لؤي كيالي.. موته إحدى لوحاته

31-05-2013

لؤي كيالي.. موته إحدى لوحاته

شكل الفنان لؤي كيالي في أسلوب حياته وأيضاً في أسلوب موته ظاهرة استثنائية بين المثقفين السوريين عموماً والتشكيليين منهم خصوصاً.
لم يكن لؤي كيالي رساما واقعيا مكتفيا بنقل النماذج الموجودة امامه، الصور الشخصية خصوصا، بل كان مدركا بشكل عميق جدا لأهمية الارتباط بين ما يرسمه وبين ما يعرفه، الامر الذي يعين بشكل اساسي مسار التعبيرية في الفن عموما وفي زاويته الشخصية من تلك التعبيرية خصوصا. وهو بغوصه في اعماق الاشخاص الذين يرسمهم، حتى لو كان الرسم بناء على طلب مسبق، فإنه كان يستكشف المعاناة الداخلية وارتسامات المشاكل والهموم مجسدا اياها في التأكيد على نظرات العيون المحاطة غالبا بهالات وخطوط سوداء واضحة والناقلة لحزنها الدفين وأيضا في تصوير حركات الايدي التي تعكس تلك الحالات الداخلية المعقدة.
ولا شك ان محاولة الوصول الى تلك المناطق المظلمة في الذات الانسانية واستخراجها بواسطة هذا الكم الشحيح من الالوان وتلك الخطوط السوداء الواضحة التي تغلف أشكاله وتلك البساطة الظاهرة في اختيار التكوينات تتطلب حساسية ورهافة غير عاديتين، وهو ما نتأكد منه في حضور اللوحات التي استطاع من خلالها نقل تلك الشحنة بشكل فوري ومباشر الى اعماقنا، يذكرنا بتلك اللحظات نفسها التي هَمَّ فيها بالدخول الى ذلك العالم المتشعب والمعقد لدهاليز النفس البشرية.
ولكن الوجود في تلك المسالك المتوترة لن يكون بلا ثمن. فمع بنية حساسة وهشة ومضطربة كالتي لديه دفع لؤي كيالي الثمن.
أصيب لؤي بأزمة نفسية حادة على اثر نكسة حزيران التي هاجم نتائجها بعنف وأدخل على اثرها المستشفى في كل من سوريا و لبنان، مما أثر في عمله في كلية الفنون، حيث صدر في النهاية قرار بتسريحه العام (1972)، ولكنه ما لبث أن استعاد صحته النفسية في العام (1973) وبدأ المرحلة الأغزر من إنتاجه.
اهتم كيالي طيلة تجربته التشكيلية بالناس المسحوقين، وقدم معاناتهم عبر الوجوه التي تعكس عوالمهم الداخلية من خلال نظرات العيون وحركات الأيدي، واعتمد الخط الذي يؤطر الأشخاص على خلفيات استخدم لها تقنيات خاصة تشبه (الفريسك) في لوحاته القماشية، واستفاد من ملمس الخشب المعاكس الذي تركه ولوّنه بألوان خفيفة. ورسم ماسحي الأحذية، وبائعي اليانصيب والصحف والصيادين، وانحاز لهم، وأظهرت أعماله دائماً الجانب الإنساني بحزنه العميق والهادئ. ورغم انه ابتدأ اعماله بواقعية تسجيلية، الا انه سرعان ما اكتشف واقعيته التعبيرية الخاصة خصوصا بعد عودته من الدراسة في روما حيث برز الحزن النبيل والصامت ليغلف اعماله بمسحة خاصة تنسجم مع التقنيات التي اختارها والتي تذكر بالجدران القديمة المهترئة والتي استخدم فيها غالبا الوانا خفيفة لا تكاد تخفي السطح الاساسي الذي يظهر من تحت تلك الالوان مذكرا بمرور الزمن وتأثيراته. واذا ما قارنا تعبيريته الهادئة بتعبيرية مجايله فاتح المدرس فاننا نشاهد الفارق الكبير عن الاخير الذي استخدم غالبا ريشة وسكينا مترعتين باللون يجرفهما عن الملونة جرفا بينما يلجأ لؤي الى تقشف لوني ينسجم مع ذلك العالم الساحر بشجونه واحزانه التي لا تنتهي.
