من «أخو البلاش» للتسوق الترفيهي : سورية تودع التقشف

30-06-2006

من «أخو البلاش» للتسوق الترفيهي : سورية تودع التقشف

تحقيق ـ  سعاد جروس : المدهش، منظر الشباب والصبايا يتمشون في ساعة متأخرة؛ بعد الساعة الحادية عشرة من ليالي الصيف الجميلة في شارع عريض، نهض حديثاً بمحلات واسعة اصطفت إلى جانبيه، اكتظت بكميات هائلة من البضائع الشبابية: أكسسوارات، عطور، ملابس أحذية، نظارات، حقائب، أغاني... أي كل ما يجعل الشباب يزهو بنفسه. نحن في شارع "الحضارة" الذي شق في احد الأحياء الشعبية على طرف مدينة حمص، واستقطب الشبان من الجنسين، منافساً شارع "الدبلان" الذائع الصيت، ليس كسوق تجاري فقط، وإنما كملتقى لتمضية بعض الوقت ورؤية الأحباب من بعيد لبعيد، أو المشي معاً اليد باليد.
في شارع "الحضارة" سنتعرف على وجه في طور التكون للمجتمع السوري، مع بدء  تحول "التسوق" الى سلوك ترفيهي يعادل التنزه في الحدائق والمقاصف للترويح عن النفس. وإذا كانت الأسواق الشهيرة غير عادلة في منح متعة الشراء للجميع دون تمييز، فإن سوق شارع الحضارة وغيره من الأسواق الكثيرة التي نشأت على أطراف المدن السورية، راحت تعمم ثقافة رفاهية التسوق، بتوفير البضائع الرخيصة الثمن. لذلك لن نعجب كثيراً إذا صادفنا متجر ألبسة اختار اسماً له  وصف "أخو البلاش" يزين اليافطة بالخط العريض. هنا ستعثر على تي شرت قطن ذي جودة عالية بسعر 100 ليرة سورية (2$) فقط. السر أن هذه البضائع تعاني من عيوب طفيفة لا تلحظها العين، إلا ان المحلات المجاورة والتي ترفع شعار "أي غرض بعشر ليرات" أو "أي حذاء بـ 150 ليرة" ليست مثلها، هذه الأشياء لا تعاني من عيوب غير ظاهرة، وإنما ذات جودة متدنية، صالحة للاستهلاك السريع، ولديها مشترون. (ربى 18 عام ) تفضل شراء خمسة أحذية من هذا السوق بسعر حذاء واحد من الأسواق الراقية، لأن ذلك سيتيح لها تبديل عدة موديلات من الأحذية والاستمتاع الآني بالموضة الراهنة، فهي لن تستخدم الحذاء أكثر من مرتين أو ثلاث سواء كان غالياً أم رخيصاً. والدتها تختلف مع ابنتها كثيراً، وتقول لم نكن نفكر بهذه الطريقة، كنا نمضي يوماً كاملاً في السوق بحثاً عن حذاء جيد ومتين، قطعة واحدة عالية الجودة، أفضل من عشر رديئة الصنع، هذا على الأقل قابل للاستخدام عاماً كاملاً!!
المفاهيم انقلبت 180 درجة تقريباً، وهذا ما يعكسه بوضوح التحولات في حركة الأسواق السورية، وإذا نظرنا الى مدينة دمشق، سنجد أنه مقابل ظهور عشرات الأسواق الشعبية الطارئة التي انتشرت على هامش الأسواق الرئيسة وجاوز عددها ثلاثين سوقاً، ظهرت في السنوات الخمس الأخيرة ثلاثة مجمعات تجارية ضخمة تُعنى بمتطلبات الموسرين، وبدأت تغير عادات وتقاليد التسوق السورية العريقة، تواكب تسارع مع توقيع الحكومة على اتفاقية التجارة العربية الحرة التي أتاحت تدفق كميات هائلة من الماركات العالمية ذات المنشأ العربي، لتغرق الأسواق المحلية بأسعار منافسة.


