مذهب سلطنة عمان: مدخل للتعرف على المذهب الإباضي

30-11-2018

مذهب سلطنة عمان: مدخل للتعرف على المذهب الإباضي

على صعيد نشرات الأخبار والصحافة والبرامج الحوارية والمحادثات اليومية، لا تشغل سلطنة عمان مساحة ملحوظة. دولة هادئة بمساحة نحو 310 كيلو مترات مربعة، يحكمها السلطان قابوس بن سعيد منذ نحو نصف قرن، عقب انقلاب نظيف على والده سعيد بن تيمور عام 1970.


لكن إلى جانب لعبة المصالح والموازنات، وفي ظل الهيمنة المتزايدة للمملكة العربية السعودية بأجندتها المغلفة طائفيًا، تلعب الهوية المذهبية دورًا هامًا في الحيلولة دون اطمئنان السلطنة وانسجامها مع محيطها العربي. فقد كانت عمان طوال أغلب تاريخها الإسلامي، دولة إباضية عقيدة وفقهًا؛ أي – وفق توصيف أهل السنة والجماعة بمختلف فرقهم – دولة «خوارج»!


يصعب في البداية تخيل الخوارج في دولة مستقلة، بتمثيل دبلوماسي وعلاقات بمختلف دول العالم، لهم فقه متطور يعد من بين المدارس الفقهية غير السنية المعتبرة، اعتمد لدى جهات عدة مثل مجمع البحوث الإسلامية، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ومجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، كما لاقى من الأزاهرة دراسة واهتمامًا، خاصة مع ظهور جماعات خارجية فجة تطال تفجيراتها وهجماتها المسلمين كما تطال غيرهم، لا يكتفون بتكفير الحكومات بل يتعدونها إلى العامة والحركات الإسلامية الأخرى. إلا أن للإباضية وضعًا خاصًا، حتى قال الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه «تاريخ المذاهب الإسلامية» إنهم:


أكثر الخوارج اعتدالًا، وأقربهم إلى الجماعة الإسلامية تفكيرًا، فهم أبعدهم عن الشطط والغلو، ولهم فقه جيد، وفيهم علماء ممتازون.والحق أن هذا الوضع هو ما دفعهم كثيرًا إلى التبرؤ من تلك النسبة، وتعديد الاختلافات بينهم وبين الغلاة، بدءًا من ظهور الخوارج في العصور الأولى، فهي نسبة ما يزالون يكرهونها وينكرونها. بخلاف لقب الإباضية، الذي رفضوه فترة ثم سلموا به، كونه أمرًا واقعًا علاوة على كونه انتسابًا إلى أحد أئمتهم المبكرين المعدودين – عبد الله بن إباض – لا يرون فيه نقيصة، وإن خالف ادعاءهم الانتساب إلى أحد كبار التابعين كما سيأتي. لكن علينا أولاً ذكر النشأة وأبرز فصولها.


نشأة الإباضيةالخوارج جماعة: دماء حروراء تسيل في النهروانيرجع أول افتراق مذهبي في الصف الإسلامي إلى العقد الهجري الرابع، مع اغتيال الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وخلو مقعد الخلافة، والخوف من شيوع الهرج والفوضى في ديار المسلمين. حتى خشي ذلك القتلة أنفسهم، فكانوا من بين الوفد الذي أقنع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، بقبول الخلافة بعد رفضه، وكان لهم يومئذ مدد وأعوان وشأن يوجب التأني. لذلك اعتذر الخليفة إلى الصحابة الذين طالبوه بالاقتصاص لدم الخليفة الشهيد، ورأى إرجاء الأمر إلى حين خوفًا من الاقتتال الأهلي.


عقدت البيعة لرابع الخلفاء الراشدين، من أهل المدينة والعراق ومصر وغيرها، وبدأ بعزل بعض الولاة الذين أوغرت سياستهم صدور العامة على سلفه الشهيد. كما عزل معاوية بن أبي سفيان، والي الشام وأمصاره في عهد عثمان، لكنه رفض المبايعة أو الانصياع قبل الاقتصاص لدم الخليفة المسفوك، وتحزبت له بنو أمية وطائفة كبيرة من أهل الشام. فكانت موقعة صفين، عام 37 هجريًا، على الحدود بين العراق والشام. ولما ظهر جيش العراق على جيش الشام، رفعت الفرقة الأخيرة مصاحفها تدعو إلى تحكيم كتاب الله.

