أسس المعتقدات الدينيّة

21-03-2021

أسس المعتقدات الدينيّة

١) الأفكار الحاضرة في تكوين الأديان

ازدرى العلمُ تحليلَ الأديان زمنًا طويلًا مع أن تاريخ البشرية يظلُّ غيرَ مفهوم بغير تاريخ آلهتها.

ومنذ عهد قريب، فقط، أخذ العلماء يُعْنَوْن بذلك التحليل، غير أن ما طبَّقوه من الشرح والتفسير لم يُسْفِر عن شيء سوى نتائجَ هزيلة.

ولا يزال الاطلاع على تكوين الأديان ناقصًا لِما كان من القول بإمكان درسها اعتمادًا على النصوص كما تُدْرَس الحوادث التاريخية الأخرى، مع أن الواقع هو أن الأديان المُزَاوَلة هي غير الأديان التي تُعَلَّم في الكتب، وسنرى في فصل آخر أن الدين المُنْتَحَل لا يَلْبَث أن يتحول وإن ظَلَّتْ نصوصُه ثابتة لا تتغير.

إذَنْ، لا يكون لدينا سوى علم قليل بالأديان إذا ما اقتصرنا على تَبَيُّنِهَا من الكتب، وبالمعابد والتماثيل والنقوش والصُّوَر والأقاصيص نَعْرِف الوجه الذي يفهمها به أتباعها خيرًا مما نَعْرِفه بالكتب.

ولا يبالي الكُتَّاب الذين يبحثون في الديانات بتَحَوُّل هذه الديانات، فتُبْصِر انتحالَهم لنظرياتٍ مناقضة لكلِّ ملاحظة.

ومن ذلك أنك تَجِد أساتذةً علماءَ يَعُدُّون البُدَّهِيَّة (البوذية) ديانةً بلا إله، مع أنها أكثر الأديان آلهةً على ما يحتمل، وعلى ما كان من مجادلة مؤسس هذه الديانة في وجود الآلهة؛ حيث تصادَم هو وهذه الآلهة عندما سَبَح في تَأَمُّلاته تحت شجرة الحكمة، فقاوم وعيد أمير العفاريت مارَا وناهَضَ إغواءَ بنات الآلهة أَپسَرَا، فمن يَقُل بوجود دين بلا إله يقترفْ خطأَ نفسيًّا جَمْعِيًّا أساسيًّا.

وما يدور حول تكوين الأديان من الفرضيات كثيرُ التغيُّر، وظَلَّت الفرضية اللغوية أكْثَر تلك الفرضياتِ شيوعًا حينًا من الزمن، وتقول هذه الفرضية: إن حوادث الطبيعة، كالشمس والقمر والنار … إلخ، كانت أشياءَ مُشَخَّصَةً؛ وذلك لِما كان من عَدِّ التعابير المجازيَّة التي تدلُّ عليها أمورًا حقيقية، ومن ذلك أن كانت أُسْطُورَةُ الإلهَة سِيلِينِه التي عانقت إنْدِيمُيون في غار لَاتْمُوسَ إشارةً إلى القمر وهو يداعب بأشعته الأمواجَ التي تَغيب بينها الشمسُ.

ومن العبث أن نَقِفَ عند هذه النظرية المتروكة تمامًا في الوقت الحاضر، ولا تلوح النظرياتُ التي حَلَّت محلَّها أمتَن منها مع ذلك.

إن ما أَتَى به علم وصف الإنسان من المباحث، عن طُوطَمِيَّة الحُمْرِ (الپُورُوج) لإيضاح الضَّحِيَّة، وعن طَبْوِيَّة الپُولِينِيزِيين لإيضاح ما في الحياة الاجتماعية من وَسْوَاسٍ ومحظور، يُلْقِي — بالحقيقة — نورًا ضئيلًا على المسائل الدينية ولا سيما الأساطير اليونانية، وإن قوانين الأمم المتمدنة، حتى العاداتِ الاجتماعيةَ البسيطة، التي لا أَصْلَ دينيَّ لها، مملوءةٌ بالمُحَرَّمات المشابهة لِما في طَبْوِيَّةِ الزُّمَرِ الفطرية، وإن ما في طَبْوِيَّة من هم على الفطرة من طابعٍ مقدس ناشئٌ عن أن جميع شئون الحياة العادية عند هؤلاء — ومنها مآكِلهم — ذاتُ مَسْحَة دينية.

