غازي أبو عقل: تأملات في الظاهرة الكلبية (1)

06-04-2010

غازي أبو عقل: تأملات في الظاهرة الكلبية (1)

الجمل: غازي أبو عقل

يرى بعض المهتمين بمسيرة صدقي إسماعيل الفكرية أنه شتَّت جهوده بين الأجناس الأدبية من المسرح إلى القصة إلى الرواية والنقد والدراسة والترجمة دون أن ننسى الشعر أيضاً. أعني هنا الشعر العاطفي "الرومانسي" الذي اهتم به في البدايات. وعلى الباحث في آثار صدقي – إذا وجد – معالجة هذه النقطة وتأثيرها على إنتاجه كله في حياته القصيرة.
 ما أُعنى به هنا، هو الجانب الآخر من آثاره. الجانب الساخر النقاد الذي تجلّى في صحيفته الجميلة "الكلب". فهو لم يتوقف أبداً عن ممارسة هذا "الجنس الأدبي" منذ أن بدأ يكتب إلى آخر يوم في حياته. أيكون بالمستطاع تصنيف هذا "الجنس" في باب الشعر لأنه كتب "بأسلوب موزون مقفى"؟ لست من أصحاب هذا الرأي. فلقد أعطت هذه الصحيفة، التي كانت تصاغ بأسلوب موزون – وغير متزن برأي بعضهم – أعطت "الشعر" نكهة الصحافة، ونزعت عنه ملامح الوقار المضجر بعد أن سخرت من أغراضه وانتقدتها، موظفة شكله التقليدي لسرد وقائع الحياة اليومية، والتعليق عليها من موقع النقد أو السخرية، ومتخذة من أغراضه التقليدية من مديح ورثاء بشكل خاص دريئة تصيبها كل يوم. وابتكرت للصحافة أسلوباً ممتنعاً يقف حاجزاً يحميها من أرجال المعتدين عليها. ومن هذا المزيج – المتفجر أحياناً – من مقدارين من الشعر وثلاثة مقادير من الصحافة، أبدع صدقي صحائفه المتعددة الأسماء: فلتات المنشار والجسر والكلب. وبقيت هذه التسمية الأخيرة عنواناً جديداً فريداً مميزاً بين إبداعاته المتنوعة، لم ينقطع عن إمدادها كل يوم بنقطة أو أكثر مما تقطِّره أعصابه المستَفزَّة تحت قناع ابتسامته الملتبسة وهدوئه الظاهر. مما ينم عن صحفي أصيل خلف مظهر أستاذ الفلسفة، لم يحمل عصره على محمل الجد اللازم لمثل هذي الحمولة.
 هل "للكلب"، كتسمية اختارها صدقي عنواناً نهائياً لصحيفته، أي أهمية، وهل تشكل مؤشراً له مغزى ما؟ لا بد من التوقف قليلاً عند هذه النقطة لأن "المؤسس" نفسه لم يحاول إيضاح أسباب اختياره، بل سَبْرَجها علينا (أي عَمّاها) حين قال عندما اعتمد اسم الجسر مؤقتاً، عندما أقام في حي الجسر الأبيض الدمشقي المعروف:


       وفاء لحارتنا قد دعونا      جريدتنا باسمها فاعلموا

وكان اسمها الكلب من قبل ذاك   ولكن مغزاه لا يُفهم

  أليس الصحافةُ رمز النباح     وإن لكلاب به أقدمُ

 وبعد أن استقر رأيه على "الكلب" قال لمراسل أسبوعية عربية تفسيراً لهذا الاختيار: "الكلب هو الكائن الوحيد الذي يحق له النباح دون أن يلزمه أحد بشيء". متناسياً أنه كثيراً ما يتلقى الركل والقذف بالحجارة إذا نبح في الوقت والمكان غير المناسبين. وكثيراً ما يكف عن النباح ويصمت إيثاراً للسلامة.

