جان جُنيــه هــل هــو كاتــب فحســب؟!

31-12-2010

جان جُنيــه هــل هــو كاتــب فحســب؟!

هنالك كلمة واحدة يُسَمَّى بها جُنيه هي: كاتب. قبل كونه شخصية توالى عليها الشقاء والتَّعاسة، وبطل مسلسل لا ينفد من سِيَر الحياة المختلفة، فإن جنيه هو كاتب. جُنيــه بريشة جياكوميتي
قال فاليري بكثير من بعد النظر «ينتهي كل شيء في فرنسا بالسوربون». واليوم ينهض تمثال فاليري في هذه الجامعة وبجواره، إلى الأبد، رفيق قديم هو الشاب «الأزعر» الذي تَلَقَّى جان كوكتو ذات يوم من فاليري نفسه نصيحة بإحراق كتبه.
مَن كان كاتباً أكثر منه؟ الموهوب البارع الذي لا يُضاهى في صياغة الجملة والإيقاع، العارف إلى أطراف أنامله، بالتجربة، ما الذي ينبغي فعله، لم يَدَع شيئاً لم يقرأه ولم يتعلمه ولم يفهمه، مُعَلّمٌ في فن ذر الرماد في العيون والتألق والإبهار، خبير مجرَّب في البلاغة، حاملٌ «الجائزة الكبرى» في الآداب والفنون. كاتب بكل تأكيد. شريطة أن نضيف مع ذلك، أنه إذا كان كاتباً أكثر من أي كان، فإنه كان ـ كاتباً ـ أقل من أي شخص آخر. ولئن كان ـ في آن معاً ـ كاتباً ونقيض كاتب، خدمَ الأدبَ بمقدار ما استخدَمَه، فلن يكون بوسعنا، ولن نعرف وضعَه في الطائفة الأدبية التي ينتمي إليها، دون أن نفقد في اللحظة نفسها، فَرادَتَهُ الجوهرية الأصيلة التي تجعل منه شاعراً بحق، شاعراً بالتعريف غير «الرشيد» الذي يعطيه للشعر، عندما يقول متناسياً تهذيبه المعتاد: «الشعر، هو فن استعمال الغائط وجعلكم تأكلونه».
يسبقُ الكاتبَ في إهابه، رجلٌ في حالة حرب، والبقية تتبع. يُطيع الخطةَ الموضوعة، وينخرط في لعبة ذاك الذي فَهِمَ، منذ البدء، أن الكتاب هو السلاح العظيم، السلاح المطلَق.
قد لا تكون أعمال جنيه كلها، إلا إعلان حربٍ مديدة ومتطاوِلة. الجملةُ الأولى في كتابه الأول «سيدتنا عذراء الزهور» تبدأ فوراً كما نطلق رصاصة تدل إلى العدو، تُسدد إليه بإلحاح قاهر: «بدا لكم وايدمان في طبعة الصحيفة الصادرة في الساعة الخامسة، ورأسه ملفوف بضمادات بيضاء كأنه راهبة، أو كطيار جريح سقط في حقل من الشيلم ذات يوم من أيام أيلول»..
سنفهم سريعاً أن العدو ليس وايدمان، هذا «القاتل الساحر المغري» قاتل النساء الستّ الذي أعدم بالمقصلة في باريس سنة 1939. وايدمان هو الأيقونة ـ ليس إلا ـ الذي وضعَ جُنيه كتابَه برعايته كما لو أنه يضعه برعاية أحد القديسين.
العدو الحقيقي هو الذي يُنتَزَع من مكمنه، بكلمة كأنها إصبع الاتهام التي تثقب العرف الروائي: هذه «الـ أنتُم» النافرة ,المخالِفة, التي أراد مصححُ طبعة الكتاب الأولى وضعَ كلمة «نحن» الأكثَر مؤانسة في مكانها. إلى مَن تَتوجَّه هذه الـ أنتم إذاً؟ إليكم وإليّ، إلى الناس جميعاً، إلى المجتمع بكامله، وقبل كل شيء إلى القارئ. وفي الوقت نفسه الذي يُنَبّه فيه جُنيه تواطؤَ القارئ معه، فإنه يخون هذا التواطؤ فوراً. وبين الكتاب والقاريء يَمُر خطُّ إطلاق النار.
هكذا ينتصب المسرحُ الأولَ البَدْئي، المسرحُ الكبير الخيالي لصانعه جان جْنيه. يتواجه هنا طرفان، مُعَسكران: الدنيا من طرف، وهو من طرف ثانٍ. وينطلق الأمر كله من هناك. من الزنزانة المنفردة [LA cellule - هنالك كثيرون يسمونها بالعربية السَلُّول..
لا تُشكّل «المنفردةُ»، حيث يدَوّن جنيه كتابتَه الأولى، بهذا المعنى إطاراً أو مجرد بيئة ظَرفية: إنها تُعطي لنِتاجه بأكمله المكانَ الرئيس لعَرضه وإيضاحه. ليس المهم أن يكون مُعتَقلاً أولا: ذلك أن جنيه يوجه دائماً خطابه إلى قارئه من الجانب الآخر للجدار. وهذه المسافة ليست غير مقصودة أو طارئة، ولا موقتة عابرة: إنها المدى الذي ينمو فيه خطابه ويتطَوّر كلامه، وهي الهواء الضروري لتنفسه، وهي مكمن الرامي وابتعاده في المكان والزمان لتأمل حدَثٍ ما والحكم عليه. تشبه هذه المسافة تلكَ التي تفرضها تماثيل [النحّات جياكوميتّي المرتفعة، هي أسلوب هذا العمل وأناقته وتهذيبه.