ومن النظريات ذاتِ الحُظْوة الكبيرة في الوقت الحاضر تلك النظريةُ التي تقوم على عَدِّ الأديان حوادثَ جَمْعِيَّةً غايتُها بعضُ الواجبات التي أصبحت مقدسة، ومن الواضح أن جميع الأديان تكتسب صفةً جَمْعِيَّة ذاتَ حين فتستلزم بعضَ الواجبات بحكم الضرورة، غير أن من الصعب أن يُجادَل في أن الأديان كانت إبداعًا فرديًّا في بدء الأمر، وأظهرُ ما تبدو هاتان الظاهرتان المتعاقبتان — الفرديةُ ثم الجَمْعِيَّة — في الأديان التي مَثَّلَت أعظمَ دَوْر: في دين بُدَّهَة (بوذا) ودين محمد على الخصوص.

ويتجلى عيب النظريات الحاضرة حول تَوَلد الأديان في بحثها عن عِلَّة واحدة للأديان مع تعددها، ثم في استخفافها بالعوامل النفسية مع أن هذه العواملَ عناصرُ جوهريةٌ في تكوين الأديان.

وتؤدي معرفة هذه العوامل إلى إيضاح أصول الحوادث الدينية التي تبدو في البشر من خلال التاريخ، وهي تُسَوِّغ قولَنا بالقرابة الوثيقة بين جميع الأديان.

وتظلُّ أهرام مصرَ، وذُرَى المآذن، وأبراجُ الكنائس، ومناقشاتُ علماء اللاهوت، ووَجْدُ الكاهن أمام الهيكل، وحماسةُ المؤمنين، وطُوطَمِيَّةُ الهَمَج وطَبْوِيَّتُهم؛ أمورًا لا تُدْرَك عند إغفال القُوَى العاطفية والدينية التي تعينها، وهذه القُوَى إذ كانت واحدةً لدى جميع الأمم كانت ذاتَ مظاهرَ متشابهةٍ بحكم الضرورة.

(٢) العناصر الدينية والعاطفية في المعتقدات الدينية

خلودُ الآلهة في التاريخ يكفي لإثباته ملاءمةَ هذه الآلهة لاحتياجات النفس الثابتة، وإذا حَدَثَ أن البشر غَيَّروا آلهتَهم، في بعض الأحيان، فإنهم لم يستغنوا عنها قطُّ، والناسُ شادوا القصور للآلهة قبل أن يقيموها للملوك، وما احتياجُ الإنسان الراسخُ إلى الدين إلا كمناحي طبيعتنا الأساسية.

والروحُ الدينية عنصرٌ جوهريٌّ من عناصر الأديان، وهي ذات شأنٍ عظيم في تكوين المعتقدات الدينية أو السياسية.

والروحُ الدينية هي ركنُ مختلفِ الأديان، وتَجِد من أوصافها المشتركة — لهذا السبب — مخافةَ الأمرِ الخفيِّ، والأملَ في الأمر الخفيِّ، وعبادةَ الأمر الخفيِّ.

أَجَلْ، لم تؤدِّ الروح الدينية إلى غير أجوبة خادعة عن مسائل الحياة والكون، بَيْد أن هذه الروح سلكت بالإنسان طريقًا جديدة فقادته إلى المعارف التي نعيش اليوم بها بعد جهود دامت عِدَّةَ قرون.

وليست الروح الدينية الأساسَ الوحيدَ للمعتقدات الدينية، فلهذه المعتقدات دعائمُ من العناصر العاطفية أيضًا، ومن بين هذه العناصر نذكر الخوفَ والرجاء والاحتياج إلى التفسير على الخصوص.

والخوفُ هو أكثر تلك المشاعر تأثيرًا على ما يحتمل، وإلى الخوف يعزو لُوكْرِيسُ ظهورَ الآلهة.

وخوفُ الإنسان أمام القُوَى الهائلة التي يُحِسُّ إحاطَتها به أمرٌ طبيعيٌّ كرجائه في نَيْل حمايتها بالصلوات والهبات، ومخافةُ القُوَى الطبيعية المتحولةِ إلى آلهة متشابهة بعض التشابه والأملُ في استمالتها من المشاعر العامة عند الشعوب، فالجميعُ ساروا كما سار المكسيكيون بعد زمن، فهؤلاء المكسيكيون إذ كانوا يجهلون الخيول عبدوا فرسانَ الإسبان، من فوْرِهم، وقتما بدا هؤلاء الإسبان لهم حاملين أسلحتهم النارية قاذفين الصواعق بها.

ولا يبدو الخوفُ والرجاء في الأديان الابتدائية وحدَها، بل يَبْدُوان أيضًا في أديان أمدن الأمم، فما كانت لتَقُومَ للنصرانية قائمةٌ بغير الخوف من نار جهنم والأمل في نعيم الجنة.

