هل بدأت «الغارة» الثالثة في محاولة رفع الدعم؟؟

24-02-2008

هل بدأت «الغارة» الثالثة في محاولة رفع الدعم؟؟

بهدوء وصمت ودون أية سجالات، وبعد أن أخذ الموضوع من النقاشات والمداولات بين رجال الاقتصاد والرأي ما أخذ)، وأكدت الغالبية خطورة القيام بهذه الخطوة، على المواطن واقتصاد الوطن، تستعد المحافظات لإنشاء مراكز توزيع قسائم المازوت المدعوم حسب دفاتر العائلة!!

فقد عممت وزارة الداخلية الكتاب رقم 10/302 تاريخ 7/2/2008 المتضمن ذلك، وهذا نص الكتاب:

«السادة المحافظون:

نظراً لقرب موعد توزيع مخصصات الأسرة في القطر العربي السوري من مادة المازوت المدعوم بموجب قسائم.. يرجى تأمين مراكز لتوزيع هذا القسائم بموجب دفتر العائلة، وتعبئة استمارات ترسل إلى مراكز الأتمتة التابعة لمحافظاتكم، والتي سيتم إدخال هذا المعلومات حاسوبياً إليها، على أن تكون هذه المراكز في مراكز البريد ومراكز المدن والبلدان والبلديات والمراكز الثقافية، وأن يتواجد في المركز ثلاثة عاملين على الأقل.

أما بالنسبة لدوائر الدولة وقوى الأمن الداخلي فيكون محاسب الإدارة عبارة عن مركز توزيع بالنسبة لأرباب الأسر من العاملين في الدائرة.

على أن يكون عاملو المركز من عاملي الدائرة، وإذا تعذر ذلك فمن العاملين في الدوائر الأخرى.

على السادة المحافظين إرسال جداول تتضمن عدد المراكز وأمكنة تواجدها إلى ديوان معاون وزير الداخلية للشؤون المدنية.

تعود للسادة المحافظين زيادة عدد المراكز حسب الحاجة وعدد السكان، علماً أنه سيتم تأمين المستلزمات للمراكز وطريقة إيصالها بتعليمات لاحقة فيما بعد».

الكتاب ممهور بتوقيع اللواء بسام عبد المجيد وزير الداخلية..

- إذاً، لم تجدِ كل النقاشات، السجالات، التحذيرات، من خطورة رفع الدعم عن الوقود، أو كما وصفها الفريق الاقتصادي «إعادة توزيع الدعم».

بعض رجال الاقتصاد أكد أن مثل هذه الخطوة تقود البلاد إلى كارثة اقتصادية، ووصفها آخرون بأنها إملاءات فرضها البنك الدولي، استجابة لمصالح خارجية، ووجد البعض الآخر فيها تنكيلاً بالمواطن غير القادر على حمل الأعباء الحالية، فكيف برفع الدعم عن المحروقات، وهذا بدوره سيقود إلى زيادات غير متوقعة ومفاجئة وكبيرة على كل السلع في السوق السورية؟!.

وقد سبقت هذه الخطوة إجراءات تعقيدية في حصول المواطن على كالون المازوت من سعة /20/ لتراً.. ودخوله مزاد السوق السوداء عبر وسطاء (الصهاريج)، ووصل سعر الليتر المدعوم إلى /12/ ل.س بدلاً من /7/ ليرات.

الأزمة الخانقة التي حدثت وماتزال مستمرة بصورة أو بأخرى ادعت الحكومة أن الصقيع المفاجئ.. والطلب المضاعف على الاستهلاك هما السببان الأساسيان لتفجرها... ورغم ادعائها أنها طرحت كميات كبيرة في السوق إلا أن ذلك لم يؤدّ إلى حل الأزمة.. فما زال المواطن في عز العاصفة الثلجية يوم الثلاثاء 19/2/2008 يسرع (بكالونه) إلى الكازيات منتظراً الدور الطويل واقفاً في الطابور الطويل.

