الآيروتوكية في رواية «برهان العسل» للسورية سلوى النعيمي

04-04-2007

الآيروتوكية في رواية «برهان العسل» للسورية سلوى النعيمي

قبل ان نسأل هل كتبت سلوى النعيمي في "برهان العسل" رواية ايروتيكية، لا بد ان نسأل هل النسيج السردي الذي كتبته، والمتشكل من مواقف نظرية محسومة، وشذرات حكائية متناثرة، ومقتطفات من كتب التراث الجنسي العربي، هو رواية متكاملة العناصر وناضجة التصوّر؟! ذلك انها تلجأ هنا الى منهج في المعالجة قد يصلح ربما لدراسة علمية اكثر منه لعمل فني، ولا يشفع لها اعتمادها موضوع الدراسة كذريعة سردية، فتنطلق من نظرية مسبقة مفادها ان الجنس جزء من تراثنا العربي وليس طارئاً عليه، وتروح توظف كل ما لديها في سبيل اثباتها: من الكتب القديمة الى الامثلة الحية المعاصرة، معتمدةً المحاججة اسلوباً يحكم سير الرواية من اولها الى آخرها.
بدءاً، لا بد من القول ان الرواية التي صدرت اخيراً لدى "دار رياض الريس"، تضع يدها على عناصر قوية كان في امكانها لو حيكت بطريقة أكثر ابتكاراً، ان تخرج بنتيجة أقوى وقعاً على المستوى الفني. ثمة اولاً اتخاذها الجنس موضوعاً في شكل مباشر ومعلن وصريح، مع اسقاط كل حكم قيمي اخلاقي عن الفعل الجنسي (رغم ان هذا الموضوع عاد ليلتفّ على نفسه ويصير الجنس اشبه بأخلاقية بديلة)، وذلك على وقع التفتيش عن الذات تفتيشاً لغوياً حثيثاً. ثم هناك لجوؤها الى التراث الجنسي العربي، كتباً وشخصيات وافكاراً، تحشدها كلها لتواجه بها مجتمع التقية العربي كما تسميه، الذي يُضمر خلاف ما يُعلن، بدءاً من البسيط واليومي مثل تعابير مستخدمة كـ"الحفاظ على خط الرجعة"، او مفاهيم كالزنى والاخلاص، مروراً باللجوء الى اللغات الاجنبية عندما يتعلق ذلك بالكلمات الجنسية، وصولاً الى تساؤلات من نوع: "لماذا يمكنني ان اتباهى بقراءة الادب البورنوغرافي الغربي والشرقي وأخفي قراءتي للتيفاشي؟ لماذا اعلن ولعي بجورج باتاي وهنري ميللر والماركي دو ساد وكازانوفا والكاما سوترا، وأتناسى السيوطي والنفزاوي؟"، وسواها الكثير من مظاهر "عصر الانحطاط الجنسي الذي نعيشه الآن" ويتخذ شكل نفاق اجتماعي تحاول الكاتبة نزع النقاب عن حقيقته وفضح المخبوء منها خلف مظاهر التقية المختلفة.
الا ان كل ما سبق يبدو محكوماً بافتراض وجود وجهة نظر مضادة تريد الرواية اسقاطها. وجهة النظر المقابلة هذه، اذا انوجدت، وبالشكل الاتهامي الذي تفترضه الكاتبة، فإنها موجودة خارج النص وليس داخله، لتصير المواقف المحسومة التي تنطلق منها الكاتبة منذ اللحظة الاولى، هي اكثر ما يضعف النص ويجعله يدور في حلقة مفرغة من التبرير والخطابية، ويحوّله الى شبه مرافعة طويلة للدفاع عن الذات. تبدو نظرة الآخرين (الموجودون في النص والذين هم خارجه) واحكامهم المسبقة المفترضة، كأنها هي المحرك الاساسي الذي يوجّه الرواية ويحدّد مسارها ونبرتها والمنطق الذي تعتمده: "هل الفضيحة في الفعل ام في اعلان الفعل؟"