ويمثل تناول كل موضوع من مواضيعه ومقدار الغوص الذي يتملكه اثناء العمل به مؤشرا على الجدية الكبيرة التي يوليها لبحثه الفني. ينطبق هذا على انهماكه في رسم قرية معلولا الجبلية في ريف دمشق أو صيادي ارواد وطرطوس على الساحل السوري او جملة مواضيعه الشعبية: ماسح الاحذية او بائع اليانصيب... وحيث نرى ان جل بحثه الفني انصب على رفع الموضوع المرسوم من صفته الارضية اليومية الى ذرى الدراما التشكيلية اللازمنية، وكأن ما نراه ليس مشهدا منقولا عن موضوع يومي بل عن دراما تجري على مسرح مواز تجري مشاهدته بنظارات خاصة تحوله الى قيمة انسانية خالدة.
ولا شك بأن الحزن والكآبة والاحباط في شخصيته اضافة الى الظروف العامة الضاغطة قد ساهمت جميعها في صناعة رؤيته الفنية المتفردة التي اوصلته في النهاية الى التعبير عن مجموعة انسانية ضخمة تقع تحت ضغط ازمة اجتماعية كبرى تظهرهم كطبقة مسحوقة تعاني من ظلم الداخل والخارج معا. وقد وصلت الازمة، مع احتلال الجولان ونزوح الآلاف، الى نقطة تفجر داخلي تجاوز االحدود وادى الى انهيار نفسي اعقب رسم اعمال مهمة عن النزوح والازمة الانسانية لوطن ينتهك ولا مجال لتحمل مصيبته. ومع وصول الالم الى انهيار نفسي واضح مزق لؤي اعمال معرضه في سبيل القضية واستسلم للمرض.
في 10 أيلول عام 1978 وفي ظل روايات تتناقض بين حادث سببه لفافة تبغ أو انتحار احترق لؤي كيالي في غرفته في مدينته حلب، ونقل إلى المستشفى فيها ومن ثم إلى دمشق، لكنه ما لبث أن فارق الحياة في 26 كانون الأول عام 1978 إثر مضاعفات حادثة الحريق.
وتعين حادثة الحريق التي ادت في النهاية الى رحيله المحزن مشهدا مثيرا ومألوفا في تناول حياة المشاهير على امتداد التاريخ الانساني... فقصة فان غوخ الشهيرة التي قطع فيها احدى أذنيه وقدمها الى فتاة في البار، كما مئات القصص المشابهة التي استخدمت في ما بعد من قبل محبي الفضائح والصحافة الصفراء على اختلاف مقاصدها مثلما من قبل جامعي التحف وأصحاب الغاليرهات في الترويج لأعمال الفن والهمس في اذن المقتنين مما يوحي بالاهمية الاستثنائية: « انها من أعمال الفنان الذي قطع اذنه، أو هي من أعمال الفنان «الذي أحرق نفسه»، وحيث تدخل الدراما في اثارة حساسيات النساء اللطيفات اللواتي يضعن اعمالا فنية في صالوناتهن الانيقة من اجل الاشارة في كل لحظة الى تلك الحادثة المؤلمة التي جعلت هذا الفنان يقدم على رسم هذه اللوحة بالذات والتي لها اهمية استثنائية في حياته كما في اسلوب موته المحزن!
وطبعا، مثلما في كل الاحداث المشابهة عبر تاريخ الابداع الانساني جرى تداول اخبار وتحليلات حول الحياة الخاصة للؤي كيالي وجرى «البحش» في اعمق الخصوصيات الحميمة ابتداء من علاقته المضطربة بعائلته وانتهاء بميوله الجنسية التي جرى التعريض به عن طريقها ولا مستند سوى ملاحظات تحليلية تحاول إلقاء الضوء على مسببات شخصية للأزمة النفسية التي عانى منها طويلا والتي لها كما نعرف ابعادا تتعلق باوضاع بلده بعد هزيمة العام 1967 وموقفه من الانظمة السياسية المسببة للهزيمة، وهي عوامل شخصية ووطنية ساهمت في صناعته في بعده الابداعي كما عرفه تاريخ الفن التشكيلي السوري وكما عرفناه.