والشروحُ السابقة — وإن كان يُدْرَك بها أصل المعتقدات الدينية — لا تَصْلُح لتفسير تكوين مختلف الأساطير، فكيف ظهر جُوپيتِر وأَپُولُون وڨِينُوس ودِيَانا وكيف حدثت مغامراتُ هؤلاء؟ لا يمكن العلمَ أن يجيب عن ذلك لِما كان من دخول عامل الخيال المستقل عن كلِّ منطق عقليٍّ في اختلاق تلك الآلهة الوهمية.

وليست بمجهولةٍ درجةُ بَسْطِ الخيال للحوادث وتشويهه لها، والرُّؤَى والأحلامُ إذ كانت مَنْبَتًا للخيال ومَوْكِبًا له؛ فإنه يُفْسِد الوقائع التي قد تكون حقيقةً في بدء الأمر.

والأساطيرُ هي — كمُعْظَم الحماسيات والأقاصيص — مما ظَهَر في كلِّ زمن، ونذكر منها الأُوديسة، وروايةَ ألف ليلة وليلة على الخصوص.

والأساطيرُ، مع ذلك، لم تَتَكَوَّن إلا في قرون بما كان من إضافاتٍ وتَحْشِيات وتحريفات متتابعة، والأساطيرُ — إذ أُدِيمَت بالأحاديث الشعبية — اكتسبتْ ثباتًا عظيمًا بالتدريج فكانت أصلَ الشعائر المعقدة التي تراعيها الأمم المتمدنة والأمم المتوحشة، ومن ذلك أن هوپيس الكولورادو عانَوْا كثيرًا في اتِّباع شعائرِ ديانةٍ تقول بأن عالَم ما تحت الأرض آهِلٌ بموجودات جامعة لشكل الوعول والأفاعي فَتمْلِكها امرأةٌ على شكل العنكبوت فتَنْسِجُ هذه المرأة السُّحُبَ التي يَسْقُط منها المطر.

وجميعُ الأديان مفعمةٌ بالأقاصيص المختلفة من أولها إلى آخرها، ومن هذه الأقاصيص مغامرةُ ذلك الفارس الملحد الذي أراد مَلْءَ برميلٍ صغير بماء يَنْبُوعٍ ثم بماء نهر ثم بماء بحر فَيُبْصِرُ الماءَ يَفِرُّ منه في كلِّ مرة، ووجب أن يكون هذا الفارسُ كثيرَ الشك؛ لِما كان من تعاقب تلك المعجزات أمامَه لِيُثَبِّتَ إيمانَه.

حتى إن الكتب العلمية القديمة نفسَها مَحْشُوَّةٌ بالأقاصيص العقيمة التي هي ثَمَرَة الخيال المَحْض، فتَجِدُ في كتب التاريخ الطبيعيِّ التي أُلِّفَت في عهد لويس الرابعَ عشرَ، مثلًا، أنه يكفيك لتنال دودَ قَزٍّ أن تُغَذِّيَ بقرةً بورق التوت، وأن تقطع عِجْلَها إرْبًا إرْبًا، وأن تَدَع هذه القِطَعَ تَعْفَن حتى يَخْرُجَ منها دُودُ قَزٍّ كثيرٌ، ومما تراه في تلك الكتب أن بُرادَة قَرْنِ الأيِّل تُسَهِّل الوَضْعَ.

وبجانب تلك العناصر النفسية يُمَثِّل عامل الاحتياج إلى التفسير شأنًا مهمًّا في تكوين الآلهة.

وإذا عَدَوْتَ الأزمنة الحديثة لم تَجِد حوادثَ طبيعية، فكلُّ حادثة كانت تُعْزَى إلى عزائم الآلهة.

فأجدادُنا إذ كانوا يَعْرِفون المبدأ القائل بأن لا معلولَ بلا عِلَّة، وكانوا يجهلون تسلسل السُّنَن الطبيعية لم يُعَتِّموا أن افترضوا وجودَ موجوداتٍ خارقة للعادة خَفِيَّةٍ قادرة خلفَ الحوادث مسببةٍ لها.

وكان تَدَخُّل تلك الموجودات يَكفي للردِّ على ما يُمْلِيه حبُّ الاطلاع في الإنسان من الأسئلة الكثيرة التي كان العلمُ غيرَ قادر على الجواب عنها، فحَدَث ما كان من تأليه جميع قُوَى الطبيعة، فكانت الآلهة تُسَيِّر الشمسَ وتُنْضِج الثمرَ وتُرْسِل الصواعق، وما كانت تفسيراتٌ كهذه إلَّا ذات نَفْع عميم في الأزمنة التي لم يَسْطِع البشر أن يَتَمَثَّل غيرَها.

ومن بين العوامل النفسية في تكوين الأديان نذكر حبَّ البعث في عالَم آخر.

