خناصر و.. تيودورا

15-01-2019

خناصر و.. تيودورا

Image
 منقوشة على حجارة من خناصر_0

أعتقد أن اسم خناصر كان غائباً عن معظم السوريين وغيرهم قبل هذه الحرب، وأنه بعد حصار حلب ورغم مرور الطريق إلى دمشق منها طيلة السنوات الفائتة ،لا يزال أغلب العابرين لا يدرون أي مدينة عظيمة كانت في تاريخ سوريا، لأن كتب التاريخ الرسمية تجاوزت مدناً مثلها أو أكثر منها أهمية.

خناصر ، على سفح جبل الأحص الشرقي ،  شرق حلب ، مركز ناحية تابع لمنطقة السفيرة، وتبعد عنها 25 كيلومتراً ..وهي مدينة عرفت باسم Anasartha و Kunasara ، وهو الاسم الذي عرّب فيما بعد إلى خناصر وخناصرة،وفيها آثار من الفترتين الإغريقية والرومانية، لكن الملك البيزنطي يوستنيانوس /Justinian I/ (483 - 565) الذي عرف بـ" الأمبراطور الروماني الأخير"، ويعدّ قديساً في الكنيسة الأرثوذكسية، سمّاها ( ثيودورابوليس )، أي مدينة ثيودورا على اسم زوجته الملكة الشهيرة /Theodora/ وهي ممثلة شغلت القسطنطينية وعشقها يوستنيانوس ثم تزوجها ولعبت دوراً هاماً في الحكم ، وتعصبت لسوريا ولليعاقبة المؤمنين بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح، وكانت سبباً في صمود ومقارعة زوجها ثورة كبيرة ضده وقالت كلمتها الشهيرة "إن العباءة الإمبراطورية خير الاكفان".

وجرّاء موقع خناصر الاسترتيجي كخط دفاع بوجه الفرس والأعراب أدخلها يوستنيانوس في نظام دفاعاته الحربية كموقع متقدم فيما عرف بـ " سيف الصحراء" فتوسعت المدينة وبني سور حولها ما تزال أساساته قائمة ، كما بني فيها حصن ً.
يقول الباحثان جالايبر- موتيرد ،إن على عتبة مدخله نقشُ للسيد المسيح ولأباطرة بيزنطيين ولرئيس أساقفة المدينة ،وبقي مبنى بيزنطي بات مركزاً للشرطة وقناة رومانية.

لم تشذ خناصر عن غيرها من مدن البادية السورية في الدخول بالصراعات العقائدية المسيحية بين الخلقيدونيين والمونوفيزيين،الذين ساندتهم ثيودورا، وكانت ضمن ولاية سوريا الأولى (Syria Prima) وعاصمتها أنطاكيا، وفيها رئيس أساقفة مثل حلب وخلقيس والنبي عيس والجبّول، ورئيس أساقفتها عضو مع خمسة آخرين في السينودس الذي يعاون بطريرك أنطاكيا، ومن أساقفتها (ماروس وكيروس وتوما واسطفانوس ولاونديوس وسيسينيوس ) وآخر أربعة منهم مونوفيزيون ، وسينيوس حضر مجمع نيقية عام 787 أي بعد الفتح العربي بمدة طويلة.

وفي خناصر بقايا كنائس عديدة، منها أطلال كاتدرائية ضخمة تدّل على رفعة موقع المدينة وكثرة عدد سكانها ، ومارتيرون، أي دار الشهداء ، يعود إلى سنة 426، وتوجد آثار كنيسة مهدمة واسعة قرب بقايا السور على الطريق إلى السفيرة ، كما توجد آثار كنيسة تعود لسنة 546 وآثار دير كبير، ووجدت كتابات يونانية مسيحية كثيرة فيها مؤرخة ومن دون تأريخ ، منها كتابة لتكريس دار عماد لقائد تزوج ابنة شيخ عربي ترجمتها" سلفانوس قائد العربية كرّس في خناصر دار المعمودية لذكرى ابنته شاسيداته"وكتابة مؤرخة عام 588 تعريبها " يسوع المسيح عمانوئيل  + الله فوق كل شيء" .


فتح العرب خناصر ، ويروى أن الخليفة عمر بن عبد العزيز سكنها وتوفي فيها ودفن في الدير الشرقي قرب معرة النعمان قرب منسكة سمعان العتيق، وقال عنها ياقوت الحموي في معجم بلدانه" إن خناصرة بليدة من أعمال حلب" وقال فيها عدي بن الرقاع:
وإذا الربيع تتابعت أنواؤهفسقى خناصرة الأحص وزادهانزل الوليد بها فكان لأهلهاغيثاً لأغاث أنيسها وبلادها .

هجرت خناصر عبر تتالي النكبات على سوريا وتحولت إلى خرائب مهجورة ، وفي عام 1906 جاء إليها الشركس القبرطاي وسكنتها 86 عائلة منهم وقد تكيفت العائلات مع واقع المنطقة وتكاثرت فمارست الزراعة واستصلحت أول الأمر 22 هكتاراً ومارس البعض التجارة البسيطة وبنوا البيوت من بقايا حجارة الحضارات المتعاقبة وعادت الحياة إلى خناصر، وتختلف في ترتيب بنائها عن القرى البدوية المحيطة .لكن الحرب ظلمتها فعادت لتصبح قفراً إلاّ من الجيش السوري الذي حررها وحلفائه من داعش.

عندما مررت بها للمرة الأولى في هذه الحرب وتمعنت في البيوت المصابة والمهدمة ، قلت لا بد من مستقبل تتراءى فيه يد مثل يد ثيودورا، الممثلة التي روضت القسطنطينية كما روّض والدها الدببة في السيرك ..يدٌ تنقّب في أرض هذه المدينة العظيمة ويد أخرى تبنيها بروح محبة وترفعها إلى درجة القداسة التاريخية كما رفعت الكنيسة الامبراطورة تيودورا إلى مرتبة القداسة رغم تاريخها الذي يراه البعض من وجهة نظر مغايرة.

 



الإعلامي :  غسان الشامي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...