في العام 1962 وفي معرضه الثاني في صالة الفن الحديث العالمي باع لؤي 37 لوحة بمعدل 350 ليرة سورية للوحة الواحدة وكانت تلك افضل مبيعات لأي معرض فني سوري مثلما كانت القيمة الاعلى لعمل فني سوري... وفي مزاد كريستيز دبي لعام 2013 بيعت لوحة مفترضة للؤي بسعر 367.300 ألف درهم اي ما يعادل اليوم اكثر من 14 مليون ليرة سورية. وهو سعر معقول نظرا لأهمية تجربته الفنية وتاريخه ولكونه فنانا راحلا. ولكن اللغط الذي رافق موضوع اعمال لؤي، خصوصا تلك الأعمال التي تم عرضها في مزادات كريستيز يلقي ظلالا من الشك على مصداقية بعض تلك الاعمال بما فيها تلك المباعة على انها له في المزاد الاخير لكريستيز دبي حيث شكك العديد من خبراء الفن السوري بأصليتها... والحقيقة انه جرت، خصوصا بعد فورة ظاهرة احتكار الفنانين السوريين ونشوء سوق بإمكانات مالية ضخمة قبل نشوء الازمة في سورية بسنوات قليلة، جرت اعمال تزوير واسعة لمعلمي الفن السوري بمن فيهم لؤي كيالي جعلت استشارة خبراء بأصلية اللوحات امرا ضروريا جدا قبل الإقدام على اية عملية عرض او شراء. وقد علمت من مصادر مقربة من مقتنين مهمين للمجموعات الفنية السورية وبعد شرائهم للعديد من الاعمال المزورة ان اتفاق جنتلمان قد عقد بينهم بقصد التستر على اللوحات المزورة نظرا لفداحة الخسائر اذا تم استشارة اختصاصيين على طريقة «دفناه سوا». وهذا إن حدث، فإنه يهدد الفن التشكيلي السوري وسوقه لأمد بعيد... ورغم ان التزوير هو أمر بغيض ومناف للقانون ومدان الا أنه يؤشر من جانب آخر الى تعطش كبير لتلك التجارب الفنية التي تجاوزت بإبداعها الاصيل حجب الزمن واستقرت في قلوب الناس وعواطفهم وعقولهم، واحدى تلك التجارب ومن أهمها في العالم العربي تجربة الفنان الراحل لؤي الكيالي الذي غادر هذا العالم بشكل مدو كما يليق بمبدع.
(رسام سوري)

عصام درويش

لؤي كيالي.. عاشقاً!

ثلاثة وثلاثون عاما مضت على رحيله تزيد بما يُقرّبها من ثلث قرن من عمر الزمان، وذِكر لؤي كيالي لا ينقطع، عن أسلوبه المتميّز في الفنّ التشكيلي، وعمّا تأتى له من أن يجعل «الذين يملكون» يتوجّهون إلى اللوحة كاشانية أو آنية صينية...
لم يُقدّر لـ لؤي كيالي أن يتزوج، مع أنّ الحسناوات، شاباتٍٍ وناضجات، كنّ يتّجهنَ إليه ويلتففنَ حوله في كلّ مكان. ويوم كان يدرس في «بوزار» روما، إذا ما صادفته في الطريق امرأة، تلبس مُسُوح الراهبات أو متزيّنةً متبرّجة، صلّبتْ، يُذكّرها هذا الرجل المارّ أمامها بالمسيح، دون أن تدري أنّ هذه القامة السمهريّة قادمة من موطن بلاد الشام، مهد السيد المسيح!