وفي دورة تدريبية، ألزمت الوحدات الإدارية أصحاب الكازيات بعدم تعبئة أكثر من /40/ لتراً لكل مواطن.. وأن المواطن الذي يرغب في كمية أكبر عليه أن يسجل دوراً في مركز البلدية كما يحدث في بلدية /قطنا/ العتيدة المجاورة لجبل الشيخ وبرده.

من هنا تبدو كل هذه الإجراءات غير بريئة، ومدبرة، واستعداداً لخطوة لاحقة.

الحكومة وبقيادة فريقها الاقتصادي، ابتعدت عن الناس ولقمة عيشهم.. رفعت يدها المباركة عن السوق.. لا تموين، ولا رجال تموين، لا ضبط لحركة السوق في العرض والطلب، إرخاء الخيط للتجار وغض الطرف عنهم لكي يمارسوا هواياتهم في ذبح المواطن سعرياً، أو حجب المادة، أو زيادة سعرها يوماً بعد آخر بحجج واهية، والذهاب إلى أبعد من ذلك كون الأزمة عالمية وليست محلية، فما بال المنتج المحلي أغلى من المستورد حيناً، ومفقود في أحيان أخرى؟

أبو خليل صاحب محل السمانة في شارعنا رفض أن يجلب البقدونس من سوق الهال، فهو لا يعرف كيف سيبيعها إلى المواطن.. من أرضها يقول (أبو خليل) بـ /14/ ليرة سورية، وهي التي كانت في وقتها بـ /3/ ليرات، وكل /3/ جرز بقدونس بـ /10/ ليرات..؟

يعزو البعض ارتفاع أسعار (البقدونس، الكزبرة، النعنع، إلى موجة الصقيع، لكنها ذهبت.. وجاءت أيام مشمسة.. وأيام عادية.. لكن البقدونس وسواها لن تعود كما كانت، (بهارات) رخيصة لطعامنا.

بدورها البطاطا وصلت إلى /30/ ل.س، الكوسا إلى /80/ ل.س، الخيار من /50-35/ ل.س، الفليفلة الخضراء /75/ ل.س، الفول /100/ ل.س، الباذنجان /50/ ل.س، فاصولياء عيشة خانم /120/ل.س، البندورة /25/ ل.س.

كذلك الفواكه: الموز من /35-60/ ل.س، التفاح /50-60/ ل.س، البرتقال /25-40/ ل.س، الليمون /30/ ل.س.

كل ذلك في مأكولاتنا اليومية التي باتت تكسر الظهر، عدا عن الزيت والسمون التي تتعرض أسبوعياً لزيادات مرعبة لا مبرر لها، هذا عن عدم وجود رقابة على هذه الزيوت والسمون ومدى جودتها.. ووصل الغش إلى البهارات، فالفلفل ليس له طعم الفلفل، وكلٌّ يعتمد خلطة يعتقد أنها الأفضل.. أسعار كاوية في ظل عدم رقابة على الجودة.. وهذا الدور هو الأقل الذي يجب أن تقوم به الحكومة.

كذلك انفتح السوق على هذه.. والماركات تتعدد للسلة الواحدة، ذهب الزمن الذي تدخل فيه إلى (الدكان) وتقول له: أعطني كيلو (قهوة)، اليوم سيسألك البائع أي نوع تريد؟ أتريدها سوداء أم بنية أم وسط؟ (الحسناء أم الـ؟؟ أم... أم... إلخ)...

هنا نسأل من يراقب كل هذه الفوضى المدروسة؟ قلنا انفتاح سوق وليس سوقاً عارمة بالفوضى؟

حال السوق كما رأينا قبل رفع الدعم.. لكن كيف سيكون بعد رفعه؟ هل ستتدخل الحكومة حينها.. أم كيف سيكون الوضع؟

سوف نحلم كسوريين بشراء ربطتي خبز دفعة واحدة.. سنتذكر بكثير من الحنين (طنبر) المازوت، سنضرب كفاً بكف مقهقهين لدى سماعنا عن أكلة تدعى (التبولة) أو (الفتوش)؟!!