الطريق مازالت طويلة


بداية تجربة المجمعات الضخمة، كانت مع مجمع الـ(سيتي مول) عام 2000 ، ولا يزال الدمشقيون يتذكرون الحملة الإعلانية التي سبقت افتتاحه، وعنها يتحدث (بسام عبد 40 عام ): بدا الأمر غاية في التشويق، كنا خارجين لتونا من عقد التسعينات مثقلين بأعباء ركود اقتصادي سقيم، وكانت وعود الإصلاح ومكافحة الفساد في أول تفتحها حين انتشرت إعلانات حمراء في شوارع دمشق مكتوب فيها (صار عنا)!! بعد فترة اكتشفنا أن الذي صار لدينا في سورية هو (سيتي مول) عبارة عن مجمع تجاري يعتبر بالمقاييس العربية مجمع خجول جداً، بل أن البضائع التي كانت فيه هي ذاتها المبذولة في الأسواق الأخرى، ولا تتميز بشيء سوى بأناقة العرض. يتابع بسام: كان ذلك مثيراً للرثاء والأسف، فالإعلان استغل تعطشنا للتغيير والإصلاح، ومن ثم أحبطنا لنتبين أن الطريق مازال في بدايته. لكن ذلك كان مؤشراً غير مباشر على ما سيواجهه السوريون في السنوات اللاحقة.
بعد أربع سنوات في عام 2004 ، سيلفت الأنظار هذه المرة إعلانات أكثر واقعية تطرح شعار "مفهوم آخر للتسوق" مع مجمع ( تاون سنتر) الذي سيشغل مساحة 7000 متر موزعة على ثلاث طبقات -1 و0  و+ 1 ، يقع عند أول أتوستراد درعا، طريق المسافرين براً الى الأردن ودول الخليج. يحتوي الطابق الأرضي على اكبر سوبر ماركت في سوريا، تتكدس فيها البضائع المحلية والمستوردة من الدول العربية كالسعودية والإمارات ومصر. بالإضافة إلى فروع شركات سورية جلها حائز على وكالات عالمية. وقد اعتمد السوق الطريقة الغربية في عرض البضائع، وتبنى سياسة أسعار البيع المحدودة غير القابلة للجدل والمفاصلة (المساومة، العادة الدمشقية الأثيرة في الأسواق التقليدية). على أن الأمر الذي فوجئت به الشرق الأوسط حين حاولت الاتصال هاتفياً مع الحاج محمد كريم صاحب (تاون سنتر). ذلك الرد من الطرف الآخر. إذ بدا تاجرنا الدمشقي وكأنه خارج للتو من السوق العتيق. قال بلهجة تجارية قاطعة بعد ان عرف أن المتصل به صحفية: ليس لي أي مصلحة في ذلك. وعندما حاولنا إفهامه بأننا نريد معرفة بعض المعلومات عن نشاط السوق، ودلالة ما يقومون به من توسع، يضاعف مساحة السوق بعد أقل من عامين على افتتاحه. أجاب منهياً المكالمة مكرراً بسرعة: ليس لي مصلحة في ذلك.