هل كان انجذابهنّ إليه يبعث الزهد في نفسه؟ ولكن ما بال هذه الشابة تسترعي انتباهه وتستهويه!
لم تكن الفتاة، القادمة من باريس كي تؤدي امتحانها بجامعة دمشق، قد سمعت بالفنان لؤي كيالي (ذلك في ربيع 1963)، وهو الذي علا صيته في بلدها وغدا نجما.
زارت معرضا له مع صويحباتها. قدّموها له: ابنة سفيرنا في باريس! رأت الجميع معجبين به، وخاصة من سمّتهم «الحريم»! تقول في مذكّراتها مبرّرة: «لأنه جذّاب وفنان»! وردًّا على سؤال منه أجابت بأنّ هناك «امرأة واحدة» تراها في لوحاته، «هي أمٌّ أكثر من أن تكون حبيبة أو عشيقة!». فرشقها بنظرة، وابتعد!
وبعد «ضياع» بين المعجبين والمعجبات ـ تقول ـ استوقفها عند الانصراف ليدعوها مع آخرين إلى تناول العشاء في أحد المطاعم الليلية. تقول: «ولاحظت أنه كريم، حسّاس، ضائع، يتحسّس من أي كلمة تقال، ثمّ ينساها ليعود إلى «أبعاده الغريبة والمهذّبة»!».
كان ذلك هو اللقاء الأول بين ابنة السفير «الدكتور علي أسعد خانجي» وبين الفنان التشكيلي المتألق لؤي كيالي. وتعدّدت اللقاءات، يُبدي لها فيها اهتماما يختلف عما يُظهر نحو الأخريات... ذلك كان في أيام امتحاناتها بكلية الحقوق، التي لم ترسب فيها!
بالأنوثة الفيّاضة، والصبا الريّان، والأحاديث عن الفنّ الجميل، والصراحة الأنيقة... أثّر كلّ منهما في الآخر. تغيب عن دمشق، ثمّ تعود. ولكنها، في يوم استثنائي (الأحد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 1966)، يتصل بها ويدعوها لسماع فيروز.
تقول فيها عواطفُ المرأة... تكتب:
«وصلنا إلى مسرح المعرض، وأنا لابسة «تايّور غيبور» أبيض، ورأيت معظم رفيقاتي والغََيرة تُطلّ من أعينهنّ. ولقد بهرني تهذيبُه الرفيع، وبهرتْه - كما تصورت - عفويّتي وصراحتي. طربنا لغناء فيروز التي نحبّها كثيرا، ولكني رأيت لؤي يحبّّ فيروز أكثر مما يحب صوتها، يحب حركاتها، يحب ـ كما قال لي ـ «حزنها العميق النبيل»، يحب شعرها الأسود وغطاء رأسها الأبيض، يحبها كما يحب طفلٌ أمَّه... هذا ما لاحظته ولم أستطع أن أبوح له به.
«خرجنا من المسرح، وأَقلّني بسيارة حتى البيت، وقال لي: «لا تحسبي أني لا أعرف بماذا تفكرين!»، وأشار بيده بحدّة: «لن أقول لك شيئا الآن، ولكن عمّا قريب، في هذين اليومين!»، ومضى».
لا يخفى على دارس لؤي كيالي أمران:
÷ أنه رسم نفسه مرةً شبيهًا بالسيد المسيح، وإنّ الشبه ـ كما بيّنّا ـ ملحوظ على نحو ما تخيّل فنانو عصر النهضة يسوع، الطالعَ في بلادنا المقدسة.
÷ وأنه كثيرا ما تجلّت في لوحاته صورة الأمّ، وما يستتبعها من عطاءات الطفولة: من أطفال يرضعون الثدي، وأولاد مشرّدين يبيعون أوراق اليانصيب على قارعة الطريق أو يمتهنون مسح الأحذية.
في التعليق على الأمر الأول، أنّ ذلك كان من فناننا المبدع حدسًا وإلهاما، وقد انتهت حياته باحتراق الجسد بدلا من الصلب، وفي كلتا الحالتين عذابٌ أليم.