مؤسس "الكلب" هل هو "كلبي" فلسفياً أو "كلبوي"؟
 "رأيٌ إليه قد انتهيتُ" بشأن "الكلب" هو تخمين مجرد ليس أكثر. متسائلاً عما عناه صدقي بقوله: وكان اسمها الكلب من قبل ذاك ولكن مغزاه لا يُفهمُ. فما هو هذا المغزى إن لم يكن إشارة إلى المدرسة الفلسفية الإغريقية القديمة، مدرسة أنتستانس وديوجانيس وأتباعهما، الذين عُرفوا باسم الكلبيين.
 الكلبي في المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا هو الرجل الذي ينتقد التقاليد والأوضاع وقواعد الأخلاق بتهكم ويخالفها بغير حياء.
 أما لو عدنا إلى كتاب "نقد العقل الكلبوي" للفيلسوف الألماني المعاصر بيتر سلوترديك، لقرأنا هذا التعريف للمثقف "الكلبي" كما عرفته العصور القديمة من ديوجانس إلى لوقيانوس السوري: شخص غريب الأطوار، أصيل متوحد منزو، أخلاقي استفزازي وعنيد مصمم.
 ويسميه سلوترديك "الكلبي KUNIQUE ابن المدرسة الفلسفية الإغريقية. [الكلب بالإغريقية KUNOS-KUON]. فهل استمر الحال على المنوال نفسه إلى اليوم؟ يرى سلوترديك أن الكلبي الأصيل قد تحول إلى "كلبوي" CYNIQUE. وهذا النوع يفضل المساكن المريحة على برميل ديوجانس وهو يشكل الحالة الحدّية للكآبة المبهمة. وحين يهاجم العالم الخارجي فإنه يحاول بذلك إنهاء صراعه الداخلي وتصريفه... إنه يضرب الآخرين ولكنه يستهدف نفسه.
 كتب سلوترديك عن الكلبوي المعاصر، بعد انقضاء نحو عشرين سنة على ثورات الطلاب في أوروبا، وسخر من زملائه ثوا ر 1968 الذين استخلصوا من فشل تلك الحركات فقدان الأمل بكل تغيير، فراحوا يبرهنون عن واقعيتهم وانتهازيتهم وانصياعهم بأن أصبحوا اليوم يديرون المنظومة التي كانت تثير "غثيانهم". هؤلاء هم "الكلبويون الكاملون". إنهم الجراء التي تحتج وتكشر عن أسنانها (لا عن أنيابها) لأنها لم تعد تعرف لا النباح ولا العض. وما يميز الكلبوي دائماً هو تحالفه مع الذي يدمره ويجعله تافهاً. بينما الكلبي فهو الأصيل الذي يلتهمك بلقمة واحدة إذا دست على ذيله. وديوجانس هو الكلبي فعلاً عندما زجر الإسكندر فسارع هذا إلى الابتعاد لأنه حجب الشمس عن القابع في البرميل.
 أما اليوم فالمفكر القدوة هو الذي يسعى ليحصل لنفسه على وظيفة مستشار فني في بَلاط الملك، بعد أن كان أول النمامين بمثالبه وأعنف مغتابيه، حيث يلمس بتلذذ مرير مدى السقوط الذي آل إليه.
 علق جال لوريدر على كتاب سلوترديك بقوله: لا يوضح سلوترديك بدقة المعايير التي تتيح تمييز الكلبي عن الكلبوي بلا احتمال الخطأ. وفي هذا اللاوضوح تكمن حقيقة أواخر هذا القرن، فالمثقف هو في آن دكتور جيكل الممتاز والسيد هايد البشع. إنه كلبي في أحلامه الثورية وكلبوي عندما يستيقظ وينظر إلى المرآة.
 هل أتجرأ استناداً إلى ما سبق، فأحاول "تصنيف" مؤسس "الكلب" وتحديد "انتمائه" إلى واحد من التيارين؟ لست في هذا الصدد، بل هي مهمة الباحث في "سيرته الذاتية".
 ولكنني لن أتردد عن العودة إلى "الكلب" في محاولة "لإغناء النص" كما يقول الباحثون الجادون. فأتوقف عند الزاوية الفلسفية في "كلب"، حزيران 1965 وعنوانها: فلسفة الماء عند بديع الكسم.
للماء في التعريف أسماءُ
  فالثلج جوهره هو الماءُ

