من يدجّن (أمل دنقل) شاعر المنبوذين والحريّة والمقاومة؟

09-01-2010

من يدجّن (أمل دنقل) شاعر المنبوذين والحريّة والمقاومة؟

رغم مرور 27 عاماً على رحيله، لا يزال أمل دنقل حاضراً في المشهد الشعري العربي، وقصيدته تزداد إشراقاً يوماً تلو آخر. قصيدة فاعلة لم تتخلَّ عن موقفها الجمالي الذي هو «جوهر» موقفه السياسي والفكري. لقد صنع أسطورته الخاصة بوصفه واحداً من الذين اختاروا الوقوف على هامش المؤسسة الاجتماعية والثقافية والسياسية. رغم أن قصائده اعتبرت أيقونةً للمقاومة، إلا أنّ نقاداً كثيرين يؤكدون انحياز الشاعر إلى مبدأ الحرية. من هنا، يظهر خلف نص الرفض والمقاومة والتحريض، نص آخر يكتبه «الرجل الصغير» والهامشي، في علاقته بمدينته وسكانها من المنبوذين والمهمشين.
قصائد أمل حاضرة بقوة تثير الدهشة، ليس فقط لأنّ «الجنوبي» صاحب قصيدة سياسية لم يتغيّر الظرف الذي كتُبت خلاله، بل لأنه يلمس أعمق ما في الحدث. ليست أشعاره فقط ضد «الدكتاتورية» و«القهر» أو الصلح مع إسرائيل، أو حتى ضد أخلاق البرجوازية المصرية. بل إنّه لم يكن «معارضاً سطحياً» وفق الناقد محمد بدوي: «يلتقي في النهاية مع السلطة في مجمل رؤيتها للعالم مثل نزار قباني... بل إنّه شاعر معارضة في نقده للأسس التي قامت عليها كل أشكال السلطات، سلطات قهر الجسم البشري، ومراقبة هذا الجسم، والاعتداء والعنف وهو ما نكاد نجده في كل قصائده».
ويضيف بدوي «الشيء الوحيد الذي التقى فيه أمل مع السلطة العربية، أنه آمن بالأصل العربي لهذه السلطة كهوية وكثقافة. وهذه المفارقة بين جذرية نقده الشعري وكلاسيكية اللغة عنده وانضباطها وصرامتها الشديدة». وربما لهذا، لم تتحمل المؤسسة الثقافية الرسمية أشعاره. عندما رحل عام 1983، لم يكن قد أصدر أيّاً من دواوينه في مصر. بل صدرت كلّها في بيروت، ونشرت «دار الآداب» ديوانه الأول «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» (1969)، وأصدرت «دار العودة» دواوينه الأخرى: «تعليق على ما حدث» (1971)، و«مقتل القمر» (1974)، و«العهد الآتي» (1975). وحدهما الديوانان الأخيران صدرا في القاهرة، بعدما اطمأنت المؤسسة إلى رحيله، فصدر «أوراق الغرفة 8» و«أقوال جديدة عن حرب البسوس». وما ينطبق على النشر ينطبق على النقد. قليلة هي الدراسات التي كُتبت عن أشعاره قبل الرحيل. وعلى فراش المرض، كتب يوسف إدريس صرخته الشهيرة «بالله لا ترحل يا أمل، فكلنا فداؤك»... مناشداً الدولة التدخل لإنقاذ شاعر التمرد، لكنّ وزير الثقافة عبد الحميد رضوان تساءل يومذاك: «من يكون أمل دنقل؟».
اليوم يبدو الوضع مختلفاً، لا تتصدر قصائد أمل دنقل التظاهرات في مصر فقط، أو يصبح شعره أيقونةً، بل تلجأ إليه المؤسسة الرسمية أيضاً. منذ سبع سنوات، أقام له «المجلس الأعلى للثقافة» احتفالية كبيرة، وكان وزير الثقافة فاروق حسني مهتمّاً بإقامة معرض مستوحى من أشعاره. واليوم، تريد «مكتبة الإسكندرية» أن تسبق الجميع في الاحتفال بأشعاره، بل إن احتفاليتها تسبق الموعد الرسمي لميلاده بخمسة شهور. هل أصبح أمل مستأنساً إلى هذه الدرجة؟