من السوق العتيق


الحاج محمد كريم، رجل أعمال معروف، وهو وكيل شركة "إل جي" الكورية للأجهزة الكهربائية. يشيد موظفوه بأسلوب إدارته للمجمع الذي يملك غالبية البضائع الموجودة فيه، فهو يتبع في غالبية الأقسام طريقة شراء البضائع لا طرح المحلات للاستثمار. واحد من الموظفين وصفه بأنه رجل بسيط ومتواضع، قاعدته أن الزبون دائماً على حق، وقد اضطر في أحد المرات إلى معاقبة موظف تصرف بعصبية مع زبونة استفزته، ومع ذلك لم يتمكن الحاج كريم من التخلي عن  روح تجار السوق العتيق، فهو كما يبدو من الدماشقة الذين لا تغير ثرواتهم الطائلة مظهرهم البسيط، لأن قيمة المال لديهم تتمثل في إنفاقه بالمكان المناسب، كما ينفرون من تسليط الأضواء عليهم، وعلى ما يملكونه، ولو من باب الدعاية والترويج!! كي لا تتفتح عليهم عين الحسد أومصلحة الضرائب وهما بنظر الدماشقة سواء، أو ربما لأن هكذا مكان لا يحتاج للدعاية، فزائر تلك السوق الواقعة خارج مدينة دمشق ليلة الخميس ويوم الجمعة، لن يجد مكاناً في مرآب السيارات الفارهة السورية والعربية، المصطفة هناك حتى ساعة متأخرة من الليل، بزيادة ما يقارب خمس ساعات على موعد إغلاق الأسواق المحدد بالثامنة مساء في الشتاء والعاشرة في الصيف، بل أن الحركة في المجمع، تبدأ بالنشاط في التاسعة مساءً مع موعد نشاط المطاعم والمقاهي.
تنزه
في هذه الملاحظة، يتمثل المفهوم الجديد للتسوق، بتحول عملية الشراء من ابتياع الحاجيات الى مناسبة للتنزه مع العائلة. إلا أن الكثير من الرواد هم من السوريين العاملين في الدول الخليجية والذين يقضون عطلة الصيف بين أهليهم في سورية، ويغلب على مرتاديه الطابع المحافظ، والغالبية الساحقة من الزوار من عائلات ترتدي نساؤها الحجاب، وتبدو عليهم ملامح الوفرة والثراء، ولدى الكثير من هذه العائلات خادمات أندونيسيات (يرتدين الحجاب أيضاً). والملاحظ أيضاً أن أسعار المواد المعروضة للبيع، خصوصاً الاستهلاكية والغذائية، تعادل نظيراتها في محلات البقالة المنتشرة في أحياء دمشق. السيدة هالة (33 عام) اصطحبت طفلتها وعمرها ثلاث سنوات إلى تاون سنتر بغرض الإطلاع، قالت ان الأسعار هنا مرتفعة جداً ولا تعادل سعر السوق، قياساً الى الأسعار في حي القصاع الذي تسكنه، أضف أنه لا يمكن المفاصلة بحجة أن البائعين موظفين والسعر محسوم. في حين أنها في الأسواق القريبة مثل باب توما وحتى الصالحية تحصل على السلع نفسها بأسعار مرضية، إلا أنها المرة الأولى التي تقصد فيها هذا السوق، ولا تعتقد أنها ستأتي كثيراً الى هنا إلا للتسلية وليس لابتياع حاجياتها!!
إذا راقبنا حركة الزبائن لن نعثر على أشخاص كثر مثل السيدة هالة، هناك زبائن معينين باتوا يرتادون السوق وخاصة السوبر ماركت بشكل يومي، بحد أدنى للإنفاق يعادل خمسة آلاف ليرة، وزبائن دوريين بمعدل إنفاق كحد أعلى ثلاثين الى أربعين ألف ليرة، يشكلون القسم الأكبر من الزبائن الذين يعتمد عليهم السوق  بشكل رئيسي، وغالبيتهم من ذوي الدخل المرتفع من عائلات المسؤولين والأسر الثرية من سكان أبي رمانة والمالكي والروضة،  بالإضافة الى المغتربين والأجانب المقيمين في دمشق من موظفي البعثات الدبلوماسية، والمكاتب التابعة للأمم المتحدة؛ من جماعات "ادفع وامشي". موظف في الـ تاون سنتر قال للشرق الأوسط: أول شيء ينساه زبوننا المفاصلة.


