غسان الرفاعي: خواطر في (العناية المشددة)

02-11-2009

غسان الرفاعي: خواطر في (العناية المشددة)

ـ 1 ـ قد يكون من الأرجح، في مثل هذه الأوقات العصيبة التي يجتازها الوطن العربي، والمناخات السوداء التي يعيشها المواطن العربي أن نسعى إلى الاعتصام في غرف (العناية المشددة)، لعل ما يتوافر فيها من أجهزة الكترونية للقياس والتسجيل، ومن شاشات الإنذار المبكر، كاف لإضاءة مستقبلنا، وإزالة الظلمة عن مصيرنا.

خيل إلينا، في مطلع هذا العام، بعد أن اقتحم (باراك أوباما) البيت الأبيض، حاملاً شعاره: (نعم، نحن قادرون yes we can) أن النظام العالمي الداعر الذي فرضه الرئيس (بوش) على العالم، على أساس الانشطار بين الأخيار والأشرار، وحتمية الحروب الاستباقية، سوف يتشقق وينهار، وأن هناك احتمالاً مؤكداً بأن يحل محله نظام عالمي جديد، يقوم على مبادئ اليد المفتوحة، وتعددية الاستقطاب، وبعد أن توجه (اوباما) برسالتين إلى العالمين العربي والإسلامي من أنقرة ومن القاهرة، وبعد أن منح جائزة نوبل للسلام، تكرس اعتقاد، في كل مكان، أن الازدهار السياسي، والاقتصادي، والأخلاقي أضحى في متناول اليد، وعلى الأبواب. ‏

ـ 2 ـ ‏

ولكننا استنقعنا في خيبات الأمل، وتلاحقت علينا الفواجع والكوارث، خاصة في عالمنا العربي والإسلامي: سحبت من التداول، في كثير من المراوغة، مشاريع السلام العادل، وتفتت شعار (تجميد) المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية، وتفسخ حل قيام الدولتين، وتصاعدت إجراءات تهويد القدس، والاعتداءات على قدسية المسجد الأقصى، وأعلن عن مناورات مشتركة غير مسبوقة، هي الأهم منذ قيام إسرائيل، بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ‏

وصوتت الولايات المتحدة ضد تقرير غولدستون، وأعلنت عن معارضتها بحث التقرير في مجلس الأمن، حرصاً منها على (السلام العادل) وتعثرت المصالحة الفلسطينية، وازداد الردح والصخب بين الفصائل، وتفاقمت المجازر الطائفية والمذهبية والاثنية في العراق، مخلفة مئات الضحايا من المدنيين الأبرياء، أطفالاً وشيوخاً ونساء، واشتدت وطأة الحرب الأهلية الدموية في اليمن، مستخدمة الطائرات، والمدفعية والصواريخ، مخلفة وراءها الدمار والخراب، ومئات الألوف من المهجرين، وبدأ الجيش الباكستاني حربه الهمجية على مناطق طالبان، كما كثرت حوادث السيارات المفخخة والقنابل العنقودية مستهدفة الأسواق والفنادق والمؤسسات الرسمية، واعترف الجيش الأميركي بأنه عاجز عن إشاعة السلام في أفغانستان، وأعلنت قيادة حلف الأطلسي عن عبثية الاستمرار في حربها الهمجية على الشعب الأفغاني، وتهاوت مساعي رأب الصدع في السودان والصومال، وأصبح يحق للمحافظين الجدد والقدامى في الولايات المتحدة أن يرفعوا أصواتهم، وأن يظهروا شماتتهم، وأن يملكوا الجرأة للحديث عن عودة الولايات المتحدة إلى الهيمنة على شؤون العالم باستفراد وعنجهية. ‏

مرة أخرى ننظر إلى اللوحات الالكترونية في غرف العناية المشددة، لمعرفة حركة مؤشراتها، ونتساءل: ما المصير الذي ينتظرنا؟ ‏

ـ 3 ـ ‏

إن العالم، على ما يبدو، يعيش حالة من عدم التوازن، وقد يكون من المستحسن -كما يقول جان فرانسوا كان ـ أن يحتبس المواطنون الأسوياء في غرف العناية المشددة، لمعرفة ما ينتظرهم في المستقبل. لقد أتيح لي أن أحتبس في مشفى بومبيدو مدة أسبوعين، بعد إصابتي بأزمة قلبية، وقدر لي أن أتابع عدة قضايا، قد تبدو هامشية، ولكن الاهتمام الإعلامي المبالغ به، قد أظهر أنها تعطي صورة عن البثور التي تطفو على سطح المجتمعات الغربية المعاصرة. ‏