 وهو البخارُ.. وهو الكحول.. وهو الفراغ أي السراب، وهو الحياء إذا أردتَ به ماء الوجوه وفيه آراءُ. وهذه الآراء في كيفية فقدان ماء الوجه.. فالحسناء تفقده في "زعرنات الحب"، ويفقده المناضلون في اللغو والضوضاء. أما الفيلسوف فإنه يفقد ماء وجهه: إذا "تكون له نفسٌ أمامَ الحكمِ خَضراءُ". وهذا يلتقي بما كتبه سلوترديك ولكن بعد صدقي بنحو عشرين سنة.
في فلسفة النبات:


    رأي إليه قد انتهيتُ         الزرعُ أعقلُ ما رأيتُ

لو كان إنساناً لقال         عرَفتُ أصلي فاهتديتُ

ووضعتُ فلسفةً وفي        تفسيرها دوماً حَكَيْتُ

بالعقل واللاّعقل لو غيري   استحى كنت استحيتُ

 لَعنَ الإباءُ أبا الذين          أبَوا لذلك ما أبيْتُ

بالإمكان استخراج نماذج كثيرة وأمثلة من مجموعة "الكلب" بعضها كلبي وبعضها كلبوي ولكنها لا تشكل دليلاً على موقف صاحب الجريدة الساخرة. والمطلوب كما أسلفت البحث عن المواقف الفعلية لهذا المثقف الكبير إذا كان هناك من يريد أن يعرف إلى أي تيار كان ينتمي.
 كنت بدأت بالتساؤل عن معنى تسمية "الكلب" وأعود إلى نقطة البداية، فأشير أن الجريدة الفريدة خَصّت الفلسفة بمكانة ملحوظة، ولا غرابة فرئيس التحرير أستاذ فلسفة، ويضيق المجال هنا عن التنويه بكل ما جاء عنها على قلمه في "الكلب" ولكن تجدر الإشارة إلى عدد آذار 1964 الذي تضمن "تحقيقاً" فريداً بعنوانُ الرحلة". كتبه صدقي إبان رحلته إلى باريس يومئذ. والطائرة تحلق فوق بلاد اليونان وإيطاليا وصولاً إلى فرانسا. وصدقي يسترجع "من عليائه" ذكرى الفلاسفة القدامى ومن هم أقل قدماً، ويقدم نبذة عن رؤاهم الفلسفية دون أن ينسى الجو السياسي الراهن أيام الرحلة. وهي بحق "معلقة" ندر مثيلها. ولكن الأمر الغريب الذي لا يد من من ملاحظته هو إغفاله ذكر المدرسة الفلسفية "الكلبية" وروادها، مما يضعف الأطروحة التي تعتبر تسمية "الكلب" تتضمن إشارة إلى تلك المدرسة. ولما كانت الطائرة تحلق فوق أثينا، كان رئيس تحرير "الكلب" يكتب:
    وحاصلهُ ركبنا الجوَّ حتى  وصلنا في المساء إلى أثينا

ولم نهبط ولكنا ذكرنا      فلاسفة العصور الأولينا

ذكرنا يوم أفلاطون أفتى    بترك الحكم للمتفلسفينا

وطار بنا الخيالُ إلى أرسطو   معلّمنّا وشيخ معلّمينا

ذكرنا كيف أثّرَ بابن رشدٍ   فلخّصه وجُنَّ به  ابنُ سينا

 بعد أفلاطون وأرسطو ووقارهما الرصين، ينتقل صاحب المعلقة الفلسفية إلى واحدة من مدارس الفلسفة الإغريقية القديمة. مدرس محبي المتع والرفاهية والحياة اللذيذة المتميزة بنوع من رهافة الذوق في اختيار تلك المتع مدرسة أبيقور وشيشرون:
    لنا متع الحياة إذا وردنا   ينابيع الحياة مهذبينا

