الوهم العظيم في المشروع الإسلامي العقيم

06-10-2011

الوهم العظيم في المشروع الإسلامي العقيم

أُريد لـ«أمّة الكلام» في العالم العربيّ أنْ تصدّق «الكذبة الكبيرة» التي جعلت من برنامجٍ حاسوبيٍّ «أيقونةً ثوريّةً». وأريد للأمة أن تُصدّق أكذوبةً أخرى، هي أن «البيلسان والياسمين» يمكنهما أن يُطيحا ديكتاتوراً، مضى على تربّعه على العرش عقودٌ، وعقّم البيئات الوطنيّة بفعاليّة أجهزته الأمنيّة، ومنعها من أنْ تكون حاضنةً لأيّ نشاطٍ سياسيٍّ، مهما كانت درجة تمايزه عن ايديولوجيّة النّظام الرسميّ. فكيف لهذه الأمّة أنْ تنجرف في «طوفان الألسنة» ولا تُمعن النّظر في حيثيّات «الثورات التاريخيّة» العربيّة وملابساتها؟
صحيحٌ أنّ من تصدّر «الثورات العربيّة» في نهاية هذا «الشوط التاريخيّ» هو الأحزاب الإسلامويّة والعروبيّة، بفضل بعض البُنى التنظيميّة، فاستطاعت تجيير الحراك الجماهيريّ لمصلحة مشروعها، وكانت لها الريادة في عمليات الانتقال السياسيّ، وأضحت الوكيلة غير الرسميّة لأميركا، ما أضاف إلى سلبيّاتها مزيداً من الأثقال المعنويّة. تلك الأحزاب العقائديّة (وربّما المذهبيّة)، ذات الطموح المُزمن للتغيير، لم تضع طروحاتها موضع المساءلة، رغم تاريخها في العمل السياسيّ، ولا هي وضعت برامجها وهياكلها كذلك على مشرحة المُراجعة، فيما لم يكن الجمهور أشد وعياً من تلك الأحزاب وسواها، وانساق وراء تماهي المطالب الوطنيّة الحقّة والمشاريع الحزبيّة الضيّقة، إلى ما يُمكن أن يشكّل حتفه السياسيّ والاجتماعيّ، حيث لا وعود حقيقيّة بالديموقراطيّة، وحيث الأحزاب المتقادمة البُنى والأشخاص ما زالت على حالها من تجمّد بناها وآليّاتها وأفكارها وبرامجها.
وعليه، عاد إلى الحضن الأميركيّ الدافئ ـ مرجع الشّعوب العربيّة البائسة ـ الجزء الأكبر من مشروع التّجديد الإسلاميّ، بعد مشاحناتٍ «نضاليّةٍ» لم توصل المشروع بعيداً، فظلّ يُراوح على أعتاب السّلطة وفي أفنيتها؛ وهو مشروعٌ لم يبتعد أصلاً ـ في جزئه الأكبر ـ عن النموذج الأميركيّ اليمينيّ، وبقي على حذره من اليسار وأدواته؛ وهو وإنْ نظّر طويلاً للثورة، فقد اقتصر على حركة الاعتراض، ولم يُشكّل خياراً، أو لم يقوَ على تشكيل بديلٍ للسلطات القائمة، خصوصاً في العالم العربيّ، واقتصر خطابه على البُعد النضاليّ الأيديولوجيّ، دون أنْ يُقدّم مشروعاً حقيقيّاً وجدّيّاً متوازناً شاملاً للمستويات المختلفة والمجالات. اقتصر عمله على المغالبة والتبرير، وفشل في تقديم البديل والتحليل، لأسبابٍ علميّةٍ، تاريخيّةٍ، فكريّةٍ واجتماعيّةٍ؛ فكيف لمن ناوأ هذا المشروع الإسلاميّ العروبيّ سابقاً تأييداً للديموقراطيّة أن يُؤمن بالوعود الحاليّة، ويأتمن غير المؤهّلين على مستقبله السياسيّ الديموقراطيّ؟ أليست تجارب المغرب العربيّ نموذجاً لتلك الحركات وتجديدها؟ أليس السودان مثالاً على استبسالها في سبيل الوطن؟! ولا ننسى فلسطين وسقطاتها، واليمن ونظامها، وسوى ذلك كثيرٌ.
وأزمة تيّار التجديد الإسلاميّ والعروبيّ يبتدئ من قدرته على وعي الاعتراف بالآخر، بالممارسة قبل الفكر، على أن يتجلّى ذلك بتركه حيّزاً مناسباً لكلّ الأفكار والتشكيلات السياسيّة والاجتماعيّة في نسيج المجتمع الكبير، دون أن يهضم الآخر حقّه، سواء بتدخّلٍ «إيجابيٍّّ» من طرفه، أو بأداءٍ «سلبيٍّ» ـ وفق النموذج الأميركيّ ـ لجهة محاصرة الآخر، ورميه بكلّ التقييمات السلبيّة القاتلة؛ وهو ما نراه اليوم في كثيرٍ من الأماكن، ولم تنتصر «ثوراتها» بعدُ، فكيف بها إذا كانت السلطة ملك يمينها، ولها الإمرة على النّاس وأرواحها؟ فبالتأكيد أنّها لن تكون خيراً من الأنظمة السالفة، حين هي تكرّس نفسها مرجعيّةً للتقديس والتكفير، وللطهرانيّة والتدنيس...
