غسان الرفاعي: بوصلة عتيقة ترسخ في الذاكرة

06-02-2012

غسان الرفاعي: بوصلة عتيقة ترسخ في الذاكرة

-1- ها قد مضى ربع قرن تقريباً، وأنا أتحاشى مقهى كلوني ومطعم بروكوب المزروعين في حي سان جرمان دوبري، لا لأنني لا أستملح أجواءهما الشابة الصاخبة، بعد أن كانا منتدبين للمثقفين الملتزمين من كل المِلل والنِحل، ولا لأنني على عداوة مع «الهامشيين» الجدد الذين يترددون عليهما، وإنما لأنهما مرتبطان بذكريات مريرة، لا أريد أن أستعيد ولو النزر اليسير منها.

لقد شهد مقهى كلوني- وقد اختفى الآن ليحل محله مطعم إيطالي شعبي- بدايات التحرك الثوري العربي، وكان يتردد عليه الرواد الأوائل من مفكري النهضة العربية، وكم من اجتماع عاصف عقد فيه، وكم من المشاحنات العنيفة جرت في طابقه الأول، ثم تلاحقت الهزائم على الأمة العربية، واختفى الرواد الأوائل، ولم يعد يتردد على المقهى- قبل أن يحل محله المطعم الإيطالي- إلا خليط متنافر من الشباب ممن يرتدون الجينز الأزرق المجعلك، ويمضغون العلكة الأمريكية، فبرمت فيه، وانقطعت عنه، فيما يشبه «المقاطعة النهائية» أما مطعم لوبروكوب فقد كان بؤرة للثورة الفرنسية، وللمتمردين من الشباب الفرنسي المتأثرين بوجودية (سارتر) وعبثية (كامو) وفوضوية (باكونين) كان يتردد عليه- وقد أنشئ عام 1674- كبار أقطاب الثورة الفرنسية، من أمثال (روبسبيير) و(دانتون)، قبل أن تتدحرج رؤوسهم تحت المقصلة، وبقي المطعم المفضل لكل الأجيال المتعاقبة من الثوريين، ولاسيما جيل الانتفاضة الطلابية لعام 1968، ثم تبدلت إدارة المطعم، وانقلب إلى مطعم بورجوازي لا يقصده إلا المترفون من ذوي الياقات البيضاء، وبعض المرتشين من مقاولي الثورات في العالم الثالث. ‏

ولكم أحزنني أن ينقلب المقصفان المزروعان في حي السان جرمان دوبري إلى «اسطبلين» للمتسكعين والمتملقين، وأن تكشط الذكريات المتوهجة على جدرانهما من سياق حياتي الفكرية والاجتماعية، وأنا أشعر بفداحة هذا الفقدان ومرارة الفراغ الذي يستتبعه. ‏

-2- ‏

في أواخر الخمسينيات لم نكن أكثر من قطيع هائج من الشباب المسكونين بالفوضى الفكرية، والتسكع الأيديولوجي، والانتفاخ الوطني، ولكننا كنا من غلاة المتفائلين الذين يؤمنون بأن المستقبل لا بد أن يكون مرتسماً لطموحاتنا وامتداداً لصبواتنا كنا ندافع عن تراثنا بنزق وكبرياء، ونرفض التمييز بين غثه وسمينه، أليس هو الذي أعطانا هويتنا ومنحنا هذا التمايز الحضاري وكنا ندافع عن «الثورية» بجنون وتعصب، ولا فرق بين ثورية (بسمارك) القومية، أو ثورية (روبسبيير) الشعبوية، أو ثورية (لينين) الأممية، كنا نرفض التسويات، بحماقة وترفع، ونحن على ثقة بأننا على صواب، وكانت تنقصنا «البوصلة» التي تحدد لنا طوبوغرافيتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية، وتهدئ من غلوائنا، وتكشف لنا أن «الأصنام» التي منحناها التقديس إنما هي من صنع الظروف والأنانيات والطمع، وأنه يتوجب علينا أن نفحصها بعناية، وفي تعقل وبصيرة. ‏