أول قضية التهمت الإعلام، المرئي والمسموع والمكتوب، هي القبض على المخرج السينمائي -النجم رومان بولانسكي في سويسرا ـ لاتهامه، منذ فترة طويلة، باغتصاب فتاة قاصر لا يتجاوز عمرها الـ 13 عاماً. وقد ظهرت نجوميته بعد إخراجه لفيلم (عازف البيانو) فكرست (موهبته الاستثنائية) -كما يقال ـ في الأدبيات، ولعل الدفاع المستميت الذي تفوه به وزير الثقافة الفرنسي الجديد (فريديريك ميتران) ابن أخ الرئيس الراحل (فرانسوا ميتران) عن (بولانسكي) هي القشة التي قصمت ظهر البعير -كما يقال ـ إذ قال عنه: (الموهوبون لا يسألون عما سيفعلون، ثم أن ما اقترفه هو هفوة من طيش الشباب لا يجوز أن تطارده حتى آخر أيامه..). ‏

المثير في قضية القبض على (بولانسكي)، وتسليمه إلى قضائه في الولايات المتحدة انها طرحت ثلاثة إشكالات كانت مثار جدل عاصف في المجتمع الأوروبي عامة، وفي المجتمع الفرنسي خاصة. الأول: (المعاملة الخاصة التي يحاط بها الموهوبون من كتاب وفنانين ومبدعين. يقول (جاك جوليار)، المعلق في مجلة (لونوفيل اوبزرفاتور)، الموهوب إنسان استثنائي ولا يجوز أن نتصرف معه في إطار القواعد السلوكية المرعية. لقد أقدم (التوسو) على خنق زوجته، ودخل (جان جينه) السجن أكثر من مرة لإقدامه على سرقة المخازن الكبرى، واتهم (سيلين) بعداء السامية، ولكن هذا كله مغفور لهم، انهم عباقرة موهوبون، وقد أتحفونا بكتب هي من أهم تراثنا الثقافي. إن الموهبة محمية، ومغفور لها..). ‏

الإشكال الثاني أن(بولانسكي) يهودي من أوروبا الشرقية، ويزعم بأنه قد ذاق بعض عذابات الهولوكست في شبابه، وان اغتصابه للفتاة القاصر لم يكن أكثر من رد فعل على معاناته، ولهذا لابد من الصفح عنه. أليس من المستغرب أن يطرح بعض المثقفين اليهود من الذين يفاخرون بإلمامهم بالتحليل النفسي فكرة (الانتقام كرد فعل على الاضطهاد) لتبرير سلوك الإسرائيليين في فلسطين الذي يمتاز بالحقد والكراهية وحب الانتقام من الإنسان الفلسطيني..؟ ‏

وكيف نفسر الافتتاحية التي كتبها (براندان اونيل) في مجلة (السيكتاتور) اللندنية: علينا أن نفهم سلوك (بولانسكي)، لقد عاش الهولوكست، فلماذا لا يذيق الهولوكست لمن يكونون تحت رحمته؟!. ‏

الإشكال الثالث أن وزير الثقافة الفرنسي هو الذي تولى الدفاع عن (بولانسكي) بحرارة، وهو معروف بشذوذه الجنسي، وبأنه مؤلف كتاب: (حياة سيئة!) الذي نشر قبل توليه الوزارة بـ 4 سنوات. قامت (مارين لوبن) ابنة الزعيم اليمين المتطرف المعروف بنشر مقاطع من كتاب وزير الثقافة الفرنسي الجديد (فريديريك ميتران) يعترف فيه بأنه كان يمارس (السياحة الجنسية)، في تايلاند، وانه كان يختلي ببعض (الغلمان) في شقق مرذولة لممارسة شذوذه الجنسي، وكان مما قالته (مارين لوبن): وزير ثقافتنا يدافع عن الاغتصاب، لأنه مصاب بما هو أفدح من الاغتصاب، ممارسة الجنس مع الغلمان. ‏