وتتجلَّى الرغبة في الخلود في أقدم الديانات حيث يُرَى بقاء طَيْف الموتى بعدهم، بَيْدَ أن الحياة بعد الممات لم تظهر أمرًا مرغوبًا فيه على الدوام، فقد قَصَّ أوميرسُ في الأودِيسة أن أُولِيسَ نَزَل إلى جهنم ليشاور تِيرِيزْيَاس فلاقى أشيلَ، وحاول أن يُعَزِّيَه بموته، فأجابه طيف هذا المجاهد بقوله: «تعزيتُك باطلة، فأُفَضِّل أن أظلَّ على الأرض عَبْدًا لأفقر فَلَّاح على أن أكون حاكمًا لقوم من الأشباح.»

والنصرانيةُ هي التي وَكَّدَت أمر الحياة الآخرة أكثر من غيرها، فكانت الجنة والنار عاملَيْن عظيمين في نجاحها.

وتُعَدُّ تلك المبادئ خياليةً في أيامنا، ولكن الرغبة في الحياة بعد الممات تظلُّ قويةً في قلب الإنسان، وفي هذه الرغبة سِرُّ قوة المذهب الروحيِّ الذي يُعَلِّل أَتباعَه بأملٍ في حياة ثانيةٍ.

ومن دواعي الأسف أن العلم لم يكتشف، بعد، ما يُسَوِّغ القول بالحياة الآخرة، ولا يُرَى — مع ذلك — أيُّ العناصر من طبيعتنا ما يُرْجَى له الخلود أي القَرَار.

قال مِتِرْلِنْك: «من أيِّ شيء يُؤَلَّف ذلك الشعور بالذات الذي يجعل من كلِّ واحد منا مركزَ العالَم، أي النقطةَ الوحيدة التي يُؤْبَه لها في المكان والزمان؟ ليست هذه الذات، كما تبدو لنا عند التفكير في تعاقب اضمحلالها، رُوحَنا ولا جسمَنا ما دامت الروح والجسم أمواجًا تجري وتتجدد بلا انقطاع، وهل الذاتُ أمرٌ ثابتٌ غير الصورة والجوهر المُتَحَوِّلَيْن على الدوام، أو غيرُ الحياة التي هي عِلَّة الصورة والجوهر أو معلولُهما؟ حَقًّا إنه يتعذر علينا إدراك الذات أو تعريفُها أو بيان مَقَرِّها، ونحن، إذا ما أردنا اسْتِبَار غَوْرها، لم نَجِدْ غيرَ سلسلة من الذكريات أو غيرَ سلسلة من الخواطر المختلطة المتحولة المرتبطة في غريزة الحياة، ولم نَجِد غير مجموعة من عادات إحساسنا وغيرَ انعكاسٍ شعوريٍّ أو لا شعوريٍّ للحوادث المحيطة بنا، والخلاصةُ أن ذاكرتنا هي أثبتُ شيء في سَدِيمِنا …

وليس مما نبالي به أن يَعْرِف بَدَنُنَا أو جوهرُنا — في الأبدية — ضروبَ السعادة والمجد أو أن يعاني أروع التحولات وأعذبَها فيصيرَ زهرًا أو عطْرًا أو جَمَالًا أو نورًا أو أثيرًا أو كوكبًا، فمما لا مراء فيه أنه يغدو ذلك، فيجب أن نبحث عن موتانا في الفضاء والضياء والحياة، لا في مقابرنا، وليس مما نبالي به أيضًا أن يزدهر ذكاؤُنا حتى يختلطَ بِكُنْه العوالم ويدركَه ويسيطرَ عليه، فمما نعتقده أن هذا كلَّه لن يؤثر فينا، ولن يَسُرَّنا، ولن يَصِلَ إلينا ما لم ترافقنا ذكرى بعض الحوادث التافهةِ تقريبًا، فتكونَ شاهدةً على تلك السعادات التي لا تخطر على قلب بشر.»

إذَنْ، من الخير أن نَعْدِل عن الأمل الفَتَّان في المحافظة على ذاتنا في عالَم آخر، وهذه الذات هي التي لا نحافظ عليها في هذه الحياة الدنيا منذ الوِلادة إلى الممات لِما يعتورها من تَغَيُّر دائم.

وحياةُ ذرارينا هي عنصر الدَّيْمُومة الوحيدُ الذي يمكن الاعتماد عليه، فهؤلاء الذراري يَحْمِلون في نفوسهم أشباحَ ألوفِ الأجداد كما نَحْمِلها في نفوسنا، ويَبْدُو هذا الخلودُ غيرَ شخصيٍّ مع الأسف، فلا نكترث له كثيرًا، فمن أَجْل ذلك نرى من الحكمة سيرَ عِطاشِ الأمل من المؤمنين إذا ما حافظ هؤلاء المؤمنون على آلهةٍ تَعْرِض عليهم ما تَقَرُّ به عيونُهم من حياة شخصية مقبلة.

