ميلان كونديرا في موكب العظماء

30-04-2011

ميلان كونديرا في موكب العظماء

اعتادت سلسلة "البلياد" الفرنسية الشهيرة اصدار أعمال العظماء من الكتاب والشعراء والمفكرين والفلاسفة في جميع اللغات والثقافات٬ وغالبا ما تفعل هذا مع الاموات منهم.

اما الاحياء فنادرا ما تخصهم بهذا التبجيل٬ والكاتب التشيكي الكبير ميلان كونديرا واحد من هؤلاء المبجلين لدی السلسلة المذكورة فعنها صدرت مؤخرا اعماله الروائية التي حظيت بشهرة عالمية واسعة مثل "الحياة في مكان اخر"٬ و"كتاب الضحك والنسيان"٬و"خفة الكائن التي تحتمل"٬ و"الفرحة" وغيرها.

وكان ميلان كونديرا البالغ الآن من العمر 82 عاما قد غادر بلاده نهائيا اواسط السبعينات من القرن الماضي ليستقر في باريس حيث يقيم الی حد هذه الساعة.

وبلغة موليير اصدر اول عمل روائي له تحت عنوان: "الهوية" غير ان النقاد الفرنسيين كانوا له بالمرصاد٬ فقد اعتبروا لغته الفرنسية هزيلة ومصطنعة٬ مع ذلك اصر صاحب "خفة الكائن" التي لا تحتمل علی مواصلة الكتابة بلغة البلد المستضيف والذي منحه الجنسية في الثمانينات من القرن الماضي٬ وكانت الحصيلة رواية حملت عنوان "الجهل" واحتجاجا علی النقد الجارح الذي وجهه له النقاد الفرنسيون٬ لم يسمح لدار "غاليمار" التي اصدرت اعماله السابقة بنشر روايته المذكورة الا عقب مرور عامين علی ظهورها مترجمة الی اللغة الاسبانية والی عدة لغات اخری٬ وخلافا للمرة السابقة رحب النقاد الفرنسيون بمختلف مشاربهم بهذا الروائي الجديد معتبرين روايته الجديدة واحدة من ابرز الاعمال الروائية التي صدرت في فرنسا خلال النصف الاول من عام 2003 .

ومن خلال رواية "الجهل" يتطرق ميلان كونديرا الی مواضيع متشابكة ومتعددة٬ فهناك تلميحات الی الاوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها تشيكيا وبقية بلدان اوروبا الشرقية التي كانت خاضعة للانظمة الشيوعية٬ وهناك وصف دقيق للحالات النفسية التي يعيشها كل من يعود الی بلاده بعد ان امضی فترة طويلة بعيدا عنها..
وهناك الحب والحرقة التي يسببها لمن يحترق بناره. وهناك الحضور الدائم للماضي حتی لدی اولئك الذين يرغبون في طي صفحة الماضي..

الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية رجل يدعی جوزف وامرأة تدعی ايرينا والاثنان غادرا وطنهما الذي كان يسمی انذاك تشيكوسلوفاكيا بعد ان غزاه الجيش الاحمر السوفياتي في ربيع 1968.

استقر جوزف في الدانمارك اما ايرينا فقد اقامت هي وزوجها في فرنسا وبعد انهيار النظام الشيوعي يعود كل منهما الی براغ التي بدأت تتفتح علی الاقتصاد الحر٬ ومنذ البداية يعاينان التغيرات الهائلة التي طرأت علی البلاد والعباد٬ ففرانز كافكا مثلا الذي كان كاتبا غير مرغوب فيه خلال الحقبة الشيوعية باتت صوره في كل مكان٬ حتی علی الامتعة التي تباع للسياح الاجانب.