ها هي الحدود قد رُسمتْ والأدوار قد وُزّعت، ونص مسرحية الحرب جاهز، هذه الحرب التي ستدور رحاها على أرض اللغة طوال أربعين سنة دون ضعفٍ ولا كلل، مُستَعملةً وسائل الفن العسكري وحِيَله وموارده: أفخاخه وخِدَعه، تمويهه وتظاهراته المُتَصَنَّعة، انقضاضاته وانسحاباته، مكائده وتَسَلّله، تَحالَفاته وخياناته.
نُظّمت حربُ جان جنيه على غرار سلسلة من العمليات ذات الخطط البعيدة المدى. مُقلِقةً أبهاء بيت الأدب وعابرةً ردهاته المتنوعة، من شِعر ورواية ومسرح ورقص ومقالة ومذكرّات. ولسوف تدور هذه الحرب الشاملة تبعاً لأنماط ثلاثة.
النَّمط الأول ـ الرواية: عملية جبهية
يمتد أول أنماط كتابة جُنيه، وهو الأكثر سطوعاً وصخباً بلا ريب، من «المحكوم بالإعدام» إلى «يوميات اللص». هذه الأعمال التي تشير إلى دخول مرتكب الجنح إلى منصة المسرح الأدبي. دخولٌ بالخَلعْ والكَسْر بكل تأكيد. هجومٌ بارعٌ عالِمٌ ثاقب، مُلَبَّد صامت، مُزَخرفٌ تارة، فظٌ شرسُ تارة أخرى، لكنه هجوم جبهي من ناحية المبدأ ومن ناحية العَرْض: يضع هذا الهجوم، كما قلنا للتوّ، وجهاً لوجه أنا جان جُنيه، المؤلف والشخصية المتفردة، وأنتم القراء، البشر الأحرار، قوم الطرف الآخر.
يقود جُنيه هذا الهجوم باسمه الصريح، وباسم الذين يدعوهم «سجناء الأشغال الشاقة»، الذين يَعُدُّ نفسَه من فصيلتهم، من اللصوص والمخَنَّثين والداعرين والقتلة والميليشياويين والمهربين - وغيرهم من الخونة والمسوخ المخيفين، الذين يعيشون «في قفا الدنيا»، هؤلاء جميعاً تُعيدُهم مؤلفات جُنيه بالتحايل والغش وبكثير من الروعة والعظمة، في آنٍ معاً، إلى مسرح الأدب.
تنتهي هذه الحقبة في سنة 1949 تقريباً، وفيها نفسها حصَل جان جُنيه من رئيس الجمهورية الفرنسية يومئذ فنسان أوريول، على عفوٍ عن السنين التي كانت باقية والتي كان عليه قضاؤها في السجن. وهي أيضاً الحقبة التي بدأ فيها نِتاجه يفيد من بداية اعترافٍ أدبي. هكذا جاءت بشكلٍ ما هذه الفاجعة المزدَوَجة، النجاح والعفو، التي ستقود جُنيه إلى اكتئاب نفسي، جعله وهو يناهز الأربعين يفكْر بالانتحار مدفوعاً - كما قال - «بسأم من العَيش وفراغ داخلي ليس بوسع أي شيء إنهاؤهما إلا الانزلاق النهائي». ذلك أن عنف كتابة جُنيه كان على سوية الخطر الذي تَعرَّض له وتَحَمَّله.
كانت جدران السجن، التي كُتبت مؤلفاته بينها، بطريقة ما هي الضمان الغريب لحريته. ولسوف يقول جُنيه في لقاء إعلامي جرى بعد زمن طويل: «ما إن أصبحتُ حراً حتى شعرت بأني ضائع».
ضائع؟ هذا يعني أنه يخالط الدنيا، مجرداً مخلوعاً من اللعنة، مُستَثنى من الاستبعاد منبوذاً من النَّبذ، ضئيلاً إلى درجة أنه لم يَعد إلا كاتباً، فناناً بين آخرين كثيرين... توجد طريقة لخسارة الحرب تقوم على كَسْبِها.
المسرح، المناورة المائلة
صَرفَ جُنيه ستَ سنوات للإفلات من شَرَك نجاحه، والعثور على مخرج من المأزق الذي أغلقه على نفسه. زَوَّدَهُ المسرحُ أولاً بهذا المخرج. ففي تلك المرحلة كان جُنيه قد كتب عدداً من المسرحيات (رقابة مُشَدَّدة ـ الخادمتان ـ SPLENDID`S) بالإضافة إلى مسرحيتين أو ثلاث مفقودة. لكنه ما كان قد استثمر بمنهجية موارد فن الكتابة الدرامية التي تَعامَل معها بحَدْسِه يومئذ.