وهذا رأي تلميذ عظيم   لأبيقور يدعى شيشرونا

 إن التعريف "المدرسي" للأبيقورية يلفت النظر إلى ضرورة "رهافة الذوق" في البحث عن المتعة، أي الابتعاد عن "الغرائزية البهيمية"، ولم تفت صدقي هذه النقطة الحساسة، فجاءت "إذا" وردنا ينابيع الحياة مهذبينا.
 أغفل صاحب "الرحلة" ذكر رواد المدرسة "الكلبية" من فلاسفة الإغريق القدماء. مما أجبر واحداً من محرري "الكلب" على لفت نظر رئيس التحرير – ولكن بعد فوات الأوان – ورحيل صدقي باكراً، مبدياً استغرابه – أعني المحرر – لهذا التناسي:
    ذكرتَ جميع من كانوا قديما    يعدّهم الورى متفلسفينا

من الإغريق والطليان أيضاً    فكيف نسيت جدّك "ديوجينا"؟

 سؤال من غير المتوقع أن يتلقى جواباً في المستقبل المنظور.
جرائد صدقي إسماعيل والجمهور
 كان صدقي إسماعيل دون العشرين عندما ظهرت موهبته في الصحافة الساخرة المكتوبة بالأسلوب "الموزون المقفّى". وفي حي زقاق الصخر الدمشقي – على ما أظن – حيث أقام مع عدد من إخوانه "اللوائيين" في منزل مستأجر، ظهرت "فلتات المنشار" أولى الصحف الساخرة التي شارك في تحريرها لأن "العاملين فيها" كانوا جمهرة دُونت أسماؤهم على صحفة خاصة تحت هذه العبارة: (قَصَّه وجلّده وحرره ورتّبه ونظّمه وجمعه وصححه وعلّق عليه وساهم في نظمه الإخوان): سليمان أحمد (العيسى) ومسعود (الغانم) ووهيب (الغانم) وصدقي إسماعيل ويوسف شقرا وجميل سيف الدين. دوّنت المجموعة في دفترين مدرسيين، كتب صدقي في أحدهما "نشيد الاستقلال"، عندما أصبح الشيخ تاج الدين الحسيني رئيساً للدولة إبان الحرب العالمية الثانية بعد دخول القوات البريطانة دمشق ومعها وحدات "فرانسا الحرة" العام 1941. أجمل ما في النشيد "لازِمته":
    إن سوريا استقلت     بعد صخب وهياج