من أوراقه الشخصيّة تمارين في النثر والصداقة والحبّ
لم يتورّط أمل دنقل في كتابة النثر. لم يكن يريد أن يستهلك النثرُ روحه الشعرية. والمرة الأولى التي كتب فيها نثراً كانت رسالة إلى رئيس تحرير مجلة «الآداب»، الراحل سهيل إدريس. الرسالة التي نشرها صاحب «الحيّ اللاتيني» في كانون الأول (ديسمبر) 1977 بعنوان «جيل بعد جيل»، جاء فيها: «هل أحسب عمري بأعداد مجلة «الآداب». لست وحدي في هذا. جيل كامل ظلت «الآداب» وجبته الشهرية الدسمة، والحبل السريّ الذى يصله بآلام العروبة».
إذاً، كانت الرسائل مدخل «الجنوبي» إلى النثر. هناك رسائل كتبها إلى والدته وشقيقه، موضحاً تطوّرات مرضه. أما رسائله إلى عبلة الرويني رفيقة عمره، فتقدم وجه العاشق. هذه الرسائل غير مؤرخة، لكنّه كتبها إثر خلافات بين العاشقين في بداية علاقتهما. «لو لم أكن أحبك كثيراً، لما تحمّلتُ حساسيتك لحظةً واحدة. تقولين دائماً عني ما أدهش كثيراً عند سماعه. أحياناً أنا ماكر. وأحياناً أنا ذكي. رغم أنني لا أحتاج إلى المكر أو الذكاء في التعامل معك، لأنّ الحبّ وسادة في غرفة مقفلة أستريح فيها على سجيتي...».
ويضيف الشاعر الراحل: «ظللنا فترة طويلة نبحث عن شكل مريح للحب بيننا، ولم نجده في أغلب الأحيان. فما نكاد نلتقي إلا ونتشاجر، وكأنّ بيننا غضباً وعناداً ساطعاً. كنا أشبه بالمتنافرين دائماً نتكسر في الطرقات الممدودة أبعاداً مختلفة، فتجمعنا الأشلاء في استمرار معاند. في لحظة، نحشو العالم في جيوبنا ونلملم كل الأوراق الخضراء، وصوت العصافير والأقلام الملونة، ثم في لحظة أخرى، نمزّق جميع الأوراق ونذبح صوت العصافير، ونكسر جميع الأقلام الملونة والدفاتر. اللاقانون كان هو القانون الوحيد الذي يحكم قلبينا، فعندما نقرّر، لا نفعل شيئاً. وعندما تتساوى الأشياء، نحطم كل شيء ونتعامل بمنطق المفاجأة. هكذا كنّا نحب بأسلوب كتابة القصائد، تكتبنا الحروف من دون أن نحاول رشوتها أو التحايل لوجودها».
عندما كتب قصيدته «مقابلة خاصة مع ابن نوح» أعطاها إلى عبلة قائلاً: «هذه أول قصيدة أكتبها إليك». دُهشت عبلة، فالقصيدة تحمل رؤية سياسية أساساً. يومها أشار إلى المقطع الذي يعنيها: «كأن قلبي الذي نسجته الجروح/ كأن قلبي الذي لعنته الشروح/ يرقدُ الآنَ فوقَ بقايا المدينهْ/ وردةً من عطَنْ/ هادئاً/ بعد أن قالَ لا للسفينهْ/ وأحبَّ الوطنْ». كان ذلك في عام 1978، حين بدأت سياسات الانفتاح وتصاعدت معركة الدولة مع «المثقفين». وقد رحل مثقفون كثيرون في ما عرف بالتغريبة الكبرى للثقافة المصرية، أو وفق تعبير دنقل «الثقافة المصرية في المنفى». حينها، أرسل له الصحافي وناشر «السفير» البيروتيّة طلال سلمان يدعوه إلى العمل في الجريدة. لكن فكرة السفر شكلت أزمةً نفسيةً لعبلة الرويني. لذا، اختار أمل أن يقول «لا» للسفينة ويحبّ الوطن.
كذلك، توجد في الأوراق الشخصية لأمل دنقل ثلاث رسائل من أدونيس، توضح مدى قوة علاقتهما، وهي مؤرخة في عام 1968 عندما كان «مهيار» رئيساً لتحرير مجلة «مواقف». هذه الرسائل تأكيد لخطأ شعراء السبعينيات الذين قسّموا الشعر إلى فسطاطين: «أدونيسيون» و«دنقليون». وكلّنا نتذكّر جملة أمل الشهيرة التي قالها عام 1983: «أحبّ أدونيس، لكنّي لا أحترم الأدونيسيّين».

محمد شعير

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...