مع إصرار جماعة من جيش العراق على قبول التحكيم قائلة «ما يسعنا أن نُدعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله»، قبل الخليفة مكرها. لكن مع توالي الأحداث، سرعان ما رجعت تلك الجماعة عن رأيها، رافضة ما أفضى إليه التحكيم، مطالبة بمعاودة القتال، تحت دعوى أن «لا حكم إلا لله»، فأجاب الخليفة بقولته الشهيرة: «كلمة حق أريد بها باطل»، لتنشق تلك الفرقة وتنتقل إلى بلدة حروراء بالعراق،براءة من الخليفة الرابع وخصمه معًا.


ناظر تلك الفرقة علي بن أبي طالب بنفسه مرة، مثلما ناظرهم عبد الله بن عباس مرة. وحكى ابن عباس أنه لم يكن في تلك الفرقة من الصحابة أحد – ونقل ابن حزم أنهم ما كان فيهم صاحب فقه مطلقًا – كما تعجب من اجتهادهم منقطع المثيل في العبادة والزهد.


ولما لم تصمد للحروريين حجة في المرتين، رجع أكثر «القراء» – هكذا أطلق عليهم لكثرة الحفظة فيهم – مع أنصار الخليفة إلى الكوفة، إلا أن نفوسهم لم تصفُ من الخصام؛ إذ سرعان ما عاد القوم إلى الدعوة نفسها، فطعنت جماعة في إيمان الخليفة وجماعته، وفارقتهم ثانية. حينها أمر الخليفة بعدم التعرض لهم، أو منعهم المساجد، أو البدء بقتالهم.

لكن الخوارج سفكوا الدماء، وقطعوا الطريق على المسلمين، وقصة قتلهم الصحابي عبد الله بن خباب شهيرة. فجمع الخليفة جيشه وخرج إلى النهروان، حيث قاتلهم وظهر عليهم وقتل قائدهم عبد الله بن وهب الراسبي، عام 38 هجريًا.


وعلي قبل المعركة وفيها وعقبها يعاملهم معاملة المسلمين البغاة، يرفض تكفيرهم أو ملاحقة فلولهم أو الإجهاز على جريحهم أو سبي نسائهم، ثم كان ما كان من استشهاده غيلة على يد أحدهم، وانتقال الخلافة إلى معاوية، ثم عهده بها إلى ولده يزيد، وفي ذلك فصل جديد من قصة الخوارج.


الخوارج فرقًا: زرعة مرداس تثمر في ابن إباضكان الخوارج هم الأسبق إلى الثورة على الدولة الأموية، وأظهروا في ذلك بأسًا شديدًا طوال سنوات الأمويين الأوائل. بينما جنح فريق منهم إلى السلم، وانشغل بنشر أفكارهم، أبرزهم أبو بلال مرداس بن أدية، الذي نزل على قبيلته تميم بالبصرة ونشر دعوته فيها.


وكان على اجتهاده في العبادة والوعظ خارجي ممن قاتلوا الإمام عليًا في النهروان، لكنه لم يكن يرى ابتداء المسلمين بالقتال، ولا امتحان عقيدتهم. إلا أن اشتداد ولاة بني أمية على الخوارج، أكره حتى القعدة منهم على القتال، مثل مرداس الذي قاتل ببسالة، وانتصر في معارك غير متكافئة، قبل أن يقتل وفريقه وهم يصلون عام 61 هجريًا.

عقب وفاة يزيد بن معاوية عام 64 هجريًا، اشتعلت ثورة/خلافة عبد الله بن الزبير، التي دامت نحو عقد من الزمان. وفي السنوات الأولى، حين ظهر أمر ابن الزبير والتف حوله الناس وبايعته الأمصار، في فترة اضطراب البيت الأموي، رأى الخوارج نصرته. فذهب إليه منهم فريق كبير – فيه عبد الله بن إباض – تحت زعامة نافع بن الأزرق، حارب معه. ومع توالي الانتصارات، رأى ابن الأزرق امتحان عقيدة ابن الزبير في عثمان بن عفان، فأشهده ابن الزبير ومن حضر أنه ولي ابن عفان في الدنيا والآخرة، مثبتًا له العدل والتقوى والإيمان، ففارقه ابن الأزرق وجماعة الخوارج.