أدركت أقصى أمانيها   بعهد الشيخ تاج

والمعروف أن مؤلف النشيد ولد في أيار 1924.
 ظهرت "الكلب" من نحو نصف قرن، دون أن يحصل صاحبها على امتياز لإصدارها، وكانت بلا موعد صدور محدد، ولم تعرف طريقها إلى المطبعة إلا مرة وحيدة العام 1969. لكنها كثيراً ما احتلت المكان الأول على جدول الأفضليات مع أركيلة صدقي وكتابه وكأسه. ولا أظن أنه أهملها يوماً لأنها "مجاله الحيوي"، وذريعته لتخفيف الضغط الوجودي على أعصابه. وما كان ينقصها إلا الجمهور، وبقيت "المقالات" الساخرة النقادة بلا قراء عملياً. لا يطالعها إلا قلة من الأصدقاء. ومع أن صدقي بقي سنوات عدة على رأس المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، ثم اتحاد الكتاب، فهو لم يحاول الحصول على "امتياز" لإصدارها. ومازلت اذكر كم حلم حسيب كيالي "بمجلة" رئيس تحريرها صدقي إسماعيل ورسامها على فرزات وهيئة تحريرها مؤلفة من حسيب نفسه وأحمد إبراهيم عبد الله ومحمد الماغوط وغسان الرفاعي. وكان يقول لي: سيبقى اسمها "الكلب" وسنجعلها توزع مليون نسخة في بلاد العرب. لم يتحقق حلم حسيب لأنه مثل صدقي وأحمد إبراهيم لم يعد قادرا على السخرية. بينما يحاول محمد الماغوط وعلي فرزات ما بوسعهما، في صحف ومجلات لا تنتمي إلى التيار "الكلبي" النقاد، بل إلى التيار الكلبوي المعاصر.
 صدرت "الكلب" علناً، بعد رحيل صدقي بعشر سنوات، في كتاب من ستمئة صفحة – بالحرف الكبير – بإشراف الأستاذ سليمان العيسى الذي كتب في المقدمة: (الآن تصدر "الكلب" مطبوعة في هذه الحلة القشيبة، ولم يخطر لها حين كانت تُخَطُّ في زاوية المقهى أنها تكتب لكي تُطبع ذات يوم. وتصبح واحدة من أندر الهبات الأدبية والفنية في أدبنا قديمه وحديثه.
 لا أدري ما عسى يمكن أن يكون رأي صدقي إسماعيل رفيق الطفولة والعمر، في صدور جريدته هذه لتكون مُلكاً للأجيال العربية لو كان بيننا الآن؟).
 مع احترامي لحماسة الأستاذ العيسى لإصدار "الكلب" في كتاب بعد رحيل صدقي، وقناعتي بأن "ما لا يُدرك كله لا يُترك جلّه" إلا أنني كنت وما زلت "متحفظاً" لا محافظاً" في هذا الشأن. لقد طبع من كتاب "الكلب" نحو عشرة آلاف نسخة على ما أذكر، لأن المشرفين على المشروع كانوا على ثقة من إقبال الجمهور على تخاطفها فور صدورها،  ومضت السنوات وألوف النسخ مكدسة في مستودع ما  في حدود ما أعرف -. فكيف حصل ما حصل "لواحدة ن أندر الهبات الأدبية والفنية في أدبنا قديمه وحديثه"؟ الإجابة ليست معقدة، لأن "الإنسان عدو ما يجهل"، فالجيل الذي كان ينبغي له أن يقرأ "الكلب" "في حينه"، ويستمتع بسخريتها وانتقادها، لأنه يعاصر الأحداث التي تتناولها، لم يتح له معرفتها. فلما صدرت في كتاب بعد لأي، لم يقم أحد بالتعريف به على نطاق واسع لسبب ما، فبقي غريباً عن الجمهور العريض. وأعرف شخصياً شباباً اشتروا الكتاب ولكن لم يتجاوبوا مع مضمونه بشكل عام، لأنهم وجدوه "بلا أهمية آنية". كما أن إحساسهم النقدي غير النامي لم يسمح لهم بالتفاعل مع النقد والسخرية ذات المحتوى "الفكري" إن صح التعبير، رغم تخرجهم في مدرسة "غوار". أو لربما بسبب ذلك.
 مراعاة للظروف الموضوعية، قام الأستاذ العيسى بتخليص بعض المواضيع، التي اعتبرها حساسة، من براثن "الكلب" وحجبها عن القراء. وهذه إشكالية جديرة بالاهتمام ولم ينج "محررون ثانويون" ظهرت أسماؤهم في المجموعة من يقظة الأستاذ العيسى. ولما كنت واحداً من المعنيين بالحذف سأسمح لنفسي بسرد  حكايتي، مع كوني غير حريص على التكلم عن نفسي في سياق الحديث عن "المعلم" الذي شغفني "كلبُه" ومازال، ولكن لا ضير من الإيضاح أحياناً.
 بعد غياب صدقي إسماعيل، استأذنتُ السيدة زوجته باستعارة ما بقي من أوراق تضمنت أعداد "الكلب" من أجل تصوير نسخ عنها، وحفظها لدى بعض أقرب أصدقاء الراحل العزيز خوفاً من فقدان هذه الأوراق. وهكذا كان، وأعيدت الأصول إليها.. وعندما فكّر الأستاذ العيسى في نشر المجموعة في كتاب، فاتح العماد مصطفى طلاس بالأمر، وكان متحمساً لأعمال صدقي، وقدم مساعدة مهمة لولاها لما ظهرت ولا نشرت. وبدأ الأستاذ سليمان مراجعة الأوراق وإعدادها للنشر، معمداً على النسخة الموجودة عنده، ولكنه وجدها غير واضحة فطلب الاستعانة بنسختي مع أنها مماثلة للنسخة الأخرى، وكان رأيي أن يستعين بالأصل الذي أعيد إلى زوجة الأستاذ إسماعيل. ولما كنت غير متحمس لإصدار "الكلب" في حينه، تلكأت في إعارته نسختي. "فاستعدى" علي العماد طلاس.
 وكتب "مشروع هجاء" لي بمناسبة "احتجازي النسخة الأصلية من جريدة الكلب وترددي في المساعدة حين تقرر طباعتها" [مجموعة الكلب الصفحة 583]. وعملاً بتقاليد الجريدة، أرسلت ردي على الاتهام بالاحتجاز، شرحت فيه وجهة نظري التي ترى تأجيل النشر. وذكّرت الأستاذ بأنه كان معارضا لا لنشر المجموعة كلها فحسب – بل لقيام الأستاذ زهير مارديني بنشر مقابلة مع صدقي حول "الكلب" في الأسبوع العربي عام 1963. وجاء في احتجاجه على النشر يومئذ قوله:
   زعلتُ على الكلب العزيز يُصوَّرُ   وفي صفحة الأسبوع بالأمس يُنشرُ

