انتقام الأمة من ذاتها

01-05-2013

انتقام الأمة من ذاتها


محمد الحصني: في أنقاض مدينة تدعى مرَدَ جرت قصة مضحكة مبكية تختصر الكثير. مرَدَ من المدن القديمة جدا في سورية الشرقية (العراق)، وهي مذكورة في النصوص المسمارية منذ عصورها المبكرة في الألف الثالث حتى آخر تلك العصور في الألف الأول قبل الميلاد. أمكن تحديد موقع هذه المدينة منذ مطلع العقد الثاني من القرن العشرين. ففي عام 1910م قام أحد تجار الآثار ببيع نص مسماري من نصوص الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني (604-562) ق.م وكان هذا النص يتضمن إشارة إلى قيام هذا الملك بتجديد بناية معبد مدينة مَرَد. طبعا وصل النص ونصوص تتحدث بنفس معلومته إلى أسواق الآثار المهربة في أوروبا، وعرف حينها أن مصدر تلك النصوص الموقع الأثري (ونه والصدوم) الذي يبعد حوالي 16 كم إلى الشمال من مدينة الديوانية، مركز محافظة القادسية حاليا، 70 كم جنوبي شرقي موقع بابل.
صادف أن اقتنت جامعة ييل الأمريكية واحد من نصوص نبوخذ نصر التي يصف فيها أعمال الترميم في المعبد الرئيسي للمدينة وهو المعبد المخصص لعبادة الإله (لوجال مَرَد = ملك مرد) وهو أحد ألقاب إله الصيد والحرب نينورتا الإله الرئيسي للمدينة.
جاء في نص نبوخذ نصر الثاني: (حينئذ، من أجل الإله لوجال - مَرَد، سيدي، بحثت عن الحجر الأساس الخاص بمعبده في مدينة مرد، وهو المعبد الذي لم يكن أي ملك سابق قد رأى حجر أساسه منذ أبعد الأيام، أنا رأيته وعلى الأساس العائد إلى نارام سين، الملك ، سلفي القديم، أقمت أساسه الجديد. نقشت نصا باسمي ووضعته في داخله.)
إذا المقطع يؤكد أن الملك نارام سين هو من بنى المعبد في المدينة، حيث درج ملوك سوريا ومنذ أقدم العصور أن يسجلوا لوحا يتحدث عن قيامهم ببناء معبد أو قصر يوضع أسفل البناء (في الأساس) على شكل لوح طيني أو مجسم معدني يشبه الإزميل مدون فيه من قام بعملية البناء. المذهل في القصة أن نارام سين (2254-2218) ق.م وهو حفيد مؤسس الدولة السورية الأولى شروكين، حكم قبل نبوخذ نصر بأكثر من 1600 عام.
بعد أقل من عشر سنوات جاء الدليل على صحة ما ورد في نص نبوخذ نصر الثاني، حين استخرج مهربو الآثار نقش نارام سين ذاته وتشاء الصدف، ربما، أن تقتنيه جامعة ييل الأمريكية أيضا ويرد في هذا النقش الذي كان نبوخذ نصر الثاني قد قرأه قبل أكثر من ألفين وخمسمئة عام من تاريخ اجتماع كلا النقشين في جامعة ييل ما يأتي : (نارام سين، القوي، ملك الجهات الأربعة قاهر الجيوش التسعة بسنه واحدة. حينما هزم تلك الجيوش وأسر ملوكها الثلاثة وأحضرهم أمام الإله أنليل، في ذلك اليوم بني لبت - إيلي، أبنه ، أمير مرد، معبد لوجال مرد في مدينة مرد، عسى الالهان شمش ولوجال مرد أن يقتلعا من الأساس أي شخص يغير هذا النقش وأن يقطعا نسله.)
بهذا السلوك النفسي الراقي والمنتصر والشاعر بعظمته ونجاحه واعترافه بفضل الآخر القديم والسابق، سجل المجتمع السوري القديم سمعة أصيلة ومعلمة ورسولية إلى الأمم، ما زالت تثير دهشة المؤرخين ورغبتهم بالتعمق في اصوله التاريخية والأسطورية والأدبية.
ليس الملك نبوخذ نصر الثاني أو نارام سين أو ابنه لبت- إيلي، سوى صورة اصيلة عن نفسية مجتمع لا يرضى إلا بالحفاظ على حقائقه الأصيلة التي تعني وجوده. بالتأكيد ستكون الصورة هستيرية في حال مقاربة هذا السلوك مع سلوك تجسد في الازمة الحالية بتحطيم تماثيل لشخصيات تاريخية، تحطيم نستطيع تفسيره بسطحية أن محطم التماثيل يعتبرها أوثانا فقام بتحطيمها، لكن في أعماق هذا الإنسان تكمن هزيمة اجيال تمتد إلى قرون من عدم معرفة الذات التاريخية العريقة، في اعماق هذا المحطم، الديمومة العريقة لوجود الوطن، جزئية جدا. تبدأ مع فترة زمنية معينة (دينية بالغالب) غير واضحة المعالم، تنتقي منها الحقائق الوجدانية التاريخية بشكل اعتباطي مبتسر التفسير، يتجسد بها هذا السلوك التدميري.
نعم، يتجسد في هذا المحطم الدمار الذاتي لمجتمع عريق صاحب ذاكرة عتيقة، حتى بدون وعيه، يتجسد في هذا الإنسان المُخَرب داخليا والمخرب بالقوة والفعل الخارجي، أجلى وأقوى صور الفشل، فشل أكبر من أن تحمله حقبة زمنية معينة أو نظام معين أو تعاليم رجل دين مشوه الروحية على محطة تلفاز تصرخ بالدين ليل نهار، فشل وظيفي أكبر من النظام التعليمي بكل مستوياته، أكبر من كل الأحزاب التي تدعي التصدي لأمراض المجتمع ومستقبل البلاد، وبالتأكيد ليس فشلا فرديا لفئة ما من المثقفين أو الطليعيين في المجتمع، كل هذه التعدادات السابقة ليست أكثر من المجتمع ذاته الذي لا نظلمه إن وصفناه: بالتجمع الفاقد لحقيقته ومعناه وغايته.
لمن يرى في كلامي السابق تجنيا أو مبالغة، فليعلم أنّ الهزيمة الحقيقية إن تجلت في إنسان لا يتورع عن تحطيم تمثال، فالهزيمة المنتظرة (لأنها كامنة) وأكثر خطرا ويقدر أن يلمسها لمس اليد في كل من أعلن الحداد على تمثال المعري مثلا، هل يحفظ قصيدة له؟ وإن كان يحفظ من شعر هذا العظيم، هل قدر أن ينقل هذه العدوى المعرفية إلى أبنه أو أبنته أو زوجته أو صديقه؟ وتقدر أن تستنتج ماذا يعني المعري بالنسبة إلى من أعلن الحداد عليه وأن تسجل على دفتر صغير ارقاما واقعية لا تفصح إلا عن هزيمة مجتمع بكل اتجاهاته ومكوناته.
1600 عام فترة أطول من التاريخ الإسلامي ذاته.
1600 عام فصلت بين ملكين على ذات البلاد، في ذات الحضارة.
1600 عام بين ملكين سوريين، يخاطب أحدهما الآخر بسلفي القديم، يحافظ اللاحق فيه على تراث السابق، في آثار تهرب إلى خارج الوطن تقتنيها جامعات أجنبية لتترجمها لنا.
1600 عام من الامتنان بين ملكين يا من تقطعون المحبة والاجتماع بين أبناء الأديان والمذاهب في الوطن الواحد.
هزيمتنا ثقافية معرفية اجتماعية بامتياز وليست السياسة والفنون والآداب والأحزاب والاقتصاد إلا مظاهر لذلك السقوط الحضاري.