ستصبح من ذكرياتنا الجميلة أيام الثمانينات حين كنا نتدافش على المؤسسات لنحصل على علبة سمنة أو علبة محارم ورقية ماركة (سيئة). وسنصاب بالغبطة عندما نتذكر سعر ربطة الخبز /8/ أرغفة بـ/15/ ل.س، وكما حلمنا بالموز ذات مرة، سنحلم بالبطاطا والكوسا (محشية، مفركة)، سنشتاق لـ(المجدرة) ببصلها المقلي وعدسها، وسيحل (أندومي) محل فطورنا من الفول والحمص (المسبحة)، ونصرخ بجنون (لماذا يمرض أطفالنا، لماذا هم هزيلون)؟

وفي عودة للخطوة الهادئة بدعوة المحافظين لفتح مراكز لتوزيع قسائم المازوت المدعوم، سنسأل كيف سيحل عدل الحكومة في التوزيع.. البعض يهمس أن الحكومة ستوزع/1000/ ليتر مازوت لكل دفتر عائلة.. وهنا هل ستأخذ بالحسبان عدد أفراد الأسرة.. المنطقة الجغرافية من حيث المناخ.. المنطقة من حيث الدخل، هل ستوزع القسائم على (المتخمين) كما توزع على (الجياع)؟

(م.ع) مواطن موظف: تبدو خطوة غير محسوبة، هل ستكون حصة ابن عرنة الذي يعيش مع الثلج، كابن دمشق، وحصة ابن سرغايا كحصة ابن دير الزور.

(س.ر) مواطن: يبدو أننا سنترحم على أيام بونات (الزيت)، أيام كنا نقضي نهاراً كاملاً مع أكياس (الجنفيص)، ثم نعود بالأكياس فارغة.

(محمد.ح) طالب جامعي: أعتقد أننا سندخل مرحلة صعبة وعصيبة.. وفوضى في السوق والأسعار، المسألة ليست مسألة محروقات فقط سنعكس هذا القرار على كل السوق غير الملتزمة أصلاً.

(م.ع): يبدو أنهم سيعيدوننا إلى أبشع أنواع البيروقراطية.. سيعود موظف المركز ليتحكم بنا، سندفع للحصول على قسائم، وسنتدافع لصرفها، وستحل المراكز الثقافية الخاوية والبلديات بديلاً عن المؤسسات الاستهلاكية.

هذا عن المواطن الذي لم يستبشر خيراً من المشروع.. ولا حين بُدئ بوضعه في التنفيذ، ولا في آلية التنفيذ.

أما أصحاب الكازيات ومحطات الوقود بدورهم نفوا أية معرفة لهم بالقرار، لكنهم قالوا إنهم شعروا بأن خطوة كهذه قادمة.. وستتم زيادة سعر المازوت وبقية المحروقات.

- المتأثر المباشر الآخر هو قطاع النقل.. ويتساءل العاملون فيه من سائقين وأصحاب سيارات.. عما سيحل بهذا القطاع؟

أصحاب السيارات مباشرة أكدوا أن سياراتهم ستصبح أسعارها في الأرض، وستبدأ الدولة بعرض حلول من خلال خطوطها المهترئة وإدخال باصات جديدة ما يعرف (الصفقة الصينية)، وهي تقول إنها ستدخل إلى سوق النقل في دمشق وبعض المحافظات /600/ سيارة صينية خلال الأشهر الأولى من العام الحالي.

- أما أسعار المواصلات، أي تعرفة الركوب في الحافلات فستتضاعف، وهذا ما سيرهق المواطن، إلا إذا اعتمدت الدولة خطة إستراتيجية في النقل والبيئة، باعتماد السيارات العاملة على (الغاز) وبالتالي ستحافظ على بيئة نظيفة، وأسعار معقولة.

وفي محصلة كل هذه التوقعات يبقى المواطن الحلقة غير المحسوبة في المعادلة، هو الوحيد الذي سيتحمل التأثيرات الكبرى الناتجة من خطوة كهذه إذا ارتفعت تعرفه الركوب.. وحلول الدولة القديمة (الباقية) كإدخال وسائل نقل مهترئة تناسب دخله المتهرئ.

