عوامل نجاح الإسلام السياسي شعبيا

17-07-2022

عوامل نجاح الإسلام السياسي شعبيا

د.سامح عسكر:

يوجد سؤال شائع..هل الأديان كلها سياسية أم بعضها سياسي والآخر لا؟
الجواب: مطلوب أن يُحرر معنى السياسة أولا، فلو قصدنا بها الحُكم والإدارة التنفيذية للدولة فبعض الأديان لا تهتم لذلك ولا توجد في نصوصها المؤسسة أقوالا وإشارات تأمر بهذا الحُكم، لكن لو قصدنا بها (السلطة بكل أشكالها) فالأديان جميعا مهتمة بذلك، لأن هناك أنواعا من السلطات غير تنفيذية بالدولة لكنها تحكم الشعب بجوانب أخرى اجتماعية واقتصادية ونفسية، ومن تلك الجوانب خرج الكهنوت بوصفه القائم على الطقوس والشريعة التعبدية الاجتماعية..

لكن في الإسلام الأمر مختلف نوعا ما، حيث يؤكد تاريخ المسلمين أنه ومنذ وفاة الرسول عليه السلام انتهج خلفاؤه أمرا جديدا وهو (فتح وغزو البلاد الأخرى) فلم يكن هذا فعل الرسول ولم يأمر به في القرآن، وعشرات الآيات تنهي عن العدوان والاعتقاد بحراسة الدين، وعشرات الآيات الأخرى تحصر مهمة النبي في البشارة والإنذار والبلاغ فحسب، لكن ما حدث في التاريخ الإسلامي أمر مختلف صنع رباطا قويا بين الدين والسياسة هو الذي خدم الجماعات لاحقا في تكوين بذرة الحكومة الدينية بالعصر الحديث واعتبارها حكومة إلهية مختارة من السماء، أو بتعبير الشيخ محمد حسان وقتما كان مؤيدا للرئيس المصري الأسبق "محمد مرسي" سنة 2013 أن مرسي له شرعية سياسية ونبوية، والتعبير الثاني مرتبط بالإله حيث كان بلاغ النبي رسالة الله يلزمها الإيمان بعلاقة مباشرة بين شرعية مرسي والسماء..

الإسلام السياسي لكي يصل لهذا النفوذ لدرجة أن يحكم دولة كبيرة كمصر وبصندوق انتخابي ديمقراطي لم يكن الدعم المالي والسياسي الخارجي وحده مؤثرا، أو لعب أتباعه على المشاعر الدينية للجمهور واستغلال حب الناس لدينهم في خدمة سلطة إخوانية تعمل لصالح أقلية من الزعماء والأمراء الإسلاميين دونا عن الأغلبية، إنما هناك عاملين آخرين هم الأكبر تأثيرا:

الأول: إقناع المسلمين أنهم مهددون، فالغريزة الاجتماعية البشرية تميل للاتحاد والتجمع إذا شعرت القبيلة والمجموعة بالخطر، فكان مطلوبا أن يصل المسلم لحالة نفسية وشعورية أنه مهدد من طرف الكفار وأعداء الإسلام لكي يجتمع ويتحد تحت راية واحدة ينبذ فيها خلافاته، وهذا العامل هو الأكثر تأثيرا على الإطلاق في رفع شعبية الجماعات، ونُلاحظ أن أسلمة المجتمعات - وفقا لمذهب الإخوان الديني - حدثت على فترات الأولى حين شعر الناس بالخطر من الشيوعيين والجيش الأحمر ، ودامت هذه الفترة منذ نشأة الإخوان حتى نهاية الثمانينات، وجزء كبير من خطاب الجماعات الديني كان موجها للتحذير من مؤامرات وخطر الشيوعيين على الأمة بوصفهم دعاة إلحاد وانحراف وانحلال أخلاقي مطلق..