زعلت عليه، صار كلباً كغيره     له ذنبٌ مثل الجميع يُجرجرُ

لك الله ودعت الرفاق وجوَهُمُ     وكم يخسرُ الإنسان ساعة يُشهرُ

أضاعك صدقي خلف فنجان قهوة   وساقوك من قدّامه وهو ينظرُ

كتبتُ إلى الأستاذ "أبي معن" مذكراً بخسارة الإنسان ساعة يُشهرُ. وقلتُ له:
    لم أحتجزُ كلبا ولا جملا   و"أرى" هجاءك كان مُفتعلا

[...] أما طباعته فقصتها    تتحمل التمحيص والجدلا

رأيي بأن الناس ما نضجوا   لقبول من أعطى لنا المثلا

بالعمق في فهم الأمور وكم     قالوا إذا ما جد قد هزلا

والناس، لا أعنى سوادَهُمُ     كلا ولكن أقصد النُبلا...

ظهر ردي في المجموعة دون بيت القصيد، أي الأخير.
 والحكاية الثانية مماثلة، حيث جرى حذف بيت آخر من رسالة بعثتُ بها إلى "الجريدة" من مهرجان السلام في صوفيا العام 1968. وفيها وصف لوقائع المهرجان ولقاءات الوفد السوري وكانت منصبة كلها على القضية الفلسطينية. وفي السياق كتبت:
     ليس يبني الشعوب إلا دماها   هذه حكمةٌ تجىء ببالي

غير أن اليهود شذوا وشادوا   كلَّ ملكٍ لهم على الأموال

سيروا في ركابهم أممَ الغرب   ودقوا إسفينهم في الشمال

واستعانوا بالشرق منذ أقاموا   في فلسطين دولة الاحتلال.