كيف ستعالج الحكومة رفع الدعم عن المازوت.. والتأثيرات الجانبية على السوق والناس؟

هل سترفع أجور الموظفين والعاملين في الدولة لسد الفارق الكبير الذي سيحصل نتيجة هذه الخطوة، بما يخص الأسعار وبقية المتأثرات الأخرى؟ وكيف ستحسب هذه الزيادة.. في حال أن بعض السلع ستصل إلى 325% من سعرها الحقيقي ستتضاعف بنسب مختلفة؟

وبالنسبة للقطاع العام، المصانع، المعامل، المؤسسات المدعومة بالمازوت المدعوم، هل ستستمر الدولة في دعمها.. وخصوصاً أن كل هذه القطاعات وحسب إحصائيات الدولة وتصريحاتها تقترب من الصفر وبعضها يتعرض لخسائر كبيرة ومتوالية.

أم أن هذه الخطوة، هي خطة صغيرة في مشوار خصخصة كل القطاعات.. وبيع القطاع العام ومؤسساته بالمزاد العلني.

ويبقى السؤال الأكثر حرجاً، وهو الذي يمس الشريحة التي لبست بالقليلة، العاطلين عن العمل، والعاملين خارج الدولة، ومن ستؤكد الحكومة وصول قسائم الدعم إليهم.. ولكنهم سيتركون إلى السوق التي ستلتهم كل شيء.

كيف ستقوم الحكومة بتقديم بدائلها لهم؟ وهم في تصاعد عددي، وانفتاح على الجريمة، ودخول هذه المشكلة في الباب المسدود.. وتبقى خياراتها سلبية؟

تبدو الأمور تتجه رويداً رويداً.. لخصخصة كل حياتنا، رزقنا، أكلنا، ركوبنا، ركوعنا!!

- إذاً لحست الحكومة كلامها ووعودها، بعدم المساس بالأساسيات دون الرجوع إلى المواطن واستشارته، وأن أساسياته خط أحمر لا يمكن الاقتراب منه.

لحست الحكومة كلامها، ولم يكن ذلك مفاجئاً، فلقد أصرّ الفريق الاقتصادي على تمرير مشروعه، رويداً.. رويداً.. طرح المشروع، إثارة الجدل حوله، ثم إثارة الأزمات.. وترك المواطن للسوق تتحكم به، وللتاجر يسرح على هواه.

وفي النتائج.. سوف يزاداد الفقراء فقراً.. وصاحب الدخل المحدود سينسحب من طبقة إلى الأدنى، ليصير من شريحة الأغلبية.. القابعة تحت خط الفقر، وسوف يزداد الغني غنى.. سيلعب على الاحتكارات.. لن يتأثر بالدعم أو برفعه، بالسوق المستقرة أو الهادئة، وستحسم المسألة اجتماعياً.. فقراء في الشريحة الأعرض.. وأغنياء يلتهمون ثلاثة أرباع الوطن، خيراته، ثرواته.

أم حسين على كازية القدم: (المدعوم ننتظره أيام ولا نحصل عليه، كيف إذا صار غير مدعوم).

أبو أحمد في طابور طويل أمام كازية خان الشيخ: (الله يجيرنا من القادم).

يوسف أمام كازية نهر عيشة: (هالخد تعوّد على اللطم).

إذاً، لا يرى المواطن خيراً من خطوة الحكومة القادمة، وهو الذي لا يرى خيراً في تعاملها الآني على أزماته المتلاحقة، دخل قليل، سوق ملتهبة، لا رقابة، احتكارات، غلاء، أسعار حسب الهوى... وقلة حيلة.

 الخطوات القادمة، في الأيام القلية القادمة.. ستحدد بوضوح إلى أين تسير بنا الحكومة، مأخوذة بأفكار الفريق الاقتصادي، نحو أوهام النجاة، أم نحو اقتصاد مهترئ، (حر) ومفتوح على كل الاحتمالات السيئة؟؟