والبورجوازية التي تلقت ضربة قاسية غيبتها عن الوجود اربعين عاما٬ عادت للظهور لتسيطر من جديد علی الحياة الاقتصادية والسياسية سيطرة شبه كاملة٬ تقول ميلاد لصديقتها ايرينا "أرأيت كيف ان البورجوازية استعادت بعد اربعين عاما من الحكم الشيوعي٬ قوتها خلال بضعة ايام؟ البورجوازيون تمكنوا من البقاء احياء متحملين من اجل ذلك طرقا مختلفة متعددة٬ بعضهم سجنوا اخرون فصلوا من وظائفهم او هم تأقلموا مع النظام الجديد واحتلوا مناصب مهمة ومنهم من عينوا سفراء واساتذة الان يعيش ابناؤهم وبناتهم مع بعضهم البعض نوعا من الاخوة السرية٬ فهم يمثلون البنوك والصحف والبرلمان والحكومة".

وواصفا الوضع الذي اصبحت تعيشه البلدان التي كانت خاضعة للشيوعية يقول جوزف بسخرية ممزوجة بالمرارة: "الامبراطورية السوفياتية انهارت لانها لم تتمكن من ترويض الامم التي كانت تريد ان تعيش "تحت عباءتها" غير ان هذه الامم اصبحت الان اقل استقلالية اكثر من أي وقت مضی فهي لا تستطيع ان تختار لا اقتصادها ولا سياستها الخارجية ولا حتی الشعارات الخاصة بالدعاية.

غير ان كونديرا وكعادته دائما لا يغرقنا في عالم السياسة٬ بل هو يستعمل ذلك لكي يصف لنا اوضاعا وجودية وحياتية ونفسية تعيشها شخصيات روايته٬ ان ايرينا وجوزف اللذين تعارفا في فترة الشباب وعاشا قصة حب قصيرة يعيشان العودة الی بلادهما كوجع أليم٬ فالاماكن التي يرتادانها والاشخاص اللذان يلتقيان بهم يفتحون جروحا قديمة ويثيرون الاسى ومشاعر حزينة ومؤلمة للغاية.

ويحاول جوزف ان يستعيد من خلال ذكرياته حبه للبلاد التي تركها عندما غزاها الجيش الاحمر السوفياتي غير انه يفشل في ذلك فشلا ذريعا٬ وفي النهاية يعود الی الدانمارك التي باتت وطنه الجديد٬ وتذهب ايرنيا الی براغ مسكونة بنار الشوق لرؤية الاهل والاحباب القدامی الذين لم ترهم منذ زمن طويل٬ غير ان الصدمة تكون موجعة وقاسية للغاية فصديقاتها مثلا يعاملنها كما لو انها لم تغادر البلاد ابدا٬ وخلال جلوسها معهن في المقهی هن لا يطرحن عليها ولو سؤالا واحدا عن حياتها هناك في باريس.
وهروبا من هذا الواقع المر هي تحاول استعادة حياتها القديمة مع جوزف٬ لكن في النهاية تقتنع ان ذلك مستحيل هو ايضا٬ ومن خلالها ومن خلال جوزف يرد ميلان كونديرا علی الذين يتساءلون عن الاسباب التي جعلته يفضل مواصلة الاقامة في فرنسا حتی بعد ان انهار النظام الشيوعي الذي قاومه بشدة في مجمل اعماله الروائية.

والی جانب "الجهل" و"الهوية" كتب ميلان كونديرا اعمالا نقدية عن الفن الروائي مثل "فن الرواية" و"الوصايا المغدورة" و "لقاء" الذي صور قبل عامين متضمنا افكارا عميقة عن فن الكتابة وعن كتاب كبار من امثال فرانز كافكا وسلين وغومبروفيتش.

ومحددا رؤيته للفن الروائي كتب ميلان كونديرا ذات مرة يقول" "ان تكون روائيا لم يكن يعني بالنسبة لي "ممارسة نوع ادبي معين" وانما كان وضعا وحكمة وموقفا يتجنب كل تماه مع سياسة ما او مع دين ما٬ او مع منظومة اخلاقية ما٬ او مع مجموعة ما.

وهذا اللاتماهي هو واع٬ وعنيد وغاضب وليس هروبا او سلبية وانما مقاومة وتحد وتفرد".

حسونة المصباحي

المصدر: العرب أون لاين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...