والعناصرُ النفسية التي ذكرناها في غُضُون هذا المطلب، كتأليه قُوَى الطبيعة والخوف والرجاء والخيال والاحتياج إلى التفسير وحبِّ الخلود بعد الموت، إذ كانت عواملَ أساسيةً لجميع المعتقدات فإننا نَجِدُها في أشدِّ الأديان اختلافًا، ونُبْصِرُ بها كثيرًا من الأوصاف المشتركة في تلك الأديان.

(٣) العناصرُ العقلية في المعتقدات الدينية

لم تُمَثِّل العناصر العقلية أيَّ دور في تكوين الآلهة، والمؤمنون حينما حاولوا تسويغ إيمانهم بالعقول كانت الأديانُ قائمةً منذ زمن.

وعلى ما ليس للبراهين من تأثير في الإيمان ظَهَر علماءُ اللاهوت من المُبَرْهِنِين في كلِّ زمن، وهؤلاء العلماءُ إذ حَصَرُوا أنفسهم في دائرة المعتقد ولم يَقْدِروا على الخروج منها حاولوا الحكم بالعقل في مبادئَ بَدَا لهم وَهْيُها في بعض الأحيان.

ولم يَأْلُ علماء اللاهوت في القرون الوسطى جُهْدًا في بذل جهود عظيمة للتوفيق بين الفلسفة الأفلاطونية الجديدة ومنطق أرسطو والمعتقدات النصرانية، وكان هؤلاء العلماء يَطْمَعون أن يكتشفوا، بذلك، براهينَ قاطعةً لدَعْم إيمانهم، ومن هذه الفئة نُورِد القديسَ أَنْسِيلْم مثلًا، فنقول: إنه كان يعتقد «وجودَ براهينَ تَكْسِر كبرياءَ اليهود والخوارج»، فبَحَث عن هذه البراهين على غير جَدْوَى.

وما كان الباباوات في ذلك الزمن وفي زماننا لينظروا بعين القبول إلى تلك المزاعم العقلية، ومن أولئك البابوات نذكر البابا غريغوارَ التاسعَ الذي قال في القرن الثالثَ عشرَ: «إن هؤلاء العلماء اللاهوتيين المُبَرْهِنين بلغوا من الانتفاخ والغرور ما يشابهون به الظُّرُوف» حتى إن القديس توما، الذي تُوُفِّيَ سنة ١٢٧٤، غدا بعد موته عُرْضَةً لحَمْلةِ جامعةِ باريسَ فقضى أُسْقُف باريس، في سنة ١٢٧٦، على مذهبه قضاءً مُبْرَمًا.

فعند أولئك أن البابواتِ على الحقِّ ما اقتضى الإيمانُ الصحيح انتحالَ العقائد بلا جِدال.

ثم إن تلك المحاولات العقلية كانت عقيمةً على الدوام، وما قام به العبقريُّ الكبير پَسْكَالُ من المباحث ينفع لإثبات درجة الوهم في عَدِّ الإيمان أمرًا عقليًّا.

ولم يَنْشَب العلماء أن عَدَلوا عن ذلك في نهاية الأمر، فالآن ترى علماء اللاهوت يعترفون، طائعين، أن العقل لا يَصْلُح لتسويغ الإيمان، وتدلُّ جميع الملاحظات حول تكوين الأديان وتطورها على اشتقاق اليقين الدينيِّ من عناصرَ عاطفية ودينية، لا من البراهين العقلية، فالبراهينُ العقلية، وإن كانت تَتَنَضَّد فوقه أحيانًا، لم يكن تأثيرها في المعتقدات إلَّا صِفْرًا على العموم.

(٤) العناصر الجَمْعِيَّة في المعتقدات الدينية

كان علماء الاجتماع يُؤَكِّدون منذ سنواتٍ الأثرَ الجَمْعِيَّ في الأديان، وقد أبَنْتُ هذه الظاهرة منذ زمن طويل حين كان العلماء ينكرونها كثيرًا، بيد أن من الخطأ أَلَّا يُرَى في الأديان سوى ظاهرتها الجَمْعِيَّة، فالأديانُ هي، كما أقول مكرِّرًا، من صنع الفرد ومن صنع الجموع معًا، هي من صنع الفرد لِما يُرَى من مُوجِدٍ لها في الأساس، كالنبيِّ أو الرسول ذي العمل العريض، وهي من صنع الجموع لاشتقاقها عادةً من المعتقدات السابقة العامة، ولتحول الأديان بعد أن تَسْرِيَ في الجموع، فعلى ما تبصره من الشعائر والرموز التي تَثْبُت بها مظاهرُ المعتقد الخارجية تَفْصِل بين الإيمان الشعبي والكتب المقدسة هُوَّةٌ عميقة كما سنرى ذلك عما قليل.