عبد الرزاق دياب

المصدر: قاسيون

التعليقات

في علم الإجتماع لا يمكن عزل المجموعات البشرية عزلاً تاماً على طريقة الجملة الفيزيائية تامة العزل. و الدليل هو التجربة السوفيتية إذ تحولت الحاجة التكتيكية للنظرية السيوعية الى مذمة و هنا الحديث عما سمي بالستار الحديدي. إذ تحول الستار الحديدي الضامن للنظرية الإقتصادية الى عنف في منطق علم الإجتماع. و لم يكن من سبيل الى إسقاط هذا العنف إلا بأحد حلين و هو إما تعميم النظرية الشيوعية او إسقاطها. و سقطت وقتها. الحال نفسه في بلادنا إن كان ثمة من يعتقد أن اللدولة يجب ان تخلق محمية اقتصادية فعليه ان يعلم ان الثمن سيدفعه في أماكن أخرى فمثلاً قد يضطر الى الإستغناء عن كل المواد المستوردة الموجودة في الأسواق. لأنه لا يريد ان يكون جزء من المجموع. هذا إن كنا نتحدث باعناوين. و لكن المشكلة الحقيقية في سوريا كما في كل دول العالم هي تشكل وعي جديد لدى القوى الإقتصادية المتحكمة يدفعها الى التحرر من تحكم البنى الغير اقتصادية - برأيهم- و هي النقابات و القضاء و الدولة . و لهذا ثمة افتراق شديد بين قاموس الإقتصادي و قاموس السياسي. ففي الوقت الذي ينشغل العامة باتسخدام ألفاظ من قبيل فساد و اجحاف و ... يستخدم الإقتصادي تعابير من قبيل: حتمية اقتصادية, فائض بشري غير منتج, كتلة انسانية معطلة أو غير قابلة للإستثمار... اليوم إن أرادت الفلسفة أن تكتب فإن السمة اللازمة لعصرنا هي انحسار الأخلاق - ليس بالمعنى الرومنسي- امام منطق التسليع. و حتى لا أدخل في شرح سأكتفي بمثال: رب العمل يريد أن يصل الى مستوى جديد من القيم تؤكد تحكمه النهائي بالنظام الذي يعيش فيه فيخاطب أمين المستودع: أنت تحرس ممتلكاتي لأني أدفع لك. إنه لا يريد أن يقول: أن تحرس ممتلكاتي لأنك رجل أمين. إن النظام الإقتصادي يسعى الى تنظيف نفسه من الأنظمة الموازية التي يصعب عليه وصفها و بالتالي ضبطها و أحدها الأخلاق. لهذا فإن كلمة فساد غير موجودة لديه. إنها نقلة جديدة في مستوى الفكر الإنساني تشبه النقلة التي حققتها الفيزياء و علم الميكانيك ضد الفلسفة و الدين في القرن التاسع عشر. الدول ليست إلا شعارات من الماضي و ذرائع تتمترس وراءها القوى الأقتصادية المتشكلة و المتنافسة و هي ساقطة لاحقاً لا محالة. و هذا ما يفسر الإزدواجية الغريبة في سياساتنا الإقتصادية و الوطنية. ففي الوقت الذي تستبسل الحكومة في الحفاظ على شكل الدولة نجد أن الفعل الإقتصادي يسعى الى تقويض الدولة. إنها الحاجات الملحة للقوى الإقتصادية المحلية لحماية نفسها من التنافس مع قوى دولية أقوى بكثير منها. لهذا فإنها تطبق آليات التنافس و لكن من وراء زجاج الوطن. هذه المشكلة كونية و لن يتم حلهابالطرق الكلاسيكية بدليل ما حدث في العراق و ما يحدث في لبنان و هذا ليس تهويل و لكنها حقيقة و واقع. يبقى الأسف هو انعدام حس الوطنية لدى معظم قوانا الإقتصادية و ذلك يبدو جلياً من القطيعة النهائية بينها و بين الوطن الا من خلال كونه بقرة حلوب. إن صعود اميريكا وراءه وعي هذه الطبيعة في رأس المال فكانت وطناً لكل المستثمرين في العالم حتى لا يشعروا بالغربة في بلادهم و حتى يجدوا لأنفسهم وطنا بديلاً يدافعون عن مبادئه فلا تقتلهم مشاعر الخيانة.