وفي تفسير الثانية أنه حُرم من أمّه طفلا، بالانفصال بين الوالدين ومسارعة الأم إلى الزواج ما جعل العودة مستحيلة، فتجلّى حنين الابن إلى الأمّ في فنّه، وبَعُد في مضماره فشخّص الطفولة تَرضَع و«الولدنة» تتشرّد.
هل أقول في حقّ خَرِيجة الحقوق، «أمل خانجي» (التي تسنّى لها أن تلتحق بالسلك الديبلوماسي)، إنها، وهي في مقرّ وزارة الخارجية بدمشق، قد استطاعت، خلال تداولها الحديث مع لؤي كيالي عن هذين المعنيين، أن تَنْشدّ إلى الفنان الشاب وأن تشدّه إليها، فتَلوي عُزوفه عن الزواج، ويشرعا في تبادل الحبّ النقيّ الجميل؟
أقول: كنت قد التحقت بوظيفتي الرسمية بدمشق (منتقلاًً من مدينتي حلب، التي هي مدينة لؤي) في شهر شباط/ فبراير 1966، ونزلت في بيته، بيت نسيبي عمّي «حسين إسحاق الكيالي، أبو لؤي». بدأت ألحظ في تصرفات لؤي ما ينِمّ... ولكني، بعد أن سكنت في صيف ذلك العام وبالمصادفة في بيت قريب جدا من بيته في «حي العفيف»، بدأت تلوح لي عوارضُ متزامنة مع ازدهار عواطف الحبّ بينه وبين الديبلوماسية الشابة «أمل خانجي».
في مذكّراتها، التي قدّمت إليّ نسختها الخطيّة الفريدة (بعد عشرين عاما، وعلى وجه التحديد في 1986)، روت أمل حكاية هذا الحبّ يومًا بيوم، بدقة أنثى محبّة وبشاعريةٍ رفيعة المستوى (وهي تكتب الشعر المنثور، وأصدرت في ذلك قبل سنوات ديوانا)... كشفت في هذه الأوراق عن تفاصيل مرهفة لما كان بينها وبين لؤي من لقاءات، في بيت أسرتها (غربيَّ المالكي) وفي المنتديات الليلية.
لقد تبيّن للفتاة، مثلما اكتشف والداها، غرابةُ في التصرفات. من ذلك أنه جاءها يوما يقول: «هناك أمر ربما لا تعرفينه عني، إني إنسان «متقلِّب»، وأخشى أَلاّ أُسعدك!... (وأيضا): أنت امرأة غيور، وأنا متقلّب.. لذا علينا أن نتزوج غدًا، بشكل سريع، نذهب «خْطِيفة»!».
في البدء ـ تقول أمل ـ «ظننتُه يمزح، ولكنه أخذ يتكلم بحدّة: «أريد منك أن تفعلي هذا من أجلي»، قلت: «لماذا خْطيفة إذا كان والدي لا يمانع؟»، قال: «كي أرى إلى أي مدى أنت مستعدّة للتضحية!»... ورجعتُ إلى البيت أبكي!».
ودعوني أذكر هنا، ما كنت أوردته في محاضرتي «لؤي كيالي ـ المأساة» («النادي العربي بدمشق»، مساء 24-4-1979)، من أني تلقيت، فجر يوم من تلك الأيام العصيبة، مكالمة هاتفية من عمّي، يلتمس مني أن آتي إليهم فورا فإنّ ابنه يريد لقائي. وهناك رأيته متكوّمًا في سرير، في غرفة داخلية (غير مرسمه الرحيب المطلّ على رصيف الشارع، الذي اعتاد المبيت فيه)، قال وكأنه يُفضي إليّ بسرّ: «إنهم يريدون أن يقتلوني!»... فأدركت أنّ الصَّدْع قد حزّ حتى الأعماق!