وتتجلّى الأزمة الحزبيّة والفكريّة لدى تيّار التجديد الإسلاميّ والعروبيّ، في افتقار تجربته إلى الأفكار الديموقراطيّة، وكذلك ممارسته، التي عجزت عن مقاربة الشروط الفكريّة والاجتماعيّة للديموقراطية، ما يجعل التيّار الإسلامويّ العروبيّ غير مؤهّلٍ لقيادة التحوّل نحو الديموقراطيّة في العالم العربيّ، والإمساك بقيادة السلطة البديلة؛ فالديموقراطية لا تقتصر على الاقتراع في دوراتٍ انتخابيّةٍ، كيفما اتّفقت ظروفها، لكنّها عمليّاتٌ متكاملةٌ، وضماناتٌ، حتّى يُمكن للنّاس أن تُعبّر عن إرادتها، بعيداً عن سلطان المال والقوّة والفساد والضغوط المختلفة.
وإنْ كنّا نُشير إلى «الإعاقة الديموقراطيّة» لدى التيّار الشاهر لقيم الأصالة، فذلك لا يعني البتّة أنّ الآخرين على قدرٍ عظيمٍ من الوعي الديموقراطيّ؛ فالمجتمع العربيّ سواءٌ، وهو في «الهمّ شرقُ»، يُقيم على مسافةٍ معتدٍّ بها من الديموقراطيّة، رغم طموحه وتوقه للحياة الكريمة. وصحيحٌ أنّ غير الإسلامويّين لم يقدّموا تجارب نموذجيّةً حتّى تاريخه.
يشكّل الماضي في الوعي التجديديّ الإسلاميّ والعروبيّ بناءً كيانيّاً يُقيم عائقاً عظيماً بين هذا التيّار العريض والحداثة. لأن للتجديد منحى شاملاً يسلكه المُريد، فتتغيّر نظرته إلى الحياة وتفاصيلها، وإلى الدين والشريعة، وإلى القيم والتاريخ، وإلى الماضي والمستقبل... وذلك ما عجز عن خوض غماره تيّار التّجديد الإسلامي والعروبيّ، إذ خشي الاستسلام للحداثة تحت مسمّى التغريب، وأسلم لها نفسه تحت مسمّى التجديد، فلا هو حدّث بما ينبغي له من الحداثة، ولا هو رفضها وبنى تجربةً مغايرةً، بل دخلها على تشويهٍ عظيمٍ، ربّما أفقد الكثيرين إيمانهم بتلك التجربة؛ وها هي مقولات الأصالة، والمُعاصرة، والتغريب، وكلّ الثنائيّات الأخرى، تغرب من ساحة حوار ذلك التيّار، بعد استبيانه عقمها وجدواها، كما أنّ سياسيات التّعريب المحبّبة إلى قلوب الأغلبية من التيّار تحتجب وراء «ماراثوناتهم» اللغويّة، باتّجاه لغات الأرض العديدة.
من أسف القول: إنّ الحديث عن تجربةٍ هي بنت الأرض العربيّة ليس كلام البدعة، ولا هو من أساطير البدو، بل هو قولٌ أكيدٌ يتأسّس على الوحي، لكنّه ليس بالضرورة أن يكون كما يشتهيه البعض، ويحاول إلباسه لبوساً غريباً؛ وجلّ مع علينا فعله هو العودة الى الفطرة والسُنن الطبيعية المودعة في الكون، والمتجلّية في الاجتماع الإنسانيّ، ولنا في كلّ تجربةٍ إنسانيّة، حيثما كانت، ومهما كانت ظروفها، وأيّاُ كان فاعلها الرئيسيّ عبرة. ولن يكون للعرب تقدّمٌ وازدهارٌ وحريّةٌ وعدالةٌ... إلا إذا كان انفتاحهم الفكريّ والعمليّ ديناً يدينون به. وما نراه اليوم من عصاباتٍ يُناحر بعضُها البعض، ويرمي بعضها البعض، بما يندى له الجبين، لا يُبشّر بخير، لا سيّما أنّ القاعدة الفكريّة الحاكمة هي «نواصب وروافض»، التي يندرج تحتها وحولها كلّ النقاش السياسيّ، وإن تلبّس في بعض الأحيان لبوس «الأخلاق»، وهو عن الأخلاق بعيدٌ؛ فالثالوث الذي يحكم العقل السياسيّ العربيّ، وفق الجابري: «العقيدة، القبيلة، الغنيمة»، وقليلاً ما غلبت العقيدةُ القبيلةَ والغنيمةَ.
من هنا يمكن تفهّم هواجس البطريرك المارونيّ لأنطاكيّة وسائر المشرق بشارة الراعي، الذي يُمكن أنْ نفهم من خطابه، أنّ التغيير المُقاد اليوم من تيّار التجديد الإسلامويّ والعروبيّ، في بلاد المشرق، لا يبعثُ على الاطمئنان، بسبب قوّاده.

طارق قبلان

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...