لا للمفاصلة


هذه الشريحة من الزبائن تشاهد في الأسواق الحرة، وقلما تشاهد في أسواق الحميدية والحريقة التقليدية، حيث تكون متعة التسوق ليس في بذل المال بسخاء، وإنما في المفاصلة والحصول على أجود البضائع المحلية الصنع بأخفض سعر ممكن. قد يصل الى نصف السعر المدون على السلعة؛ ولا غرابة، هذا جزء من طقوس البيع والشراء الدمشقية، حيث تعلو صيحة "تفضلي ياست" من أفواه فتية يدللون على بضائعهم، ويرجون زبائنهم من النساء أن يدخلن إلى محلاتهم على سبيل الفرجة على البضاعة، وهو يعلم تماماً أن الفرجة ستوقعهم في إغواء الحصول على مشغولات جميلة من ألبسة ومفارش ...
لاشك بأن افتتاح مجمعات تجارية كهذه ذو دلالات سياسية واجتماعية، وينم عن تغيير كبير في سياسة الحكومة الاقتصادية، التي انتقلت من الاشتراكية المتزمتة إلى الانفتاح على الطراز الرأسمالي في الاستهلاك. ويعبر ارتياد المواطنين هذه المجمعات عن تغير في عادات الاستهلاك لدى المواطن السوري، الذي عُرف بالتقشف المضني خلال عقود ماضية من الشح الاشتراكي .
ما يلمس بوضوح، يؤكده افتتاح مجمع تجاري آخر صيف 2005  باسم (أسواق الخير ميترو) ليكون المجمع التجاري الحديث الثاني الآخذ شكل مدينة تسوق وترفيه تنبسط أفقياً على مساحة  5000 متر مربع، في الزبلطاني جنوبي دمشق إلى جوار المنطقة الصناعية حيث ترتفع نسبة التلوث والسكن العشوائي. لكن الذاهب إلى مدينة الترفيه، لن يتخيل أن الطرق المشغولة بالشاحنات والهواء الملوث ستؤدي به إلى مكان يشبه الواحة بنظافته وتنظيمه وجمال تصميمه، مستلهماً طريقة الأسواق التقليدية، بتقسيمه إلى حارات، سُميت بأسماء الورود الدمشقية: حارة الريحان والياسمين والجوري والنرجس ...إلخ. وكأنك تعبر إلى مكان آخر لا علاقة له بمحيطه. هنا يختلف مشهد المتسوقين، كذلك المطاعم الذي يفوق عددها مطاعم التاون سنتر، وهي أقرب إلى الاستراحة مع توفير حيز كبير فيها لألعاب الأطفال.
 في "أسواق الخير" نحن أمام سلسلة من أربعة مطاعم كبيرة، وثماني مطاعم وجبات سريعة، تقع عند مدخل السوق المؤلف من 200 متجر بواجهات عريضة، كما تحتوي على مكتبة ضخمة تفتقدها المجمعات الأخرى، وشارع رئيسي يسمح للمتسوقين من عبور السوق بسياراتهم وإلقاء نظرة على الفاترينات بسهولة. أما سبب اختيار تلك المنطقة من ريف دمشق، فذلك أولاًُ لعدم توفر مثل هذه المساحة داخل المدينة، ثانياً لقرب هذه المنطقة من مركز المدينة، ثالثاً وهو الأهم أن تواجد هذا السوق في منطقة ملوثة من شأنه، أن يسهم بتنظيفها ويسارع بقلب وجهها تماماً، يكفي أن نعلم أن أسعار العقارات في المنطقة ارتفعت خمسة أضعاف بعد افتتاح السوق، فقد كان سعر متر البناء على الهيكل  يتراوح بين 7000  و 8000 ألف ليرة، فارتفع ليتجاوز الثلاثين ألفاً.


للعائلات فقط


في أسواق الخير، لن يكون المشهد متشابهاً كثيراً مع تاون سنتر. والفارق، هنا نرى أفواجاً من السياح الإيرانيين، وعائلات سورية من الطبقة الوسطى وأدنى قليلاً، لكننا مع هذا بالكاد سنعثر في كلا المجمعين على شباب وصبايا كهؤلاء الذين يتمشون في شارع الحضارة الحمصي، أو في شوارع دمشق الصالحية والحمرا و القصاع ... قد نعثر عليهم في مقاهي الـ (ستي مول) كونه يقع في حي المزة داخل المدينة، حيث يأخذ شكلاً حداثياً وطبيعة شبابية لا نجدها في المجمعات الأخرى ذات الأجواء العائلية بامتياز.
كثير من العائلات تفضل إنهاء نزهة يوم الجمعة (السيران) في تلك المجمعات، وهو ما يفسر ازدحامها مساء يوم الجمعة، دون تجاهل عامل آخر مهم جداً في تزايد زبائنها، ويُعزى إلى الأزمة الطارئة على العلاقات السورية  ـ اللبنانية منذ  أكثر من عام. وإذا كان عدد المتسوقين اللبنانيين قد تراجع كثيراً، فإن أعداد السوريين ممن كانوا يقصدون شتورا وزحلة وبيروت أسبوعياً، قد تحولوا إلى الأسواق السورية، وجاءت المجمعات الحديثة لتلبي حاجاتهم من المواد الغذائية المستوردة. ومن الطريف أن تقوم أفران "تفاحة" بالانتقال من شتورا الى أول اتوستراد درعا لتفتح فرعاً ضخماً من طابقين، فرن وباتسيري، إلى جانب الـ تاون سنتر، ليستفيد من زبائنه على مبدأ "مطرح ما بترزق إلزق". ولا نبالغ في القول بأننا لن نجد مكاناً في عجقة أفران تفاحة بعد إغلاق السوق عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل.