 حُذف هذا البيت أيضاً، لخشية الأستاذ العيسى على الصداقة العربية السوفييتية من الانهيار بسببه. وأكتفي بهذين المثالين، وأكرر شعوري بالحرج، لأنهما جراني إلى الحديث عن نفسي في مجال مخصص لأستاذنا صدقي إسماعيل، ولظاهرة صحيفته "الساخرة النقادة".
 أذكر حواراً بعيد رحيل صدقي، دار بين الشاعر علي الجندي وبيني حول ظاهرة "الكلب" والأستاذ علي من أكثر المعضوضين منه – فكان رأيه: أن مثل هذا "الشعر" لن يكتب له البقاء لأنه "ابن ساعته" وغير جدي. وعندما يتاح نشره تكون مناسبته قد فات موعدها مما يحرمه التأثير في القارئ".
 إن "تأخير النشر" مسيء فعلاً لا لجريدة "الكلب" وحدها. ولقد مرّ على العرب حينُ من الدهر، وجدوا فيه من نهاهم عن وأد بناتهم، فأقلعوا عن تلك العادة الذميمة. فمتى يقيض لهم من ينهاهم عن وأد بنات أفكارهم وصبيانها، ويمنح صدقي إسماعيل وحسب كيالي وأحمد إبراهيم عبد الله، امتياز إصدار "الكلب" في العالم الآخر طبعاً. الوأد إذن هو الذي أبقى مئات النسخ من المجموعة الكاملة "للكلب" في المستودعات. وهو الذي يولّد العقد والانحرافات والتطرف، عند المثقفين على الأقل.

ما بعد "الكلبية":
 كانت "الكلب" ظاهرة حديثة بالمعنى الذي يتجادل حوله المتجادلون اليوم ولكنها غير معروفة عند الجمهور، بينما عرف كثيرون قصص صدقي وترجماته ورواياته ومسرحياته، ولم تحظ "الكلب" بعد رحيله بمن يمحصها كظاهرة، ويدرس ما لها وما عليها. باستثناء مدرس من  اللاذقية كان منذ عدة سنوات يحضر لأطروحة دكتوراه في جامعة القديس يوسف في بيروت موضوعوعها "الكلب" انقطعت عني أخباره منذ مدة. وكنت علمت منه أن الأستاذ المشرف على أطروحته فوجىء مفاجأة سارة بالموضوع معرباً عن دهشته لوجود هكذا صحافة.
 تستحق الظاهرة، من  وجهة نظري، دراسة جدية، لأنها تضم منجماً بوسع المنقب الماهر أن يستخرج منه ما ينفع الناس. مع تقديري الكامل لكوابح مثل هذه الدراسة. فالبيئة لا تحب النقد المجرد، فكيف تطيقه إذا تمازج بقليل من السخرية المريرة؟.. ولكن بوسع الشباب من دارسي الأدب والاجتماع والسياسة الالتفات إلى هذه التجربة ومثيلاتها. ولكن هل لصحيفة "الكلب" مثيلات؟ ربما. فهناك "قزّيطة" نجاة قصاب حسن المتخصصة بسؤون القضاء والمحاماة على سبيل المثال. ولا بد للباحث المجتهد من أن يكتشف بعض "الكلبيين" هنا وهناك ممن أحبوا تلك التجربة وحاولوا مجاراتها.. ومن تجاوزوها في بعض المجالات كالأستاذ أحمد إبراهيم عبد الله، والأستاذ محمد حيدر.
 خريجون كثيرون ما زالوا يتقدمون بأطروحات عن معلقةٍ أو أكثر لشاعر من أسلافنا العظام. ونادراً ما تأتي قراءاتهم المعاصرة بجديد. وفي الكلب أربع معلقات تستحق دراسة معاصرة. معلقات "حداثية" بكل معنى الكلمة، لأن الكلب كانت ظاهرة حداثية. ونحن نتساءل عمّا بعد "الكلبية" مثلما يتساءل غيرنا عمّا بعد الحداثة. وهو سؤال مشروع. سؤالنا أعني. وبتعبير آخر هل بالإمكان استمرار أسلوب صدقي إسماعيل بعد رحيله؟ لأن الجنرال ديغول كان يردد دائماً: لا ديغولية من غير ديغول. وهل "للكلبية" ضرورة أو فائدة تستحق لأجلهما البقاء؟ هذا سؤال يستحق عناء محاولة الإجابة عنه لمن يحب مهنة المتاعب.. أي الصحافة الساخرة النقادة. لأن الصحافة الأخرى صرمت الحبال التي تربطها لا بالمتاعب وحدها بل بالقراء "الكلبيين" طبعاً. وهؤلاء أقلية قد لا يكون من الحكمة في شيء النظر إليهم باهتمام.
* * * * *

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...