، تتساءل الكاتبة في الصفحات الاولى قبل ان تعود وتختتم الكتاب على التساؤل نفسه، ليتحوّل البوح فعلاً محكوماً بشرط رد فعل المتلقي، ويصير الكتاب بدوره محاولةً لاستيعاب الفضيحة المتوقعة والتحايل عليها: "ماذا سيخطر لهؤلاء الجالسين حولي لو يقرأون ما أكتب؟ ماذا سيخطر لهؤلاء عندما يكتشفون اني كسرت العقد الاجتماعي؟ اني انتهكت قانون التقية الذي يطبقه الجميع؟". خلف اللامبالاة الظاهرة حيال آراء الآخرين، والتي تتخذ احياناً شكل استهزاء وتخفف يحاذي الفوقية، نلمس هاجساً يثقل كاهل النص ويحدّ آفاقه: "لست ملزمة بتقديم تقارير عن (حياتي السرية) لأي انسان. لا اريد من الآخرين موافقة، ولا صفحاً، ولا مشاركة"، عبارة تكررها مرتين فتأتي الثانية لتبطل مفعول الاولى.
من ناحية أخرى، تحتل الانا مساحة واسعة في النص، الا ان هذه الانا نفسها تحمل خطاباً نراه ينزع كل مرة الى تحويل الخاص الى عام، والمعيش الى مفهوم، والواقع الى نظرية. بدءاً من التفاصيل الصغيرة، ومنها التسميات التي تطلقها على الرجال في الرواية، على غرار المفكر، والجوّاب، والسريع، وصولاً الى تيمة الجنس في حد ذاته، والذي يتحول من تجربة شخصية حميمة الى مفهوم عام يفتش عن مسوّغاته خارجاً. هذا كله يضعنا امام رواية تقول اكثر مما تفعل، واذا فعلت فإنما بأسلوب تطغى عليه نبرة تكاد تكون علمية، ومهما يرتفع سقف جرأتها يظل الطرح السردي قاصراً عن مواكبة هذا الارتفاع.
من هنا، تبدو "برهان العسل" رواية أفكار وآراء قبل اي شيء آخر، نعثر فيها على مقاطع قوية الوقع، جريئة اللفظ، مقدامة المفهوم، تأتي بها امرأة لا تخاف من ان تعلن وبصوت مرتفع: "لديّ حاجة عضوية للماء والمني والكلمات"، بعد ان تكون حددت وفي شكل حاسم خيارها الحياتي الذي يطغى عليه حس وثني حاد: "الحب للروح والشهوة للجسد. انا لا روح لي. الجملة سكنت رأسي قبل ان اكتشف ان هناك تاريخاً حرم النساء من الارواح. عندما كنت صغيرة لم أجد روحي. عندما كبرتُ لم أتعب نفسي في البحث عنها. "لا روح لي" انحفرت الجملة في رأسي وصارت حياتي تمرّ من خلالها. كنت اعرف اني جسدي فقط. لا املك شيئاً آخر. جسدي هو ذكائي ووعيي وثقافتي. من يشته جسدي يحبني. من يحب جسدي يشتهيني. هذا هو الحب الوحيد الذي اعرفه، والباقي ادبيات". وهو حسّ يتميّز خصوصاً بإسقاط كل المعايير المجتمعية الراكدة والاحكام الاخلاقية العامة: "أملك حساً أخلاقياً لا علاقة له بقيم العالم الذي يحيط بي. رفضتها منذ زمن لا اتذكره. هذا الحس الاخلاقي الشخصي هو الذي يزن افعالي ويمليها عليّ. انا التي برمجت معاييري. ما يهمّني هو معنى ما افعله وانعكاسه عليَّ وعلى حياتي: وجهي بعد الحب ولمعة عيني ولملمة اجزائي وجذوة الكلمات تتقد حكايات في صدري". الا ان هذه الافكار والآراء والأطروحات لا تنجح مجتمعة في تشكيل بنية روائية صلبة ومتكاملة العناصر، بل نراها تُحشَد كما لو فقط بغرض إيجاد مساحة تبريرية نظيفة للفعل الجنسي.