كل شيء تغير

ما يثير العجب فعلاً في هذه التحولات الطارئة، هو ما طرأ من تبدل على مفهوم الترفيه أكثر من تبدل مفهوم التسوق، فالترفيه القديم الذي يمكن تلخيصه بتوفر العناصر الأساسية الثلاثة "الماء والخضرة والوجه الحسن" يكاد يفتقد في هذه الأماكن، اللهم سوى الوجه الحسن، إذ تعتمد تلك الأماكن على ما توفره من خدمات كتوفير العاب للأطفال، وتشكيلات واسعة من السلع، لا ما تتمتع به مواقعها من جمال وطبيعة غناء، حيث لا أشجار ولا أنهار من تلك التي اعتاد سكان دمشق قضاء إجازتهم تحت ظلالها وعلى ضفافها، فليس هناك سوى هندسة معمارية حديثة، تستعين بالأنوار المبهرة، لتعبر عن روح عصر تلهث سورية للحاق به، في مشهد عولمي مستجد، لم تألفه بعد المدن ذات أسواق شعبية شهيرة، ما تزال ذاكرة محظوراتها طرية، بدءاً من منع الاستيراد، وحتى منع الأسماء الأجنبية أو الكتابة على يافطة المحلات بأحرف لاتينية!!
 التغير الحاصل في الأسواق، يتجاوز شكل العمارة الحديثة والتفنن بالعرض والإعلان وسيل الأسماء والعلامات التجارية الغربية، إلى إيقاع آخر لمواسم كانت مرتبطة بالأعياد الدينية وافتتاح المدارس، وباتت اليوم مرتبطة بمواعيد التنزيلات وفق ما تحدده الشركات العالمية، هذا بالإضافة لدخول مصطلح "الشوبنغ" إلى الحياة السورية، عبر بوابات المجمعات التجارية الحديثة، كواحد من طقوس الاستهلاك المعاصر. ففي الـ "تاون سنتر" نرى سيدات المجتمع المخملي، اصطحبت كل واحدة منهن خادماتها من الآسيويات ليساعدنها في مراقبة الأطفال أثناء اللعب، أو في جر مشتريات غالبيتها من الكماليات، أو من لزوم ما لا يلزم، إذ يغدو الشراء وسيلة لتبديد الضجر والملل، لا الحصول على أشياء محددة يحتاجها الشاري.
 (زينة 45 عام) سيدة سورية مقيمة في عمان زارت تاون سنتر خلال إجازتها الصيفية العام الماضي، ولم تصدق أن هذا المجمع موجود في دمشق، ويحوي تشكيلة مذهلة من الصناعات المحلية والمستوردة. لقد وفر عليها ذلك مبالغ كبيرة من المال، إذ كانت تقصد السوق الحرة عند الحدود الأردنية ـ السورية لشراء الهدايا وبعض السلع الأجنبية، لتحملها الى الأهل في دمشق، وتقصد الحميدية لتحمل الهدايا إلى عائلة زوجها والأصدقاء في عمان. خلال السنوات الخمس الأخيرة، تغيرت أشياء كثيرة، تقول زينة: الآن، أهلي في دمشق يقولون لا داعي لأن تحملي معك أي شيء من السوق الحرة، كل شيء متوفر هنا وبكثرة.