والمعتقدات الدينية هي جَمْعِيَّةٌ أيضًا لتَوَقُّف نجاح الرُّسُل على اعتناق الناس لتعاليمهم اعتناقًا عامًّا، وهي لا تنتشر إلا إذا لاءمت رغائبَ الزمن واحتياجاتِه، وفي هذا تَجِد السِّرَّ في إبداع الرسل لقليلٍ من الأديان الثابتة مع أن عددهم كثير لا يُحْصَى في التاريخ، ومَنْ وُفِّقَ منهم لهذا، كَبُدَّهَة (بوذا) ومحمد، فقد ظهر في الوقت المناسب حين أضحى تَحَوُّلُ المعتقدات القديمة ضَرْبةَ لازب.

فهنالك تنتشر العقائد الجديدة بالتلقين والعدوى النفسية، وتعاني من فَوْرِها من التحولات ما تَفْرِضُه الضرورة.

والتحولاتُ التي تَفْرِضُها المُؤَثِّرَات الجَمْعِيَّة على الأديان عظيمةٌ إلى الغاية، فسَنُفْرِدُ لها فصلًا خاصًّا، ويمكن تعريف كلِّ دين بأنه عملٌ فرديٌّ لم يَلْبَثْ أن يتحول إلى أمر جَمْعِيٍّ.

(٥) شأن الشعائر والرموز في تكوين المعتقدات الدينية

لا يمكن تفسير الأديان بالعقل كما قلت غير مرة، ولا ترى منطقًا عقليًّا يقيم دينًا ويحافظ عليه، فللأديان أُسُسٌ أخرى، وإن شِئْتَ فَقلْ: إن جميع الأديان تستند إلى الأركان الثلاثة الآتية وهي: الإيمان، والشعائر، والرموز.

أَجَلْ، إن الأديان تتطور ككلِّ عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، غير أن الشعائر والطقوس تَمْنَحها بعض الثبات لزمن معين على الأقل، حتى إن الأديان لا تَتَّصِفُ بشيء من الدَّيْمُومة إلا بعد أن تستقرَّ بها رموز وشعائر.

ولا غُنْيَةَ لأيِّ دين عن الشعائر والرموز، فبفضلها يَدْخُل المعتقد الجديد دائرةَ اللاشعور، ويَتَحَوَّل الانتحالُ الموقت البسيط إلى إيمان وطيدٍ قادر على تعيين وِجْهَة السَّيْر.

ولا تدوم دِيانةٌ عاطلة من الشعائر والرموز مقتصرةٌ على الإيمان وحدَه.

فانْظُرْ إلى جميع الدِّيانات، انظُرْ إلى دِياناتِ كَلْدَة ومصر، انْظُرْ إلى ديانات أوروبة، تَجِدْها مفعمةً بالشعائر الوثيقة والرموز المُقَرَّرَة، تَجِدْ لآلهة كلِّ أمة معابدَ يَقْصِدُها المؤمنون في أوقات معينة لِيُكَرِّرُوا فيها شعائرَ واحدةً وصلواتٍ واحدةً وتراتيلَ واحدة، ومن ذلك أن شعائر النصرانية تقوم على إقامة القُدَّاس وعلى سِرِّ القربان المقدس وعلى تناول القربان، وأن رموزها تقوم على الصور والتماثيل والرايات والأفئدة الملتهبة وحمامة روح القُدس … إلخ.

والشعائرُ والرموز إذ كانت أمورًا منظورة مادية فإِنه يتألف منها أَيْسَرُ ما يُعْتَنَق في الأديان.

وسهولةُ انتحال الأمم للشعائر والرموز يُغْوِي المؤرخين، في الغالب، حول اعتناق هذه الأمم لإيمان جديد.

حقًّا، إن البرابرة انتحلوا — طَوْعًا — شعائرَ النصرانية ولكن روحهم ظَلَّت وثنية، والبرابرةُ هؤلاء، إذ كانوا عاجزين عن إدراك العقائد التي عُرِضَت عليهم، عَبَدُوا القِدِّيسين كما كانوا يَعْبُدون آلهتَهم غيرَ محتفظين من دينهم الجديد بسوى رجاء الجَنَّة وخوفِ جهنم.