اكتشف جنيه مع مسرحية الشرفة LE BALCON، التي باشرها في 1954، زاوية جديدة للرماية، ومسعى مختلفاً عن الشعر أو رواية السيرة الذاتية: اكتشف إمكان الرواية المائلة، وفرصة الإغارة غير الجبهية، لكن المنحرفة وغير المباشرة. ثمة نقلة بسيطة: فنِتاجه المسرحي لا يحكي مأساته الشخصية، لكنه يفتح مخرجاً من المجابهة بين الدنيا والمؤلف. ويستبدل جدران السجن، صانعاً فاصلاً مختلفاً: هو خط الإضاءة والمساحة الموجودة بين الجمهور والمنصة ـ خشبة المسرح. من الآن فصاعداً سيُهاجم نِتاجُه المسرحي الصورة التي يرسمها المجتمع لنفسه.
يعمل مسرحُ جُنيه، عبر مرآة التمثيل، على جعل وجوه «الآخر» تلوح وترتسم على تلك المرآة «من الجانب» لاحتْ بواكير هذا التحريف، أي تغيير التمثيل وإفساده بشكل ما، منذ مسرحية الخادمتين، ثم تَطرَّف وتطوَّر في مسرحيات جنيه الثلاث الكبرى، تلك التي تضعه في النسق الأول بين المؤلفين المسرحيين في القرن العشرين: الشرفة LE BALCON، والزنوج LES NEGRAES، والسواترLES PARAVENTS. لكن جنيه وهو يهاجم مبدأ التمثيل نفسه ـ كما يهاجم الصَّدَأُ المعدنَ ـ يتوصل ببطء إلى تدمير أداته نفسها وتفتيتها.
يدور كل شيء في آخر مسرحيات جُنيه، كما لو أن المؤلف يدمّر عتاده الحربي الذي يقاتل به، وينسف الرامي ومعه دريئته. كما لو أنه بلغَ حداً خفياً دون أن يدري، وبرغم الجهود التي بذلها عبثاً ليكتب مسرحية جديدة، وبرغم الفضيحة الصاخبة التي أحدثها إخراج مسرحية السواتر على مسرح أوديون - في باريس ـ توقف جُنيه عن الكتابة وانسحب من ملعب الأدب والتزم الصمت طوال خمس وعشرين سنة.
العيد الأخير أو إبداع الخيال السياسي
إنها السياسة التي زَوَّدتْه بالطلقات الأخيرة في جعبته. سيكتشف جُنيه ـ على تخوم سبعينيات القرن العشرين ـ مع الفهود السود الأميركيين، والمهاجرين من المغرب إلى أوروبا، والمقاتلين الفلسطينيين، نوعاً من الطريق الثالثة، ويعثر على طريقة أخرى لمتابعة حربه الشخصية. سيعود جُنيه وهو في الستين، من مخيمات الفلسطينيين في الأردن إلى معازل السود في أميركا، إلى ما كان عليه في مطلع حياته: متشرداً. وسيتحول ذاك الذي كان «شاعر أضيق مدى في العالم ـ الزنزانة» ـ إلى محرر يوميات الحروب الكونية. في جوار المهمشين يقوم جُنيه باكتساب عدة مهارات: يكشف المدى الجَمعي المشتَرك للثورة. كما يكتشف وجودَ عائلةٍ تضم أولئك الذين قطعوا صلاتهم بكل عائلة، ويقبل التلفظ بمفردات كانت مطرودة من لُغته مثل كلمة أخ مثلاً، التي يستعملها السود الأميركيون كثيراً. وهي كلمة سبق له أن قال عنها إنها أكثر كلمة يشمئز منها في الدنيا من ذلك أيضاً كلمة «عيد» التي دَوَّنَتْها رواية ـ سيدتنا عذراء الزهور ـ بين المفردات التي ينبغي العزوف عنها من أجل البقاء على قيد الحياة في السجن. وهو يعطي لهذه الكلمة تعريفاً قوياً: فهو لا يُعَرّفها بأنها السعادة البلهاء «بأن نكون معاً» وهو ما يَشعر بهوله ويَستَفظِعه، بل إنها السعادة «بالإفلات من الجماعة من أجل الالتحاق بمكان نَجدُ فيه متواطئين معنا ضدها [ضد الجماعة. تواطؤ مضاد للجماعة: الحرب لمّا تنته بعد... لكن كتابه الأخير المُدَوَّن في ظل المرض والموت، الذي أهداه إلى آخر ثورات القرن العشرين، كتاب أسير عاشق، فهو أكثر كتبه مَرَحاً ورشاقة وشفافية.
ربما ستكون عَظَمة جُنيه ـ لنخاطر بكتابة هذه الكلمة المضحكة: عظَمة ـ في أنه لم يُلق السلاح، ولم يصبح «ظريفاً»، كما لم يصبح عجوزاً سوقياً محترماً.
كتبَ وهو في السابعة والثلاثين من عمره في «يوميات اللص»: ـ لقد فزتُ عنوة ـ لكن هذا المنتصر لم يستسلم لمجده، ولم يلتحق بمعسكر المنتصرين، ولم يَعُد إلى حضن العائلة. لقد بقي مقيماً إلى النهاية، رغم الجميع، وضد نفسه أولاً، في هذا المكان حيث وَضَعه المجتمعُ منذ الولادة، المكان الأكثر تَوَحُّداً ووحشة، والأكثر سكاناً في هذه الدنيا: «بَرَّه»...
(كاتب سوري)