التعليقات

نعم ثمّة سقوط حضاري لم نعترف به ولا نتجرأ أن نعترف به سقوط ترتب بفعل الغزو البدوي لتلك المنطقة من العالم الذي يعترف فيها اللاحق بإرث السابق ويضيف عليه فأما ثقافة الغزو التي دخلت بيوتنا ومنازلنا واستعمرت أذهاننا تحت يافطات أقنعتنا ربما خوفاً وتحت حد السيف فإذ بالقطيعة تحدث الفصل التام مع العصور السابقة بوصفها جاهلية وتحت هذا العنوان يتم تحطيم كل مابنته الحضارات السابقة ونحن مانزال تحت وقع صدمة الغزو لا بد أنّ ثمّة خللاً ما دخل منها هذا الغزو بثقافته واستوطن بنيتنا الثقافية بعد أن أوقعت فينا الهزيمة الفكرية التي ما تزال مستمرّة فينا إلى أن نتمكن من استيعاب ما أتى به الغزو لنعيد البناء من جديد محتفظين بما أنجزته تلك المرحلة ونحن على أهبة الاستعداد لاستكمال البناء والإضافة فلنستنهض جذورنا ولنستكمل البناء فثقافة قطع الرؤوس وتحطيم التماثيل ليست من الثقافة السورية هكذا تقول الحضارة السورية .

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...