موجز تاريخي لتطور فلسفة العلم

23-01-2021

موجز تاريخي لتطور فلسفة العلم

أوغست كونت

حذا الفيلسوفُ وعالمُ الاجتماعِ الفرنسيّ أوغست كونت (1798-1857) حذو الفيلسوف إيمانويل كانط في فكرة عدم قدرتِنا على معرفة الطبيعة الحقيقيّة للأشياء، فكلُّ ما يمكننا معرفته هو عالم الظواهر (Phenomena). لذلك لم يثقْ كونت بـ”تفسيرات” العلم للحقيقة الكامنة، واعتقدَ أن غايةَ العلم هي تقديم تنبُّؤاتٍ ناجحة بشأن العالم وفقط. المنهج الذي أوصى به كونت ليقومَ عليه العلم، ما أسماه “الوضعية”، أساسه الملاحظة فقط. يجب أن تُسجّل الملاحظات، ومن هذه الملاحظات يمكن وضع تنبُّؤات حول ما سنلاحظه مستقبلًا. تجري كل هذه العملية باستعمال ما سمّاه كونت “قوانين التعاقب”. اعتقَدَ كونت أن الذهابَ أبعد من ذلك ومحاولة خلق النظريات حول الآليات السببية الكامنة وغير القابلة للرصد ما هو إلا طلب للمتاعب، وسيؤدي إلى تصوراتٍ خاطئة وإلى أخطاءٍ رصديّة تناسب بعض النظريات المفضلة، وما إلى ذلك.

 الوضعية المنطقية وحلقة فيينا

ذهبت حلقةُ فيينا -وهي مجموعةٌ من الفلاسفة الذين التقوا في مدينة فيينا في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي- أبعد من كونت. فقد قالوا إنَّه لا يمكن لأي عبارةٍ أن تكون ذات معنى إلا إذا امتلكنا القدرة على التحقُّق من صحتها، واعتقدوا أن هذا هو الخطّ الفاصل بين القضايا العلمية والقضايا غير العلمية، وبين المنطق والهراء. أيُّ قضيةٍ لا يمكن التحقُّق منها ليست ذات معنى مطلقًا. تقع معظم قضايا الدين والأخلاق والميتافيزيقيا ضمن هذه الفئة، وقد تم رفضها رفضًا قاطعًا. انتشرَ هذا النهجُ ببراعةٍ في العالم الناطق باللغةِ الإنجليزيّة بسبب كتاب A.J Ayer المسمَّى “اللغة، والحقيقة، والمنطق“.

وفقًا للعديد من نقّادها، تدحض الوضعية المنطقية نفسها بنفسها؛ فهي تقول أن العبارات التي لا يمكن التحقق منها محض هراء، لكن هذه العبارة نفسها لا يمكن التحقق منها، لذا يجب أن تكون هراءً.

كارل بوبر ومبدأ التفنيد

لاحظ كارل بوبر عيبًا جوهريًا في مبدأ التحقق. خذ على سبيل المثال الادّعاء القائل بأن “كل البجع أبيض”، أشار بوبر إلى أنّه مهما رصدت بجعات بيضاء فلا يمكنك أبدًا القطع بأنك أثبتّ الادّعاء السابق، بسبب وجود احتمال دائم بأن تكون البجعة التالية التي تراها ذات لونٍ آخر، أي أن رؤية واحدة مفردة لبجعة غير بيضاء ستكون لها دحض الادّعاء؛ لهذا يقول بوبر أن العلامة الأساسية للقضايا العلمية ليست إمكانية التحقق منها، بل إمكانيّة تفنيدها.

لكن المشكلة هنا ببساطة هي أن العلم لا يعمل بهذه الطريقة. وفقًا لبوبر، فإن ملاحظة واحدة مناقضة لنظريةٍ ما يجب أن تكون كافية للتخلّي عن النظرية. هذا غالبًا لا يحدث. فعلى سبيل المثال، نظرية الجاذبية لإسحاق نيوتن دُحضت منذ لحظة ابتكارها تقريبًا؛ بسبب الحركة المرصودة للقمر. مع ذلك فقد تمّ تجاهل هذا الدليل، واستمرّت نظرياتُ نيوتن في الهيمنة المثمرة على العلوم لأكثر من مائتي عام.


إيمري لاكاتوش


إحدى محاولات تعديل أفكار بوبر لأخذ ذلك بعين الاعتبار جرت على يد إيمري لاكاتوش، وهو مهاجرٌ مَجرَيّ قام بالتدريس في كلية لندن للاقتصاد. شرح لاكاتوش أفكاره في كتاب “منهجيّات برامج الأبحاث العلمية“. ووفقًا للاكاتوش، فالوحدة الأساسية لبناء العلم هي “برنامج البحث”، مثل العلوم النيوتونية وفيزياء الكم. يتكون كلُّ برنامجِ بحثٍ من مجموعةٍ من الفرضيات المركزية التي نادرًا ما يتم تفنيدها، تحيط بها وتحميها مجموعةٌ من الفرضيات الثانوية التي يمكن تفنيدها. إذا هُدِّدت الفرضية المركزية بدليلٍ جديد، يميل العلماء إلى ابتكار “فرضيةٍ منقذة” لتفسير النتائج الجديدة، بدلًا من التخلص من برنامج البحث بأكمله. يقول لاكاتوش أن البرامج البحثية اليافعة والقوية تضع التنبُّؤات، لكنها في النهاية تصبح متراجعة، فلا يعود لها القدرة على التنبؤ، ويُهدِر أتباعُها معظمَ جهودِهم في الدفاع عن أطروحات البرنامج الجوهرية ضدّ جبال من الأدلة المخالفة،وقد رأى لاكاتوش (الشيوعي السابق) في الماركسية مثالًا لبرنامج بحثٍ هزيل.

 


توماس كون


بينما حاول لاكتوس بشكلٍ أساسيّ تحسين مبدأ التفنيد لبوبر، أدارَ توماس كون ظهرَه لبوبر تمامًا. في كتابه “بنية الثورات العلمية” قال كون أن حدوث الثورات العلمية هو في الأساس حدث اجتماعي. عندما تترسّخ مجموعةٌ جديدة بالكامل من الأفكار، أو “نموذج جديد” كما أسماه كون، يُنظَر إلى أتباع النموذج القديم على أنّهم “موضةٌ قديمة”، ويصبح من الصعب حصولهم على وظائفَ أو ترقياتٍ أو تمويل بحثيّ، لذلك فهم يخرجون من الأوساط الأكاديمية ما لم يتبنّوا النموذج الجديد؛ وبهذه الطريقة تسيطر النماذج الجديدة على العلم لفترة من الوقت. أما بين الثورات العلمية، في فترة ما يسميه كون “العلم الطبيعي”، تجري الأمور إلى حدٍّ كبير كما وصفها كارل بوبر.4

 


بول فايراباند

 


أخيرًا، اعتقد بول فايراباند (1924-1994) أن عباراتِ الرصد العلمية نفسها تجسِّد بالضرورة نظريةً ما دائمًا، ودعا إلى سيطرة “ديمقراطية” على العلم.

 

 

مقال لريك لويس يصف فيه ما اعتقده الفلاسفة بشأن العلم على مدار قرن ونصف.


المحطة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...