بعدها جاهد أهل البصرة ابن الأزرق الذي دخلها مع جماعته في غياب واليها، فكاتب الخوارج فيها، يحثهم على جهاد الكفار معه، ثم أعلن هلاك جميع من سواه وفرقته، سواء من يخالفونه ومن يوافقونه لكنهم قعدوا عن نصرته. ودعا أصحابه إلى البراءة منهم وحرمة مناكحتهم أو أكل ذبائحهم أو قبول شهادتهم أو ميراثهم، ورأى امتحان عقيدة العوام في الطرقات لقتل من يكنّ غير معتقده، وجعل أطفال غير فرقته كافرين مخلدين في النار يجوز قتلهم. فالجميع عنده كفار كمشركي العرب عند البعثة.


لكن ابن إباض لما قرأ رسالة ابن الأزرق أنكرها، وتبرأ منه، وبرأ القوم من كفر الملة (الشرك)، غير أنه أثبت لهم «كفر النعمة» (النفاق). لينشق بذلك ابن إباض بفرقته عن ابن الأزرق، مثلما انشقت حينها فرقتان من مجرمي الخوارج هما الصفرية والنجدات.


وقفة مع الرواية والعقيدة الإباضيةيختلف المصنفون السنة في تعريف الخوارج بعض الشيء، مثل من يرى أنهم كل فرقة تخرج على إمام مسلم، ومن يجعلهم الفرقة الثالثة التي خرجت على الإمام علي بن أبي طالب خلال قتاله جيش الشام، بسبب حادثة التحكيم، ويراها مصداقًا لحديث الرسول:


يخرج في هذه الأمة قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية[…]ويجعلون جميع الحركات التي ستخرج منها لاحقًا سواء في استحقاق ذلك النعت، بما فيها الإباضية والنجدات والأزارقة وغيرها. لكن الجمهور على أن الإباضية فرقة خارجية.


خالف في ذلك من المتقدمين الدكتور محمد سليم العوا في كتابه «المدارس الفكرية الإسلامية»، إذ جعل الإباضية فرقة مستقلة عن الخوارج، اعتمادًا على أقوالهم التي في مدوناتهم، ولعل ذلك مقتضى الإنصاف. ورد الأخبار العجيبة التي نقلها الإمام ابن حزم في «الفصل في الملل والنحل»، وهي أشنع وأسخف ما كتب عنهم، فلعله رأى فرقة ضالة انتسبت إليهم، خاصة أنه لم يغادر الأندلس قط.

 يفضل الإباضية التسمي بـ«أهل الحق والاستقامة»، ويثبتون العدالة للخليفتين الصديق والفاروق، ويخطئون عثمان ما بعد سنوات خلافته الست الأول، وعلي بعد التحكيم. فيبرؤون منهما، ويوالون الخارجين عليهما (في تاريخ الإباضية – وهي فرق – تنويعات ما بين الشطط الجامح والنسبي في حق الخليفتين، كله مخالف للرؤية السنية)[1]، إذ جاء في رسالة ابن إباض إلى عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي: «فهذا خبر الخوارج، نشهد الله والملائكة أنا لمن عاداهم أعداء وأنا لمن والاهم أولياء، بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا، على ذلك نعيش ما عشنا، ونموت على ذلك إذا متنا».


حيث ينكر ابن إباض وفرقته من بعده أن تكون تلك الفرقة الخارجة على ذي النورين هي المارقة من الدين التي أنبأ عنها الرسول؛ لأن بيعة الخليفة الثالث، رضي الله عنه، قد سقطت عن أعناق المسلمين بقبوله التحكيم. فصار لتلك الجماعة حرية تولية خليفة جديد، مثل ابن وهب الراسبي قائدهم في معركة النهروان ضد الخليفة الثالث.


لكن الحمولة السلبية التي سترتبط بلفظة الخوارج عند أهل السنة عامتهم وفقهاءهم ستدفع الإباضية إلى استبدالها بـ«المُحَكِّمة» (نسبة إلى شعار «لا حكم إلا لله»)، بل وستجاريهم في تلك الحمولة لكن بعد تعديل دلالة اللفظ، إذ إن الخوارج عند الإباضية – بالمعنى الشائع اليوم – هم فرق الأزارقة والصفرية والنجدات وأمثالهم ممن يكفرون الأمة كفر ملة ويوجبون قتالها[2].