في علم الإجتماع لا يمكن عزل المجموعات البشرية عزلاً تاماً على طريقة الجملة الفيزيائية تامة العزل. و الدليل هو التجربة السوفيتية إذ تحولت الحاجة التكتيكية للنظرية السيوعية الى مذمة و هنا الحديث عما سمي بالستار الحديدي. إذ تحول الستار الحديدي الضامن للنظرية الإقتصادية الى عنف في منطق علم الإجتماع. و لم يكن من سبيل الى إسقاط هذا العنف إلا بأحد حلين و هو إما تعميم النظرية الشيوعية او إسقاطها. و سقطت وقتها. الحال نفسه في بلادنا إن كان ثمة من يعتقد أن اللدولة يجب ان تخلق محمية اقتصادية فعليه ان يعلم ان الثمن سيدفعه في أماكن أخرى فمثلاً قد يضطر الى الإستغناء عن كل المواد المستوردة الموجودة في الأسواق. لأنه لا يريد ان يكون جزء من المجموع. هذا إن كنا نتحدث بالعناوين. و لكن المشكلة الحقيقية في سوريا كما في كل دول العالم هي تشكل وعي جديد لدى القوى الإقتصادية المتحكمة يدفعها الى التحرر من تحكم البنى الغير اقتصادية - برأيهم- و هي النقابات و القضاء و الدولة . و لهذا ثمة افتراق شديد بين قاموس الإقتصادي و قاموس السياسي. ففي الوقت الذي ينشغل العامة باتسخدام ألفاظ من قبيل فساد و اجحاف و ... يستخدم الإقتصادي تعابير من قبيل: حتمية اقتصادية, فائض بشري غير منتج, كتلة انسانية معطلة أو غير قابلة للإستثمار... اليوم إن أرادت الفلسفة أن تكتب فإن السمة اللازمة لعصرنا هي انحسار الأخلاق - ليس بالمعنى الرومنسي- امام منطق التسليع. و حتى لا أدخل في شرح سأكتفي بمثال: رب العمل يريد أن يصل الى مستوى جديد من القيم تؤكد تحكمه النهائي بالنظام الذي يعيش فيه فيخاطب أمين المستودع: أنت تحرس ممتلكاتي لأني أدفع لك. إنه لا يريد أن يقول: أن تحرس ممتلكاتي لأنك رجل أمين. إن النظام الإقتصادي يسعى الى تنظيف نفسه من الأنظمة الموازية التي يصعب عليه وصفها و بالتالي ضبطها و أحدها الأخلاق. لهذا فإن كلمة فساد غير موجودة لديه. إنها نقلة جديدة في مستوى الفكر الإنساني تشبه النقلة التي حققتها الفيزياء و علم الميكانيك ضد الفلسفة و الدين في القرن التاسع عشر. الدول ليست إلا شعارات من الماضي و ذرائع تتمترس وراءها القوى الأقتصادية المتشكلة و المتنافسة و هي ساقطة لاحقاً لا محالة. و هذا ما يفسر الإزدواجية الغريبة في سياساتنا الإقتصادية و الوطنية. ففي الوقت الذي تستبسل الحكومة في الحفاظ على شكل الدولة نجد أن الفعل الإقتصادي يسعى الى تقويض الدولة. إنها الحاجات الملحة للقوى الإقتصادية المحلية لحماية نفسها من التنافس مع قوى دولية أقوى بكثير منها. لهذا فإنها تطبق آليات التنافس و لكن من وراء زجاج الوطن. هذه المشكلة كونية و لن يتم حلهابالطرق الكلاسيكية بدليل ما حدث في العراق و ما يحدث في لبنان و هذا ليس تهويل و لكنها حقيقة و واقع. يبقى الأسف هو انعدام حس الوطنية لدى معظم قوانا الإقتصادية و ذلك يبدو جلياً من القطيعة النهائية بينها و بين الوطن الا من خلال كونه بقرة حلوب. إن صعود اميريكا وراءه وعي هذه الطبيعة في رأس المال فكانت وطناً لكل المستثمرين في العالم حتى لا يشعروا بالغربة في بلادهم و حتى يجدوا لأنفسهم وطنا بديلاً يدافعون عن مبادئه فلا تقتلهم مشاعر الخيانة.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...