وأنني لأذكر اجتماعاً حاشداً في الطابق الأول من مقهى الكلوني، تناوب على الكلام فيه عدد غفير من الشباب المتحمسين، تفننوا في الدعوة إلى التفجير والتدمير، بهدف تعبيد الطريق نحو المستقبل الوضاء المشرق، وفي آخر الاجتماع كان أحد الخطباء يردد بلا توقف: «وماذا تريدون؟» وكنا، وقوفاً نردد بصوت كالرعد: «المعاول، المعاول!» كما أذكر اجتماعاً حاشداً آخر في الصالة الكبرى في مطعم لوبروكوب، ضم جمهوراً كثيفاً من شباب غاضبين مزمجرين، وكان خطيب آخر يهتف: «إلى المتاريس، إلى المتاريس!» ومرت السنوات الثقال، بكل ما تحمله من مرارة، وخيبة أمل، وهزائم ونكسات، وإذا بنا نكتشف أن المعاول لم تهدم الفساد والظلم، وإنما هدمت طموحاتنا وتفاؤلنا، وأن المتاريس لم تقم لحمايتنا من الجور والطغيان، وإنما لترسيخهما، وإعطائهما المزيد من حقن المناعة والقوة، وما زلنا نتساءل:«وأين البوصلة؟». ‏

-3- ‏

حينما التقيت الدكتور (محمد عابد الجابري) تلامحت في ذهني ذكريات المقهى والمطعم وقررت بدافع من اللاشعور الثاوي في داخلي أن يكون اللقاء معه في المقهى أو المطعم أنا أقرا له منذ عشر سنوات، وأتابع نشاطه السياسي والثقافي، وهو ينتقل من ندوة إلى ندوة، بلا تعب ولا ملل، فيزداد يقيني بأنني أمام طاقة هائلة وموهبة فذة، لقد نجح في نقل المناقشات الأكاديمية الجافة إلى الشارع العربي، فانقلبت إلى مصارعات ساخنة في الميادين والساحات، ويعود إليه الفضل في نفض الغبار عن المرجعيات في التراث القومي، وفي ربط وجوه المعاصرة بالجذور التراثية كان المقهى يرمز إلى المعاول، والمطعم يرمز إلى المتاريس، والدكتور (الجابري) يحاول أن يضع بين أيدينا البوصلة ألم يقل في كتابه الجديد: «والأم التي ترغب في مولود يخرج من رحمها محكوم عليها أن تتحمل غثيان الوحام ووخزات الجنين وتقلباته، وما يستتبع ذلك من عسر الوضع، وأحياناً من عملية قيصيرية, وإذاً فالديمقراطية في مجتمعنا العربي ليست انتقالاً من مرحلة إلى مرحلة, بل هي ميلاد جديد, وبالتأكيد ميلاد عسير...» ‏

-4- ‏

ما أستبقيه من الحوار الطويل مع الدكتور الجابري أربع أفكار: ‏

أولها: أن مفهوم التاريخ في الوعي الأوروبي هو صراع من طرفين, بين نظامين, بين نموذجين, وعندما سقط الاتحاد السوفييتي, وسقط النموذج الشيوعي، دعا فوكوياما إلى سيادة النموذج الليبرالي على اعتبار أنه نهاية التاريخ, ولكنني لا أقبل بهذا التفسير للتاريخ, لأننا نعيش صراعاً مع الغرب والصهيونية, وهذا معناه أن تاريخنا بحاجة إلى دفعات جديدة, لأننا لم نحقق بعد دولتنا الوطنية, ولم نتوصل بعد إلى اختبار النموذج الأفضل، المشكلة في الفكر الغربي أنه لا يستطيع أن يعيش من دون خصم آخر كعنصر محرك للصيرورة التاريخية, ولأن هذه الصيرورة تسعى إلى خلق نقيض داخل دائرتها, قد يؤدي إلى قيام انشقاقٍ خطير/ إذاً لابد من التخلص منه, ولتلافي هذا الانشقاق يحاول الغرب تجاوزه إيديولوجياً بالكذب على النفس, وهذا ما يدفعه إلى طرح اقتراحات, لعل أخطرها الزعم بأن العدو الجديد سيكون الخطر الأخضر أي العرب والمسلمين, أو العدو الأصفر أي الصين، هذه العملية هي محاولة لنقل التهديد الانشقاقي الداخلي إلى الخارج, بهدف المحافظة على الوحدة, يجب أن نعي- ونحن نفكر بواقعنا العربي المعاصر- أن هذا السلوك من طرف الغرب هو من الثوابت الحضارية عنده وفي حين يعني الآخر عندنا طرفاً متميزاً وهو ليس بالضرورة العدو, يعني الآخر في الغرب العدو والخصم لإثبات الذات. ‏