تبرأت الإباضية من هؤلاء «الخوارج»، كما قاتلتهم في بعض المواقع، بل جاوز بعض الإباضيين أهل السنة في الشدة والحسم حين عدّوهم بذلك القول من المشركين. مثل ما جاء في رسالة ابن إباض إلى ابن مروان السالفة الذكر: «غير أنا نبرأ إلى الله من ابن الأزرق وأتباعه من الناس، لقد كانوا خرجوا حين خرجوا [في قتالهم ضد الأمويين] على الإسلام [وهم على ملة الإسلام] فيما ظهر لنا، ولكنهم ارتدوا عنه، وكفروا بعد إيمانهم، فنتبرأ إلى الله منهم».


على عكس الخوارج، لا يوجب الإباضية الخروج على الحاكم الظالم عصمة للدماء، في موقف مشابه لموقف أهل السنة[3]. لكن لجماعة من المسلمين متى بلغت الأربعين أن تختار الشراء – نسبة إلى آية «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة» – فتبايع إمامًا لها وتحث على مجاهدة إمام الجور، دون إيذاء العامة أو إخافتهم. وستتطور وظيفة الشراة إلى الرقابة على مسلك الإمام في دول إباضية لاحقًا[4]. ولا يشترطون القرشية للإمامة، بل مجرد الكفاءة والعدالة[5].

 يعرف عن الخوارج تكفير مرتكب الكبيرة، أما عند الإباضية فهو كافر كفر نعمة (مصطلح له عند أهل السنة استخدام لا يخرج من الملة ولا يوجب الخلود في النار)، وإن كان مآله حال موته مصرًا على الكبيرة دون توبة هو الخلود في النار أيضًا، محرومًا حتى من شفاعة النبي. وعلى عكس أهل السنة، تتفق الإباضية مع الخوارج والمعتزلة في إنكار رؤية المؤمنين لله في الحياة الأخرى والقول بخلق القرآن[6].


جدير بالذكر أن الإباضية تنسب أفكارها وأقوالها العقدية والفقهية الرئيسية إلى أبي الشعثاء جابر بن زيد التابعي العماني الجليل – حمل العلم عن جمع من الصحابة وكان أنجب تلاميذ ابن عباس – الذي آثر كتمها خوفًا من بني أمية، فإنما كان ابن إباض ينطق بلسانه ويجهر بآرائه ويلزم أمره في جميع ما ذهب إليه. وأخبار جابر بن زيد في المدونة السنية قليلة، لكنها تنقل أنه تبرأ من الإباضية، وإن نسبه بعض المتأخرين إليها مثل الشهرستاني في الملل والنحل.


للإباضية مسند حديثي عظيم المكانة عندهم، صنفه إمامهم الثالث الربيع بن حبيب، يروي فيه عن جابر بن زيد عن السيدة عائشة وابن عباس وابن عمر وآخرين ما لم يرد أكثره في صحاح أهل السنة، التي يحاكم الإباضية متونها وأسانيدها إلى أصولهم وأخبارهم وفهمهم قبل القبول. وهو ما أثر بالطبع على أقوالهم الفقهية والعقدية، رغم اعتمادهم مصادر أهل السنة عامة من قرآن وسنة وإجماع وقياس واستصحاب وغيره.


أما عن رحلة الإباضية جغرافيا إلى عمان، فستلعب فيها مدينة البصرة بسكانها من بني أزد العمانيين – وإليهم ينتسب بن وهب الراسبي وجابر بن زيد – دورًا كبيرًا في البداية، إذ ستنتقل البذرة المذهبية إلى تربة عمان بحكم الروابط القبلية، والنشاط التجاري، وكذا نشاط بعض فلول الخوارج وابن إباض في الدعوة هناك. بعد أن دخل الإسلام إلى عمان – ذات المكانة التجارية والعسكرية الهامة – بيسر وهدوء في زمن الرسول، بفضل استقلال الحكم عن إمبراطوريات العجم، أو الساسانية الفارسية تحديدًا.

والاستقلالية سمة عمانية أصيلة ستغذيها الخصوصية المذهبية تاريخيًا، كما سيحرص أهلها على صونها على مر الزمان عبر ثورات عنيدة متتالية، تتضافر فيها المذهبية الإباضية مع القبلية الأزدية، إلى أن يؤول الأمر أخيرًا إلى السلطان الحالي: قابوس بن سعيد «الأزدي»!

 



إضاءات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...