ذكريات التقشف


لن يتخيل من اكتوى بحرمانات الأزمة الاقتصادية في الثمانينيات وسياسة الاكتفاء الذاتي والتقشف التي فرضتها الحكومة آنذاك، أن يوماً سيأتي تصبح فيه أيام القحط مجرد حكايات تروى للأبناء، كما تفعل اليوم السيدة زينة وغيرها ممن يتحدثون بمرارة عن  طوابير الناس أمام المؤسسات الاستهلاكية للحصول على علبة سمنة، أو كيلو سكر …إلخ من مواد التموين الأساسية. أما المناديل الورقية التي تغرق معاملها اليوم سوريا، فكانت من جملة الأشياء النادرة المهربة من لبنان كالمعلبات والموز، يُحتفظ بها في الخزائن ويقفل عليها بالمفتاح، للحد من استهلاكها، ولا تبذل إلا من اجل الطفل المدلل والضيف العزيز. يتذكر (مفيد حسن 52 عام) تلك الأيام جيداً وكيف كان موظفو المؤسسات الاستهلاكية يبتكرون طرقاً  لصف الطوابير ولمنع التدافع والاشتباك بالأيدي. يقول، تتوقف سيارة البضائع المغلقة وفتحة صندوقها نحو الجدار مع  فاصل بالكاد يسمح بعبور رجل واحد، ويجلس موظفان عند طرف صندوق السيارة، واحد من اليمين وآخر من الشمال،  الأول يسجل اسم الزبون، والثاني يسلمه علبة السمنة،  ليعبر في الحيز الضيق الى الطرف الآخر. كانت السيارات تحمل مثلاً 200 علبة سمنة، بينما عدد المنتظرين في الدور يتجاوز أربعمائة شخص. أيام عصيبة، ما يزال طعمها تحت أضراسنا، فقد كان كل شيء مفقود. ويشير السيد مفيد إلى أن جيلاً كاملاً اكتسب عادات غريبة من تلك الفترة، كالمبالغة في التقنين والتموين الزائد، والاحتفاظ بعلب السلع الفارغة وأكياس النايلون، كما تفعل والدته خوفاً من فقدانها أو غلاء ثمنها، كما تقوم بادخار الأقلام كلما اشترى للأولاد قرطاسية، كأشياء قد لا تتوفر في كل وقت، وإذا وجه أحد لها اليوم بعض اللوم، تسارع إلى تذكيرهم كيف كانوا يبحثون عن قلم رصاص ولا يجدونه إلا في المؤسسة الاستهلاكية تبيعه ضمن عرض إلزامي، لتصريف البضائع الكاسدة، كأن تضع عشرة دفاتر خمسين ورقة مع علبة  أقلام تلوين النسر وأقلام رصاص وأقلام حبر الريم، وجميعها إنتاج المؤسسات العامة، لا نعلم أين اختفت اليوم!! 
كما لا ينس السوريون حين سمح باستيراد الموز بداية التسعينات وانخفض سعر الكيلو من 150 ليرة إلى 50  وما دون، وصار الباعة الجوالون في دمشق ينادون عليه (معتر يا موز كنت معلق بالعلالي صرت مشطح بالأراضي)!! كما يقال أن أهل الخليج لم يفهموا ما ورد في إحدى حلقات مسلسل "مرايا" التي تناولت موضوع الموز المفقود في سوريا! ذكريات تفرض نفسها على المواطن الذي وعى عناء تلك الفترة لدى زيارة الأسواق الحرة التابعة للقطاع الخاص في مطار دمشق الدولي وعند معابر الحدود مع لبنان والأردن وتركيا وفي ميناء اللاذقية، كانت على الرغم من تخصيصها للمغادرين والأجانب إلا أن معظم زبائنها من السوريين.
الخبير الاقتصادي الدكتور نبيل سكر مدير المكتب الاستشاري السوري للتنمية والاستثمار يعيد سبب فشل السياسات الاقتصادية السابقة الى إغفال اقتصاد السوق ووضع العدالة الاجتماعية أولاً ،على حساب التوزيع الكفؤ للموارد، وبذلك لم  تستطع السياسات تحقيق الفائض الاقتصادي اللازم لإعادة الاستثمار، فكان النمو الاقتصادي ضعيفاً، كما أن هذه السياسات لم تنجح في مسعاها لتحقيق العدالة الاجتماعية. ويضيف في حديث له مع الشرق الأوسط : " أن العدالة الاجتماعية لا تتحقق من خلال ملكية  الدولة لعوامل الإنتاج والتوظيف الاجتماعي، بل من خلال السعي للكفاءة الاقتصادية والتوزيع الأفضل للموارد ومشاركة كافة فئات الشعب في عملية التنمية وذلك لرفع معدلات النمو، ثم توزيع هذا النمو  توزيعاً عادلاً . وهنا يكمن دور الدولة  بتدخلها من أجل كبح جموحات اقتصاد السوق  وتعزيز المنافسة والإنفاق الكبير على التعليم والصحة وشبكات الحماية الاجتماعية .. إلخ"  

 