الفترة الثانية وهي منذ حرب الخليج سنة 1990 ونجح الإسلام السياسي فيها بتخويف المسلمين من الغرب وأمريكا وإقناع المسلم العادي بمؤامرات أوروبا وأمريكا على الإسلام، وتأكد هذا الخوف بعد قرار الرئيس الأمريكي الأسبق "جورج بوش" بغزو أفغانستان سنة 2001 والعراق 2003 وتهديده بغزو دول أخرى كسوريا وليبيا وإيران، وهذه الفترة هي التي أدت لنجاح أسلمة الشعوب العربية والإسلامية (بسرعة فائقة) حيث نلاحظ انتشار كافة مظاهر الدين من الحجاب والنقاب في هذا التاريخ بشكل سريع جدا، حتى أن القنوات السلفية الفضائية التي بدأت بقناة إقرأ في نهاية التسعينات تغير خطها التحريري إلى السياسة واللعب على نفس الوتر الديني السياسي بإقناع المسلم أنه مُستهدف وأن الإسلام في خطر بعد 11 سبتمبر، حتى ختموا القصة بسيل كبير من القنوات الفضائية السلفية منذ عام 2005 أدت لتحول شامل وجذري للجماهير المسلمة لتبني عقائد الإخوان والجماعات أيدلوجيا ومذهبيا..

وما يمر به المسلمين الآن بعد الثورات في 2011 من حروب أهلية وطائفية وعشرات الملايين من الضحايا والمشردين، إضافة لدمار دول كاملة ومجتمعات هو نتيجة طبيعية لسلفنة وأخونة المجتمعات قبل يناير، وإقناع الناس بأنهم مستهدفين بشكل مستمر حتى تحول المسلمون لأيدلوجيا عصبية وعدوانية جاهزة للتعبئة والموت فداءا لإسلامهم المُهدد، ولولا غطرسة الولايات المتحدة وتقوية هذه الجماعات في السابق ضد السوفييت ما حدثت كل هذه الكوارث..

العامل الثاني: صُنع أرضية خصبة تعبوية للإسلام السياسي عن طريق إحياء صراعات التاريخ من جديد، ووضعها في سياق اجتماعي وسياسي ملائم للظرف الجديد الذي يشعر فيه المسلم بالخطر، وأعني بذلك أن سلوك الجماعات في تخويف المسلمين كان يصاحبه نشاطا موازيا لإحياء الفتن الطائفية من بواطن الكتب التاريخية وإلقاءها على مسامع الناس، فكثرت بين السنة دعوات (خطر الشيعة) مع فتح ملف هذا الصراع الديني الذي تكرر كثيرا بين البويهيين والفاطميين والصفويين من جهة، وبين السلاجقة والأيوبيين والعثمانيين من جهة أخرى، في المقابل كثرت بين الشيعة دعوات (خطر النواصب الوهابية) وقد أدت هذه الدعوات الطائفية الحمقاء في قتل ملايين المسلمين من الطرفين في العراق وسوريا واليمن، وقد كان يصاحب تلك الحماقة اتهامات بالخيانة لأمريكا من كلا الطرفين، فالسنة ولأنهم يشعرون بالتهديد من الغرب وأمريكا نظروا للشيعة أنهم عملاء سلموا العراق للمحتل الأجنبي، والغريب أن الشيعة نظروا للسنة بنفس الصورة وهي أن السنة عملاء لأمريكا الذين استضافوا قواعدها لضرب بغداد..

ولولا أن الخطاب الديني للجماعات نجح في تخويف المسلمين من الغرب وأمريكا وإقناعهم بالمؤامرة ضد الإسلام ما وجدت هذه الدعوات الطائفية قبولا بين العامة، وما صدقها أحد، لكن السني الخائف والذي يسمع روايات الخيانة الشيعية في إسقاط المغول لبغداد في القرن 13 م ثم يرى مشاهد احتلال أمريكا للعراق مع اتهام الشيعة بالمسئولية سيربط مباشرة بين الكافر الأمريكي وبين الشيعة ليضعهم في صندوق شيطاني واحد هو الذي أشعل الفتنة الطائفية وشجع مئات الآلاف من السنة للتطوع ضد الجيش السوري، مما أدى لحملة شيعية مضادة للتطوع بدعوى درء الخطر الوجودي على شيعة الشرق الأوسط، وهي سلسلة مترابطة تماما وأحداثا متصلة ببعضها، ليثبت التاريخ أن حوادثه لا تظهر صدفة بل بعوامل ومقدمات مرتبطة وزاهية التفاصيل..

