقِيَمه ليشمل غير القادرين، بل يحاول عمدًا سلبهم مهاراتهم من خلال خلق معوقات مُضنية؛ كالأقنعة، والضوضاء، وحمل الأثْقَال، في محاولة لتضييق فضاء هؤلاء الأقل حظًا. وتكمُن خُطة الحكومة في توحيد صفات جميع أفراد المجتمع، وتخضع هذه العملية لرقابة خبيرة شئون الإعاقة بالولايات المتحدة “ديانا مون جلامبر”، والتي هدفها الرئيسي هو التخلُّص من أي فرد من شأنه تهديد المستوى المتوسط والتوافق في المجتمع. ونرى تشابه هذه الشخصية والفكرة مع النسخة التي ظهرت في روايته “حوريات تيتان”، ولو أنها أكثر حَبْكة.

إن مصير كل استثنائي في هذا العالم الجديد هو القمع، والحبس، والمصحة العقلية، ثُمَّ القتل في النهاية إذا ما فشل في أن يكون عاديًا، وبالطبع يُشَكِّل بطل القصة وعُنْوانها خطرًا على المجتمع، لكونه سليم البِنْيَة، وحَسن المظهر، وذكي، والأسوأ من هذا كُلُّه، فهو ثَّوريّ، وبالتالي هو مجبر على حمل أَثْقال تصل إلى 300 رطلًا لإبطاء حركته، والتعرُّض لضوضاء تَصُمّ الآذان وتُشَتِّت الذهن، وارتداء نظارات سميكة تصيبه بالصُّدَاع، والخضوع إلى تعديلات تجميلية تجعله أقبح.

 ولكنه ورغم أنف العَقَبَات، يتمكَّن من مُداهمة محطة التلفاز وإعلان نفسه الإمبراطور الجديد، ويَنْفُضُ عن كاهله كل المعوقات التي تُثقِله، ثُمَّ يَشرَع في رقص الباليه مع راقصة الباليه الفاتنة، والتي لحُسْن مظهرها طالتها تعديلات الحكومة الاستبدادية، للحَدّ من تقدُّمها والإغفال عن مُميّزاتها، وفي تحدٍ “للقواعد” والجاذبية، يُحَلِّقان عاليًا ليُلامِسا السَقف ويطبعان ” قُبْلَة ” عليه للتأكيد على استقلالهما الفني ورفضهما الخنوع إلى أية سُّلْطَة خارجية، وتنتهي القصة مُبَاغَتَة بعد سماع طلقتين ناريتين. ويلمح مصير البطل إلى انعدام التسامح مع المُشْرَأَبَيْن بأعناقهم فوق حدود العادية التي تنص عليها قواعد المجتمع، ولإضافة طابع مأساويّ للقصة، فلقد شهد والدا هاريسون على موته عبر التلفاز في حالة تَشَتُّت للذهن يَعَجَزَان معها على تذكُّر الحادثة أو إدراك أهميتها. إن العِبْرَة التي يرغب فونيجت في إبرازها هي أن المجتمع سيؤول إلى الهاوية لولا وجود الحالمين، والمختلفين، والمحيدين عن الطريق. ويشوب السعي نحو العدالة طرق الوصول إليها؛ حيث تحقيق العدالة لفئة سيعود بالضرر على أخرى، وسيعجز المجتمع عن التطور ما إذا أثقل كاهل العباقرة والموهوبين، وسيكون المستوى العادي هو جُلّ ما يطمحون إليه. 

ويُمكن وصف نظرة فونيجت المتشائمة للحياة المستقبلية بالعبثية؛ حيث يُثَبِّط  المجتمع من التطوّر والتجربة، ولا تُبتكَر العلوم والتكنولوجيا إلا بهدف أذية النفس البشرية عِوَضًا عن الأخذ بيدها. مجتمعٌ ليس له جَلَد على الثَوْريِّين، بل يَحُثّ على التشابُه. ويدل إذعان والدا هاريسون لمشاعر الحزن على مقتل ابنهما دون الوعي لماذا تُخالجهم هذه المشاعر على الاستسلام التام لهذه القيم؟


وبينما اعتبر كثيرٌ من النُقَّاد قصة فونيجت بمثابة هجوم على مبدأ المساواة، إلا أنه في الحقيقة يَشِنّ هجومًا على مفهوم الناس لِما تشتمل عليه هذه المساواة. لم يفهم نُقَّاد أمثال: “روي تاوسند” و “ستانلي شات”، السُّخْريَة المُبطَنة في قصة”هاريسون بيرجيرون”، أو راويها الذي لا يعول عليه، مُفَضّلين شرح الواضح وتجاهُل حقيقة أن مجرى القصة يَعرِض لنا تحليلًا للجهل “المنطق”.  فالمنطق هنا ساذج في أفكاره عن المساواة، وفي اعتقاده أن الأخلاق والمبادئ حِثّ فطري، إضافة إلى أن فونيجت يَساريٌّ، فليس من المُحتمل أنه يُهاجِم مبادئ الشيوعية أو الاشتراكية.

في الحقيقة، يَعتنق هاريسون ذاته ثقافة القمع المُهيمنة تلك، وعلى القُرَّاء تذكُّر رغبته في أن يصبح إمبراطورًا من أجل التأكيد على تميزُّه وما يمنحه هذا من قوة، ومن ناحيةٍ أخرى أراد فونيجت أن يَهزأ من النظرة القاصرة التي تحصر المساواة في الدهاء والمظهر الخارجي والبنية الجسديَّة، ولم يأت بذكر توزيع المعاشات (الفصل بين الأغنياء والفقراء) أو الطبقية (الفصل بين القوي والضعيف)، بالرغم من أنها مشاكل حقيقية تُعاني منها أمريكا. 

إن هذه العادية التي يستنكر بها كورت فونيجت ليست من نسج المستقبل، بل هي استمرارية لعادات الماضي. إن مَوْجَة مُعاداة الفكر، هي التي أوردت أفكار والدا هاريسون “هازل وجورج” فريسة لِما يَبُثّه التلفاز؛ حيث تتحكَّم بهم القيم الفاسدة التي تَحُثّ على تجاهُل مشاعر الحزن، والرضوخ إلى العادية. ليس عالم ديانا مون جلامبرز هو المُدان، بل عالمهم هم. فهم مَهَّدوا لها سُبُل الوصول إلى السُّلطة بكل جمود وعُقْم لا يقارنين بآلهة القمر. ليست الحرية في الخير المُطلق لفئة صغيرة، كما أنها لا تُؤمِّن النجاح الاقتصادي لمجتمع محكوم طبقيًا، ورغم بساطة القصة، فإن العِظَة المُستخلَصَة منها أعمق بكثير؛ فهي تُجبِر القُرَّاء على التفكُّر مَليَّا قبل اختزال المعنى وراء نَصّها. كما أنه جليا عدم رغبة فونيجت في دعم اعتراضات اليمين الراديكالي على الحكومات الكبيرة. إن قصة هاريسون بيرجيرون تُمثِّل دليلًا قاطعًا على وجوب تأمُّل كتابات كورت فونيجت المُعقَّدة أكثر من ذي قبل. 

المحطة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...