وادعاً اشتراكية


 بالإضافة إلى المجمعات التجارية الضخمة التي راحت تظهر تباعاً، يقال إن هناك مشروعاً ضخم جداً لبناء مركز تسوق (سيتي سنتر) في دوار كفرسوسه بالقرب من مركز المدينة، ليكتمل ارتسام الوجه الاقتصادي للانفتاح على السوق العالمي بعد أربعة عقود من الانغلاق وسياسة الاكتفاء الذاتي المتمثل بانتشار المؤسسات العامة الاستهلاكية في كافة أنحاء البلاد، حين كانت الدولة هي المصّنع والتاجر، ولا تزال أبنية تلك المؤسسات شاهداً حياً على احتضارها، من مجمع العباسيين والأمويين وحتى صالة 8 آذار في دمشق  وغيرها الكثير من كبرى الصالات في دمشق والمدن الأخرى، انتشرت أواسط السبعينيات بزهو يستلهم التجربة السوفياتية الناجحة بتطبيق نظام أمومة الدولة الاشتراكية ويعكس الوفرة الاقتصادية لسورية حينذاك. ويقول السيد مفيد بهذا الخصوص، إن الناس كانت تتحدث عن افتتاح مجمعي العباسيين والأمويين بما يشبه الأساطير، عن ضخامتهما وما يحتويانه من تشكيلة بضائع متنوعة، فإلى جانب الصناعات المحلية كان يباع فيها مصادرات الجمارك من السلع الأجنبية المهربة، وفي مجمع العباسيين كان أول درج كهربائي في دمشق. إلا أن السيد مفيد يضحك، هذا الدرج معطل منذ تلك الأيام ولغاية اليوم.
في سوق الصالحية، لفت نظر هدى وخطيبها كامل صالة بيع لشركة عامة تصنع الألبسة القطنية، فتذكرا أنهما في طفولتهما كان يرتديان من منتوجاتها، فدفعهما الحنين لدخول الصالة. إلا أن الموظف المسؤول عن البيع قابلهما بوجه متجهم رافضاً القيام من على كرسيه ليبيعهما ملابس داخلية، وعندما ألحا عليه بالطلب مستغرببن عدم اهتمامه بهما. قال لهما: ضايق خلقي ولا يروق لي العمل الآن!! وعلى سبيل التسلية، قالا له : لماذا لا تشرب المتة وتروح عن نفسك. فأجاب: ضايق خلقي من شرب المتة طيلة النهار.


"تنذكر وما تنعاد"