1ـ ألبير ديشي: محافظ صندوق جان جُنيه في مؤسسة «ذاكرة النشر المعاصر» الفرنسية..I.M.E.C له أكثر من كتاب عن جنيه.

ترجمة :غازي أبو عقل

التعليقات

عدم المؤاخذة، لكني قرأت هذه المقالة في أحد المواقع الالكترونية، منقولة عن جريدة السفير بتاريخ 31_12_2010 للكاتب ميشيل كيلو.... وبإمكانكم التأكد فمن الصادق بينكم.. الموقع الالكتروني أم أنتم...؟ علما انه موقع موثوق.. شرواكم بالخير.. وإذا كان ميشيل كيلو الكاتب.. ألا يمكن أن ترمزوا إلى اسمه بحرفين مثلا...م.ك ولماذا اخترتم غازي أبو عقل.. إن ما فعلتوه بصراحة لا يجوز على الإطلاق أرجو النشر

القارئ الكريم : الأستاذان ميشيل كيلو وغازي أبو عقل من أصدقاء الجمل ومتابعيه ، غير أن مادة جان جينيه هي للأستاذ أبوعقل وقد أعتذرت جريدة السفير عن الخطأ الذي وقعت فيه في اليوم التالي من نشر المادة المذكورة ونحن ممتنون لاهتمامك بحقوق المؤلف التي نحرص عليها في كل ماننشره واسلم

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...