ـ 4 ـ ‏

وثاني قضية استقطبت هواة الثقافة الساخرة، من يسار ويمين هي قضية مزمنة مطروحة منذ بدء الخليقة، ولكنها تكتسب معاني جديدة في كل عصر ولعل الحافز التحريضي إلى إثارتها مجدداً، وبهذه الحدة والقسوة، نشر صورة لكهول السياسة الغربية، بعد سقوط جدار برلين، وكان اللافت في الصورة أنها تجمع وبشكل استثنائي، كل شيوخ الشأن العام الأوروبي، وقد برزت بشكل كاريكاتوري، تجاعيد وجوههم، وارتجاف شفاههم، وحركة آذانهم بشكل آلي يدعو إلى السخرية، ونشرت مجلة ألمانية الصورة على امتداد غلافها بالألوان، وكتب تحتها: (يا الله ما أقبح رجالاتنا! أهؤلاء هم الحكماء الذين سيرعون مصيرنا؟). ‏

وفجأة بدأت عروش بعض شيوخ فرنسا التقليديين تنهار تحت ضربات الفضائح الأخلاقية والسياسية والمالية: أدين (شارل باسكوا) وزير الداخلية المزمن، ومن كبار المتسلطين على الحياة السياسية بالرشوة، وقبض عمولات غير شرعية لقاء عقد صفقات لبيع الأسلحة لزعماء إفريقيين، وأحيل (جاك شيراك) رئيس الجمهورية السابق إلى القضاء بتهمة انتحال وخلق وظائف وهمية في بلدية باريس حينما كان رئيساً، وحكم على (فيليبان) رئيس وزراء فرنسا السابق المعروف بنزاهته وصرامته بالسجن بتهمة التزوير وتشويه سمعة مسؤولين سياسيين مثل (ساركوزي) لإسقاطه في انتخابات الرئاسة، وأصدر (جيسكار ديستان) رئيس الجمهورية السابق رواية مختلفة عن قصة حب عاشها مع الأميرة (ديانا) البريطانية كانت مثار سخرية أجهزة الإعلام البريطانية والأوروبية عامة. ‏

وسلطت الأضواء على كتابين أحدهما من تأليف الكاتب الثوري رفيق (غيفارا) (روجيس دوبريه) بامتداح الشيخوخة ورفض حضارة التصابي المزيفة، والمطالبة بتبجيل شيوخ فرنسا (الحكماء) وعدم التفريط بهم، والثاني من وضع الفيلسوف الألماني (نيتشه) الذي يدين الشيخوخة ويعتبر حكمة المتقدمين في السن مسحوقاً تجميلياً يرش على الخرف، ويدين العجز الجسدي والعقلي ويطالب بتصفية سلطان الشيوخ على المجتمع الحي، وبإسقاط صولجان الترهل والتآكل وملكوت التراخي والعجز. ‏

ـ 5 ـ ‏

قد يتخذ الواحد منا قراره (الجائح) بالانسحاب من (الشأن العام) إما بدافع التقدم بالسن، أو بعد قناعته باللاجدوى والعبثية، أو لتسرب خوف غائم في تلافيف دماغه، أو بسبب التعب والإرهاق، وحينئذ يضع خطة لبرمجة انسحابه تقوم على تضييق دائرة المعارف والأصدقاء، والتخلي عن الكثير من الهوايات (الفائضة عن الحاجة) واختيار مكان قصي للاستجمام يتوافر فيه شرطا الهدوء والنظافة، وشراء مجموعة الكتب (الجادة والهازلة معاً) وفجأة يسرقه مشهد داعر على شاشة التلفزيون، أو خبر مثير تردده وكالات الأنباء، أو مشاجرة فكرية في مطبوعة أو مركز ثقافي، فتتجمد الفكرة، وينسحب (الانسحاب) وإذا به يشعر من جديد، أنه مناضل مراهق، وأن خندق المقاومة بانتظاره، فيرفع قبضته ويبصق على الأرض، ويشتم الزمان والأوغاد، ويهتف: (ولو بقي من عمري شهر، أو أسبوع، فلن أسكت، ولن أبتعد، وسأغمس قلمي بالوحل والدم...!). ‏

إن أجهزة القياس الالكترونية في غرفة العناية المشددة التي تراقبك وتراقبها، قادرة وهي تضيء وتنطفئ، في وتيرة غير منتظمة تغريك بسحب (الانسحاب) وبرفع قبضتك واتخاذ قرار (المقاومة). ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...