في العودة الى مسألة الجرأة اللفظية، تعتمد الرواية في لحظاتها القصوى نوعاً من الجرأة يعلن عن نفسه تحت غطاء شبه علمي. وبدل ان تسمّي الكاتبة بنفسها الاشياء بأسمائها، نراها تترك لمن تسمّيهم "شيوخها" من ابن الازرق، واحمد بن يوسف التيفاشي، والسموأل بن يحيى، ومحمد النفزاوي، واحمد بن سليمان، والسيوطي، والتيجاني وسواهم، ان يقوموا بذلك في معظم الاحيان، وتعمد الى تمييز أقوالهم وعباراتهم عبر ايرادها بالخط الاسود العريض، كأنها طريقة للتنصل منهم خلال تبنّيهم في الوقت نفسه. وهنا ايضاً يأتي العام مرةً اخرى ليهمّش الخاص ويقصيه عن دوره المحوري، فلا يبقى مكان للغة جنسية معاصرة، لغة تحمل بصمات القرن الحادي والعشرين، في ما خلا بعض اللحظات العابرة: "(...). اكتب الكلمة ويضع الحاسوب خطاً أحمر تحتها. أتسلى بتصريف الفعل واشتقاق الكلمات، وترتسم الخطوط الحمر تحت كل كلمة. أكتب كل الكلمات الحساسة ولا يتعرف الحاسوب الى اي كلمة منها. يضع تحت كل كلمة خطاً أحمر، كأنه بُرمج بالتقية هو الآخر. حاسوب عذراء! حاسوب مخصي على الأصح. من خصى اللغة؟ من خصى الحاسوب؟ من خصاني؟".
انطلاقاً مما سبق، يبدو الفرق بين "برهان العسل" وما نقرأه اخيراً من روايات يحتل فيها الجنس مساحة واسعة، ان هذه الروايات، وإن كَتبت الجنس بوعي أقل فإنها لا تسقط في فخ تبرير ما تعيشه، بل تعيشه فحسب بكل تعقيداته واشكالياته، كاشفةً عن حياة جيل جديد يبحث عن ذاته ولغته على وقع زمن يعيد صوغ تابوهاته. وبين اسلوب في التعبير، مثل الذي يعتمده ابراهيم بادي في رواية "حب في السعودية" (دار الآداب) حيث يُمضي وقته في تصريف فعل "فَعَلَ" في شتى صيغه: فعلناها، فعلاها، يفعلانها... وبينها هي التي "تسمّي" الاشياء بأسمائها، تبدو رواية الاول أكثر اصالة لأن المعيش هو الذي يفصح عن نفسه هناك، اما هنا فالغلبة هي للنظرية. كأنما يفوت سلوى النعيمي أن برهان حلاوة العسل هو العسل نفسه، كما تنقل بنفسها عن ابن عربي، فتروح تفتش عن برهان العسل خارجه.

 

سيلفانا الخوري

المصدر: النهار

إقرأ أيضاً:

برهان العسل لسلوى النعيمي

الآيروتوكية في رواية «برهان العسل» للسورية سلوى النعيمي

"برهان العسل"رواية إيروتيكية تسمي كل عضو باسمه

سلوى النعيمي: تم حذف الجنس من الثلاثي المحرم

الجنس الصادم في رواية «برهان العسل» لسلوى النعيمي

حملة شعواء ضد الكتابة الجنسية

سعاد جروس : برهان العسل وجثة مخبوءة في مكان ما

"برهان العسل" للسورية سلوى النعيمي بكل لغات العالم

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...