ولا تَلْبَث الشعائر المشتقة من العقائد أن تكتسب قوةً أعلى من قوة العقائد نفسِها، فالعقائدُ قد تُجْهَل أو يُمَارَى فيها، ولكن الشعائر تُحْتَرم على الدوام.

والدِّيانةُ تأخذ شكلَها الجَمْعِيَّ بتأثير الشعائر والرموز أيضًا، والشعائرُ تَزِيد قوةً بممارستها المشتركة، والشعائرُ تستحوذ على الخيالات الشخصية فتُمْسِك وَحْدَةَ الإيمان في الزُّمَر الاجتماعية، والشعائرُ تُحْدِث عند كلِّ واحد بعضَ الواجبات الإلزامية تبعًا للسلطان الدينيِّ الذي يُعْزَى إليها.

وما اتَّفَق للشعائر من القوة العظيمة يَمْنَحها حياةً أطولَ من حياة الإيمان، ومن ذلك أنك ترى محافظةَ أناسٍ تَخَلَّصوا من كلِّ معتقد على كثير من الشعائر كالمَعْمُودِيَّة وتناول القربان الأول والزواج أمام الهيكل والدفنِ الدينيِّ، ومن ذلك أن العامل غيرَ المؤمن لا يَعُدُّ نكاحه جِدِّيًّا إذا ما أُغْضِيَ عن الكنيسة، وأنه يقع في ضيق نفسانيٍّ إذا ما اقتصر على الدفن المدنيِّ، وتُوثِقُه الشعائرُ الموروثة بأمواته، وما تُبْصِره من لَاتِينِيَّة القَسِّ، ومن الصلوات والإشارات التي كُرِّرَت منذ ألفي سنة يَرْبِط مَيْتَ اليوم بمَوْتَى الماضي.

ويبدو الاحتياج النفسيُّ إلى الشعائرِ والرموز من التَّجَبُّر ما تُضْطَرُّ معه اللاإكليروسية إلى إيجادها شعائرَ ورموزًا غيرَ ظَانَّة أنها تُعَارِض الأديانَ القديمة بدين جديد على الوجه المذكور، فما لدى الكنيسة الماسونية من الشعائر والرموز لا يَقِلُّ عما لدى الكنيسة الكاثوليكية منهما.

وهنالك وجهُ شَبَه بين الشعائر والرموز في جميع الأديان مع ذلك، وتنشأ هذه المشابهة، لا ريب، عن اضطرار الروح البشرية إلى إدماج تصوراتها في الدوائر النفسية القليلة التي أَطْلَق عليها فلاسفةُ الماضي اسمَ مَقُولَاتِ الإدراك، فقوالبُ الفكر هذه إذ كانت تُقَيِّد التعبير عن الأمور فإنها تُحَدِّد ما تنطوي عليه التصورات الدينية، والشعائرُ التي تُمْسِكها، من الممكنات.

وظاهرةٌ كتلك مما استوقف نظري في الغالب، فلما دَخَلْت، اتِّفَاقًا، في معبد جَيْنِيٍّ قديم قائم في بلاد الهند، وذلك وقت القيام بشعائرَ دينيةٍ، ظَنَنْتُني حاضرًا لِقُدَّاسٍ كاثوليكيٍّ في بدء الأمر، وما كان يقام في المعابد المصرية من الشعائر منذ ثلاثة آلاف سنة أو أربعة آلاف سنة يشابه الشعائرَ التي تقام في كنائسنا العصرية بما يُثِير العَجَب، فالحقُّ أن لغة الروح الدينية لم تتبدل قطُّ.

وما كانت الدِّيانات وحدَها هي التي تحتاج إلى شعائر ورموزٍ، فشأن الشعائر والرموز عظيمٌ، أيضًا، في النُّظُم الاجتماعية لِما تَمُنُّ به عليها من الثبات والنفوذ، فما الأعياد القومية والاجتماعات التذكارية العظيمة والراياتُ والتماثيل والاحتفالاتُ الرسمية وحُلَلُ القُضَاة وجهازُ العدل مع موازينه الرمزية إلَّا دعائمُ وثيقةٌ للتقاليد والمشاعر المشتركة التي فيها سرُّ قوة الأمم.

وما عرضناه آنفًا يُثْبِت أمرَ العناصر النفسية التي تُشَادُ بها المبادئ الدينية فنُبْصِر بها السبب في تشابهها العميق مع اختلاف ظواهرها.

(٦) تَشَابُهُ المعتقدات الدينية في جميع الأمم

تَطَوَّرَ العقلُ البشريُّ كثيرًا في غضون الأجيال، وبَلَغَتْ ضروب المعارف من كثرة النُّمُوِّ ما لو بُعِث معه يونانيٌّ أو رومانيٌّ لَشَقَّ عليه أن يَهْضِم الاكتشافات التي تراكمت مع القرون.