إن هذين العاملين هم الذين صنعوا شعبية حقيقية للإسلام السياسي ودفع ملايين الناس لاختيارهم في صندوق الانتخابات بوصفهم أبطالا سيُنقذوهم من الخطر المؤكد، ويعيد للإسلام قوته بعد ضعف..فالإسلاميون إذن صنعوا شعبيتهم من الكراهية والصراع لا من السلام والحب، فهذه الأمور (كالتسامح والسلام والحب وقبول الآخر) هي التي تنسف دعوى الجماعات من جذورها، وتخصم من رصيدهم وشعبيتهم بين الجماهير، وكلما عاش الناس آمنين مطمئنين لا يشعرون بالخطر والتهديد كانت دعوى الجماعات لا معنى لها، حيث ترتكز دعوى الإخوان في تخويف الجماهير المسلمة على أن المسلم الخائف على نفسه ودينه لن يختار إذا قدم الإخواني نفسه منقذا ..في ظل خطاب سياسي تقدمي وعلماني للدول العربية لا يهتم لهذا الخوف الجماعي ، ولا ينظر إليه كتهديد مُحتمَل مما يدل على محدودية الرؤية السياسية للحكام العرب قبل يناير، فهم جميعا قد ساهموا في إشعال هذا الخطر وخدمة الجماعات بأشكال مختلفة..

أختم بأن الناس جميعا يتحاربون الآن على ثلاثة كنوز (السلطة والثروة والدعايا) فهذه الثلاثية كانت ولا تزال هي مصدر أساسي للصراعات أستثني الفترة الأولى للإنسان المعاصر وقتما كان يتصارع على الجنس والفوز بالإناث، لقد اختفى ذلك بشكل كبير وتحول من المجموع إلى الفرد..بمعنى أن أجدادنا كانوا يتقاتلون على الجنس بشكل جماعي ويمكن أن تحارب دولة وقبيلة شعبا آخر من أجل النساء، لكنه وبعد التطور البشري الأخير والحضارة المعاصرة التي ألقت بظلالها التنويرية على الدول اختفى هذا العامل وانتقل من كونه سلوكا للدولة والقبيلة إلى سلوك للأفراد هم الذين ورثوا تلك الآفة حيث نجد حوادث قتل كثيرة مصدرها الجنس..

أما السلطة فأعني بها (القوة بكل أشكالها) سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو عسكرية، فإذا حصلت هذه القوة على مساحة كبيرة في الخطاب الديني تحول الدين إلى مادة صراع يجري تقديمها للناس على أنها دفاعا عن الدين، لكنها في الحقيقة صراعا على القوة ومن له الحق أن يكون قويا ليفرض نفسه وأسلوبه ويشعر هو بالأمان، بينما أقصد بالدعايا (الإعلام بكل أشكاله) وهذا مصدر جديد للصراع لم يوجَد في السابق إلا بشكل طفيف، فالإعلام لم يعد وسيلة لنقل المعلومات مثلما كان عليه في البدايات..بل هو ركن أساسي ومصيري في حياة الأمم والشعوب، حتى يمكن القول أن أضعف الأمم إعلاما هم أضعفهم سلطة وثروة وهي أضعفهم حضارة وثقافة أيضا، فالإعلام هو الذي يصنع الثقافة والفكر والمعرفة ..ومن ثم صار الصراع عليها يحتل جانبا كبيرا من حياة البشر الآن..

وبالنسبة للإسلاميين فهم يُحاربون في هذا الاتجاه أيضا، فهم يُصارعون الحكام سياسيا بينما يصارعون المثقفين والتنويريين دعائيا، إنه صراع من نوع خاص على الحقيقة يُمكنهم من اختراق المجتمع وفرض هيمنتهم الدينية وتخويف الناس ونشر دعاياهم بكل أريحية دون قلق، فإذا وجدوا من ينتقد هذا النشاط منهم ويشكك العامة فيه يسارعون في اتهامه بالكفر وحشره ضمن (دائرة الخوف) السابقة، فيكون المثقف عميلا لأعداء الدين ويتآمر مع أمريكا على الإسلام..هكذا دون أي جهد علمي للرد أو استقصاء معرفي، ولولا أنهم بارعين في صنع الأعداء الوهميين من فرط حرصهم على تخويف الناس والسيطرة عليهم ما وجدوا المثقف عدوّا بل ربما صديقا يشاركهم بعض الأهداف النبيلة..إنما المثقف يبقى هو الذي لديه القدرة على فرز تلك الأهداف فيُبقي على النبيل منها والصالح ويطرد الحقير منها والفاسد..

الحوار المتمدن

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...