فلسفة اللعب المفتوح

16-11-2021

فلسفة اللعب المفتوح

لم يتوقع البروفسور الأميركي جيمس كارس (James P. Carse) عندما نشر عام 1986 كتابه (الألعاب المغلقة والمفتوحة) أو (Finite & Infinite Games) التأثير الكبير الذي سيحوز عليه في عالم السياسة وعالم الأعمال الأميركي، وهو ما دفع الأميركي سايمون سينيك (Simon Sinek) عام 2010 لنشر كتاب بنفس العنوان اقترح فيه تحديثاً لنموذج كارس مع تطبيقه بشكل واضح وصريح على عالم الأعمال. 

يحدد كارس في مطلع كتابه وجود نمطين من الألعاب التنافسية الأقل، المغلقة والمفتوحة. هدف اللعب المغلق أن تفوز وفق قواعد محددة، خلال زمنٍ محدد، وبلاعبين محددين كما هو الحال في مباريات كرة القدم. أما اللعب المفتوح فهدفه أن تستمر في اللعب طالما أن اللعبة غير معرّفة تماماً، وقواعدها قابلة للتبدل، والزمن فيها غير محدد، واللاعبون متغيرون كما هو الحال في الصراعات السياسية أو تنافس منظمات المال والأعمال.

عقدة الكتاب ركزت على مدى نجاح اللاعبين في جعل استراتيجيتهم تتوافق مع طبيعة اللعبة التي يمارسونها. ففريقي كرة القدم المتنافسين في الميدان يعرفان أن أحدهما سيفوز في لعبةٍ تدوم 90 دقيقة ضمن قواعد معرّفة وبلاعبين محددين؛ هذا واضح؛ إلا أن المشكلة تبدأ عندما لا يعي أحد اللاعبين طبيعة لعبته، فيمارس لعباً مغلقاً في وجه لاعبٍ يمارس لعباً مفتوحاً أو العكس. 

يضرب كلاً من كارس وسينيك مثالاً على ذلك حرب فيتنام. فالأمريكيين عند غزوهم لفيتنام خاضوا حرباً مغلقة أرادوا فيها انتصاراً خلال زمنٍ محدد وبقواعد اشتباك محددة، في حين خاض الفيتناميون حرباً مفتوحة مستمرة دافعوا فيها عن وجودهم بقواعد اشتباك متغيرة. لذا، هزمت الولايات المتحدة لأنها لم تفهم لا طبيعة الخصم ولا طبيعة اللعبة جيداً.

يضيف كارس: في بعض الأحيان تكون اللعبة مفتوحة والطرفان متفقين على اللعب المفتوح ومع ذلك تنتهي اللعبة بهزيمة أحدهما (وليس بانتصار الطرف الآخر !) هذا يحدث كثيراً  في عالم الأعمال والتنافس بين الشركات الكبرى عندما تراكم شركة خسائر في مواردها مقابل منافسيها؛ وهو ما ماحدث عسكرياً بشكلٍ نموذجي في الحرب العالمية الثانية عندما خاضت كل الأطراف حرباً مفتوحةً بلا زمانٍ ولا قواعد محددة، لكن هزيمة الألمان حدثت لأن مواردهم انتهت  مقابل استمرار الحلفاء وعلى رأسهم الولايات المتحدة بتأمين موارد كافية سمحت للحلفاء بالاستمرار.

يقول سينيك بأن الأميركيين تعلموا سياسياً وعسكرياً من هزائمهم وقلصوا من حالات اللعب المغلق في وجه أعدائهم، وتحولوا إلى لاعبٍ يخوض صراعات مفتوحة في وجه منافسيه. هذا ما فعلوه مع الاتحاد السوفيتي وما يحاولون فعله مع فنزويلا وإيران لثقتهم بأن مواردهم الأقوى والأوسع تسمح لهم بإدارة لعبةٍ طويلة يسقط في نهايتها خصمهم باستنزاف موارده  !

باختصار، وباستنتاج من نموذجي كارس وسينيك، لا يوجد حل للدول الأصغر في مواجهة أي تنافس عالمي اقتصادي أو سياسي، أو صراع على البقاء يحافظ على وجودها وتقدمها في لعبة سياسية واقتصادية مفتوحة على مستوى العالم، وضمن منظومة عالمية صار البقاء فيها لأصحاب الموارد الهائلة، إلا بالاعتماد على ثروتها الوحيدة التي لا تنضب، وهي "مواردها البشرية الشابة المؤهلة والمتعلمة والكفوءة". هذا ما فهمته الكثير من الدول سواءً في شرق آسيا مثل ماليزيا وسنغافورة وأندونيسيا أو في منطقة الشرق الأوسط  مثل إيران وتركيا (وتحاول اليوم دول مثل مصر والإمارات العربية المتحدة وتونس تطبيقه)، وهي دول استطاعت أن تبتدع سياسات جديدة ومبتكرة في العمل والتشغيل وتحفيز الشركات التكنولوجية الناشئة وتشجيع رأس المال المغامر ورفع جودة التعليم وترسيخ الرعاية وزيادة الاستقطاب كي تحافظ على مواردها الشابة المؤهلة، وتستقطب موارد مؤهلة إضافية من خارج حدودها، وتمنع أي نزيف فيها بما يضمن استمرارها في المواجهة المفتوحة إلى مالانهاية !

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...