-5- ‏

وثانيها: هناك ثلاثة نماذج مطروحة في الوطن العربي، النموذج التراثي والنموذج الغربي، والنموذج التوفيقي، التيار الأول يرى أن الحل هو في الرجوع إلى السلف الصالح الذي أقام الدولة العربية، وطرح حضارة متكاملة، وقد يكون هذا الطرف إسلامياً أو قومياً، الطرف الثاني الليبرالي أو المستغرب يرى أن الحضارة المعاصرة ترتبط بالغرب، أما تراثنا الديني أو القومي فهو شيء ينتمي إلى الماضي وينبغي تجاوزه أو التخلي عنه، أما الطرف الثالث فيحاول التوفيق أو الجمع ويضم معتدلين من هذا الطرف أو ذاك، وبعد أن تبين أن هذه الاتجاهات لم تؤد إلى حل المشكلة، وأن مشكلة النهضة ظلت عائمة تطرح نفسها بصورة أو بأخرى، يخيل إلي أن الحل لا يمكن أن يكون من خلال هذه الطروحات الثلاثة، وأنه لابد من عملية تجديد من الداخل، إذ إن تراثنا ضروري ولكن ليس كما يظهر في مستودعات التاريخ الضيقة، أو كما يبدو لنا في الصورة المنحدرة إلينا من عصر الانحطاط، بل كما يجب أن نفهمه في ضوء مشكلاتنا، ومازال مطلوباً منا أن نجدد أنفسنا من داخل أنفسنا وأن نرتبط بالعصر لا بالاندماج فيه بشمولية كاملة لعلها أمر من الامبريالية، بل علينا الاستفادة من منجزات الحضارة التكنولوجية ومارافقها من إبداعات إنسانية، ولكن بهدف بناء أو إعادة بناء حياتنا الخاصة كقومية، كهوية، كدين، كتاريخ، كحضارة. ‏

وثالثها: مايجري اليوم من نكبات ومآس مجرد فصل من فصول سابقة وأخرى لاحقة. التاريخ لم ينته بل هو مازال يضع بداياته، وإذا قارنا ما عانيناه وما نعانيه، مع ما عانته وتعانيه أوروبا في ثلاثة قرون، من حروب دينية وطائفية وشوفينية وإمبريالية، فإن ماجرى لنا هو لاشيء بالقياس، هذا هو التاريخ ويجب علينا في هذه الحقبة، أن تتولد عندنا الثقة بأننا مازلنا قادرين على صنع تاريخنا. إن الكثير من الأخطاء التي اقترفتها الحركة القومية العربية في الخمسينيات والستينيات تقع فيها مجدداً الحركات الإسلامية والتوجهات الفكرية الإسلامية، وأهم هذه الأخطاء الاعتقاد بمبدأ «أنا وحدي في العالم»، لقد تجاهل القوميون في نشوة صعودهم كل الحركات الأخرى، واعتبروا أن التحالف معها هو تحصيل حاصل، ولكن لابد من التذكير أن أي فصيل من فصائل الحركات السياسية أو الفكرية، سواء كانت إسلامية أو قومية، أو غيرها لا تستطيع أن تحمل الأعباء المطروحة في العالمين العربي والإسلامي وحدها، ولابد من العمل على إقامة كتلة تاريخية من جميع القوى التي تنشد التغيير لمصلحة المستقبل العربي، ولا يجوز أن يستثنى أحد من هذه الكتلة التاريخية، لا أصحاب المال ولا الكادحون، ولا الثوريون ولا حتى هؤلاء الذين هم في واقع السلطة ويشعرون بضرورة قيام نوع من التعامل الجديد مع شعوبهم ومع خصومهم تحقيقاً لمشروع ستكون من أولى مهامه لاتحقيق الوحدة العربية أو الإسلامية بل الحفاظ على الوحدة الوطنية في كل قطر عربي، ودرء مخاطر التمزق التي تهدد العالم الثالث بالعودة إلى نظام العشائر لا نظام الدولة. ‏