هذه المؤسسات التي نخرها الفساد بأنواعه، تحولت في الثمانينات الى وسائل لقهر المواطن في عز الضائقة الاقتصادية. كانت البضائع تصل بشح الى صالات البيع، وإذا وصلت يقوم الموظفون بإبلاغ المقربين إليهم، ليأخذوا أكثر من حصصهم بغض النظر عن سائر المواطنين الآخرين، أو يتم تسريب البضائع إلى المحلات التجارية الخارجية لتباع في السوق السوداء بأسعار مضاعفة. "تنذكر وما تنعاد" يقول مفيد عن فترة تحولت فيها تلك المؤسسات الى ساحات للبؤساء يتشابكون بالأيدي  للحصول على زجاجة زيت أو علبة محارم.
مرحلة عصيبة تحايل عليها السوريون بكثير من النكات تناولت واقع المؤسسات الاستهلاكية العامة، وإحداها تقول: أن سائحاً عربياً مر من أمام إحداها ووجد ازدحاماً وتدافعاً بالأيدي. فسأل صديقه السوري ماذا يحدث هنا؟ فخجل وقال له، بأنهم يقومون بتقديم واجب العزاء. فتقدم السائح ليقوم بالواجب، فرأى أحدهم يهم بالخروج بصعوبة من تلك العجقة. فسأله: عزيت ياخوي. فرد عليه، لا على السمنة.
أيام صعبة، تمحوها منذ سنوات وفرة البضائع المستوردة في الأسواق الحديثة، حتى الفقراء الذين يتزايدون بكثرة، لهم أسواقهم الخاصة، يضاف إليها مهرجانات للتسوق، تُصرَّف فيها البضائع الكاسدة بنصف السعر، فتتمكن الغالبية من ممارسة طقوس "الشوبنغ" الوافدة، وتسد رغبة الأجيال الناشئة وما تظهره من ولع بالجديد، من جراء انتشار علامات الشركات العالمية وبالتحديد في مجال الألبسة والعطورات. فمنذ وقف الاستيراد سعى الصناعيون للحصول على امتيازات لمصنوعات تجارية شهيرة لتوفيرها من مواد خام محلية تتناسب الى حد ما مع الدخل المحلي. فلم يعد هناك حاجيات استهلاكية ضرورية يحتاجها السوري من الخارج، وإنما هناك من يفضل المنتج المحلي على المستورد ويخشى عليه من تدفق  البضائع العربية والأجنبية المتوقع أن تغرق الأسواق في حال توقيع اتفاقية الشراكة مع أوروبا.
بعد أن اعتاد السوريون على تلبية احتياجاتهم بأسعار تناسب قدرتهم الشرائية، لم يظهروا الارتياح لتدفق الكوكا كولا إلى أسواقهم، بعد طول منع بسبب وضعها على قائمة المقاطعة. وسابقاً فشلت مطاعم كنتاكي فشلاً ذريعاً حين افتتحت فروعاً لها في دمشق، إذ لم يستسيغوا نهكة عالمية خالصة دون مراعاة للذائقة المحلية. لكن من جانب آخر، أثبتت شركات الألبسة الجاهزة السورية الحائزة على علامات تجارية عالمية نجاحاً لافتاً، ليتجاوز عدد الامتيازات الدولية الـ 24 امتياز، خلال السنوات الأخيرة مثل اديداس وبنتون وكيكرز ولاكي مان وبيست ماونتن ومارينا وناف ناف .. إلخ. تنتشر فروعها في مختلف أنحاء دمشق والمحافظات الأخرى، وترفع التنافس مع الماركات الأخرى محلية الصنع التي لا تقل جودة وشهرة عنها، مثل أزياء الـ 400 وآسيا والقاضي والرضائي ...إلخ
القرار بتبني اقتصاد سوق اجتماعي هو خلط بين النموذج الصيني، مع شيء من التجربة الماليزية، أسهم بتقليص، بل وألغى قائمة المحظورات الاقتصادية، وقد بدأت الخطوات تتتالى تباعاً، وإن بتعثر، بعد تأخر طال، وتسارعت في السنتين الأخيرتين مع اشتداد الحصار على سوريا، وفرض العقوبات الأمريكية في محاولة لعزلها بعد الحرب الأمريكية على العراق. واستغلال اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري  لإحكام الحصار ، الذي حاولت سوريا كل جهدها للتغلب عليها عبر شد خصر الاقتصاد بحزام  من الاستثمارات وفي مقدمتها العربية، فمنحت تسهيلات كثيرة لرجال الأعمال والشركات من السعودية والكويت والأمارات وقطر والبحرين، للقيام بمجموعة كبيرة من المشاريع السياحية والمجمعات التجارية في أنحاء مختلفة من البلاد. وعلى الرغم مما يحمله ذلك من مؤشرات ايجابية لصالح تحسين الدخل والحد من البطالة عبر توفير فرص العمل، إلا أن مخاوف كثيرة تنتاب السوريين من اضمحلال الطبقة الوسطى لصالح اتساع الطبقة الفقيرة، وزيادة ثراء الطبقة الغنية. وجراء تنامي الاستثمار في القطاع الخدمي على حساب القطاع الانتاجي.
السيدة رحاب ناصر صاحبة شركة  بروفشنال تورز السياحية، عبرت عن مخاوفها: أمام المواطن السوري فترة عامين فقط، فإما أن يسعى لتحسين دخله ويلتحق بالطبقة الثرية، أو يبقى محافظاً على وضعه بصعوبة، إن لم ينضم لطبقة الفقراء، التي نراها تزداد يوماً بعد يوم، جراء تخلي الدولة عن رعايتها. وتؤكد السيدة رحاب أن أشياء كثيرة ستتغير، وإذا لم نواكب هذا التغيير ونفهمه، سنجد أنفسنا ندفع ثمنه باهظاً. 
لذا يحذر الخبير الاقتصادي الدكتور نبيل سكر من التحالفات التي قد تنشأ عند الانتقال من الاقتصاد الموجه الى اقتصاد السوق، ويقصد التحالفات التي تحدث بين أهل السلطة وأهل الثروة لتحقيق مصالح خاصة، وهذا حدث بدرجات متفاوتة في جميع الدول التي قامت بهذا الانتقال، إذ لا بد من السعي لمنع تكرار تلك التجارب.عبر وضع تشريعات تمنع تحالفات الفساد، وتعزيز استقلالية القضاء وكفاءته، وتوسيع دور المجتمع المدني في كشف هذه التحالفات، وكذلك بناء ضوابط لمنع الاحتكار.

الشرق الأوسط

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...