ولكن الذكاءَ إذا تقدم فإن المشاعر التي هي أساس طبيعتنا لم تتغير إلا قليلًا جدًّا، فالحبُّ والحقد والحرص والحسد … إلخ، أمورٌ ظَلَّت كما كانت عليه في فَجْر الإنسانية، وهي، وإن أمكن ضبطُها أكثر من قبل على ما يحتمل، باقيةٌ على الدوام.

والمشاعرُ إذ تَغَيَّرَت قليلًا مع القرون كان من الطبيعيِّ بقاءُ النفسيةِ الدينية الصادرةِ عن العناصر الجَمْعِيَّة والدينية كما هي عليه، فلنا أن نُبْصِر، إذَنْ، مشابهاتٍ وثيقةً بين جميع الأديان.

وليس هنالك ما تَتَجَلَّى به معرفةُ المؤرخين؛ فالمؤرخون يُبْدُون أديانًا متباينة تَسُود الأمم فلا يَرَوْن رابطةً بينها، مع أن الواقع هو أنك إذا ما طرحت أسماءَ الآلهة وتفسيراتِ علماء اللاهوت جانبًا وَجَدْتَ مُشَابَهَاتٍ وثيقةً تحت تلك الاختلافات الظاهرة، فالناس — وإن آمنوا بآلهة متعددة — عَزَوْا إلى هذه الآلهة قَوًى واحدة، وطلبوا منها أمورًا واحدة، وعبدوها على صورة واحدة.

وعلى ما تشاهده من مُلاءَمة مظاهر المعتقدات الدينية لمزاجٍ نفسيٍّ ثابت، سارت هذه المظاهر وَفْقَ ما تقتضيه الحاجاتُ وشروط الحياة، فمن الواضح — مثلًا — أن الآلهة لم تكن غيرَ مَحَلِّيَّة حين اقتصار الوطن على المدينة، ومما لا يَقِلُّ عن ذلك وضوحًا أن الإنسان إذا ما عَرَف اتِّبَاعَ الحوادث لسُنَنٍ، لا لِأهْوَاء الآلهة، بَدَا له بُطْلان طائفةٍ من الآلهة لم تَلْبَث أن تتوارى.

أَدَّت مظاهر النفسية الدينية إلى قول المؤرخين بِعدَّة تقسيمات، فذهبوا إلى وجود الوثنية والروحية والتوحيد والإشراك … إلخ، فهذه التقسيماتُ إذا ما وُضِعَت على مِحَكِّ التحليل النفسيِّ تَقَلَّصَت إلى أبعد حدٍّ، فانْظُر إلى مذاهب التوحيد، مثلًا، تَجِدْها في الكتب، لا في حَقْل العمل، وانْظُر إلى الوثنية، التي تُعَدُّ بين الأديان الابتدائية، تَجِدْ ثباتَها لدى الأمم المتمدنة كما نرى ذلك بعد قليل.

وكذلك تَبْدو وَحْدَة مظاهر النفسية الدينية بوضوح في أديان الأمم القديمة، كالإغريق والمصريين والهندوس على الخصوص، أي لدى تلك الأمم التي كانت صِلَاتُ بعضِها ببعض قليلةً فلم يكن لبعضها كبيرُ تأثيرٍ في بعضٍ لهذا السبب، فعلى العموم تَجِد عند هذه الأمم تأليهَ جميع قُوَى الطبيعة، وعبادةَ النبات والحيوان، والوثنيةَ، والإشراكَ، وقدرةَ الصِّيَغ السحرية، وعبادةَ الأجداد … إلخ.

ونحن، لكي نجمع تحت نَظْرَة واحدة ضروبَ اليقين الدينيِّ، يجب أن نُحَرِّرها من الأوهام التي تكتنفها وتَسْتُر طبيعتَها الحقيقية، فهنالك، فقط، نَعْرِف ملاءَمتها لاحتياجات النفس البشرية الثابتة المتماثلة لدى جميع الأمم، فالأديانُ تَعْرِض في كل مكان، إذَنْ، مُشَابَهَاتٍ عجيبةً مع ما عليه من الاختلاف.

ولو نَظَر المؤرخون إلى العناصر الجَمْعِيَّة والدينية التي هي مصدر النفسية الدينية لاكتشفوا تلك المُشَابَهات منذ زمن طويل، ولا قيمة للآلهة والشعائر ذاتِها، وإنما القيمةُ كلُّ القيمةِ في معرفة المِزاج النفسيِّ الذي أبدعها.


المصدر: الأوان- وستاف لوبون: حياة الحقائق، ترجمة: عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي، ٢٠١٤.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...