ورابعها: يستشهد (الجابري) بحديث ديني: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وهو أضعف الإيمان!» ويؤكد أن المنكر في العالمين العربي والإسلامي في هذا العصر يأتي من جهة واحدة هي الدولة: هناك من يريد أن يغير المنكر بيده، وهناك من يريد أن يغيره بفكره ولسانه، وهناك من يعمل المستطاع حتى يحقق أضعف الإيمان. أما الذين لاينخرطون في عملية التغيير هذه فهم ليسوا مثقفين في المفهوم الدقيق للكلمة، قد يكونون علماء أو أطباء أو فقهاء، أو مؤذنين، لكنهم ليسوا بمثقفين، ذلك أن الحرب ستكون بالسيف والقلم، وإن من يسخّر قلمه ضد طرف كمن يوجه إليه سيفه، والقول الفيصل في هذه المسألة يتحدد في ضوء البحث عن الخصم الحقيقي، هناك أخطاء وتجاوزات في كل صراع من الصراعات التي نعيشها، ودور المثقف هو التنديد بهذه الأخطاء والتجاوزات، وهنا لابد من التنديد بالذين يستخدمون سيوفهم ضد أبرياء وضد الذين يستخدمون أقلامهم في خدمة الطغيان وأنصاره. ‏

وفيما يتعلق بالسلطة فلابد من التمييز بين مستويين، مستوى عام وآخر خاص، السلطة على المستوى العام لا تزال مشكلة في جميع البلدان وجميع الثقافات وجميع الحضارات، وقد أشبع (أفلاطون) هذه المسألة بحثاً في «الجمهورية» كما تناولها فقهاء الإسلام وفلاسفته، على أن السلطة في أوطاننا مازالت خاضعة للقبيلة والطائفة، والعقيدة، ومازالت السلطة خاضعة لنفوذ وتوجيه هذه المحددات، لذلك فصاحب السلطة لا بد له لكي يبقى ماسكاً زمامها من أن يكون صاحب قبيلة أو صاحب غنيمة (أي يشتري الذمم)، أو صاحب عقيدة أو زعيم طائفة أو حزب على اعتبار أن الأحزاب في معظمها تعتمد على منطق الطائفية، وهنا لابد من حل المشكلة، أي من تحويل القبيلة إلى مؤسسة مدنية، وتحويل الغنيمة إلى اقتصاد إنتاجي وتحويل العقيدة إلى رأي، هذا ما يجب أن نناضل من أجله. ‏

-6- ‏

كم نتوق إلى «بوصلة» تنير لنا الدياجير التي تحيط بنا، ولاسيما بعد أن سقطت كل الفراديس الموعودة، وبدأنا نستجدي الاستقرار والأمن، ولو أتى من إبليس، خيل إلينا أننا اكتشفنا هذه البوصلة في الخمسينيات، ثم خاب أملنا، فهل هناك بوصلة جديدة أخرى، أم أن خيبة أمل تنتظرنا، آجلاً أم عاجلاً؟. ‏

د. غسان الرفاعي

 المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...