تحت وطأة هذه الخواطر والأحاسيس أنجز لؤي لوحات لمعرض موعود، رسمها بالفحم، وعلى ورق، كبيرة، تمثّل مشاهد قتل واحتراب، وسمّى المعرض «في سبيل القضية»، افتُتح في المركز الثقافي بأبو رمانة يوم الرابع والعشرين من نيسان/ ابريل 1967 (قبل نكسة حزيران، وليس صحيحا ما أشيع من أنّ النكسة هي التي صَدَعته). فانتهزها الشانئون المغرضون فرصة وشنّوا على فنّه الجديد حملة ندّدوا فيها بالمعرض.
بعد ذلك اليوم دخلتُ مرسمه على حين غرّة، فرأيته يمزّق لوحات معرضه «في سبيل القضية» ومجموعة لوحات «الإنسان في الساح»! اعترضت، هجمت، أمسكت يديه... وهو يتابع التمزيق (وليس الحرق، كما أشاعوا!)... ومنحني بعد إلحاح لوحة، غير ممهورة بتوقيعه، هي إحدى مسوّدات «الإنسان في الساح» المنفّذة بالحبر الصيني!
ثم توالت الحوادث والأحداُث. صحبناه في مرتين إلى «مستشفى رأس بيروت» للمعالجة بعناية الدكتور المتخصص علاء الدين الدروبي (صديق العم طه إسحاق الكيالي بحلب)، فكان يتماثل ثم ينتكس: إنها آنية الكريستال المصدوعة! وعولج بعد اليأس في حلب. استأنف الرسم، وتوقف، ثمّ عاود، وأبدع إبداعا عاليا... إلى أن توقف فيه نبضُ الفنّ ونبض الحياة معا، محترقا في فراشه، منتقلا إلى جوار ربّه ضحى الثلاثاء السادس والعشرين من شهر كانون الأول/ ديسمبر 1978، في مستشفى حرستا العسكري القريب من دمشق... (وإنّ عندي ما يستحقّ الكتابة والقراءة في ظروف احتراقه، مختلفًا عن كلّ ما هو شائع).
وأما الحبيبة المفجوعة، فقد اختتمت مذكراتها... تقول في يوم 13 حزيران/ يونيو 1967:
«ذهبت أنا وأمي إلى بيته لزيارة شقيقته المريضة، ولكن في الحقيقة كان هو المريض.
«لأول مرة أراه، وهو شاحب الوجه، مرهقًا، وكان مهذّبًا كعادته، باردَ التهذيب، صامتًا لا يتكلم، حتى كأنه غير موجود! (.....) وعندما أوشكنا أن نذهب، طلب من أخته أن تُقدِّم لنا «عصير البرتقال».
«وساعة الوداع قال لي: «أنت، يا أمل، لست كباقي النساء، أنت فوق البشر!».
«لدى سماعي هذا الكلام أحسست أني أُودِّعه، أتركه لعالمه.. إنه ليس هنا.. حتى جسده بدأ يتبدّد، نَحُلَ، فكأنّ جسده ليس ملكه.. وكأنّ صوته لم يعد له.. أو كأنّ هذا الرجل نزل بالغلط إلى هذا العالم.. هو منّا وليس منّا.. له التهذيب، والكرم، والحساسيّة، والشفافيّة...».
ثمّ تقول: «ومرّت الأيام..... رأيته في حلب جالسًا في مقهى صغير، مررت من أمامه، لم يرني، لم يكن يرى أحدا. خرج من المقهى، نظر إليّ طويلاً، ثم مضى».
وتقول أخيرا: «أحببتُ لؤي كيالي كإنسان، ولم أحبّه كرجل.. لا أدري لماذا؟ ليس لأنه ليس رجلاً، فكلّه رجولة وكرم ونبل.. ولكن لأنّ صفة الإنسانية تُعمينا عن رؤية شيء آخر فيه غير إنسانيته..
«أحببتُه كإنسان، ربما لأنّ الحبّ هو أيضا جسد.. ومع لؤي كلّ شيء يصبح روحًا، روحًا خالصة.. شيئًا غير ملموس، متناثرًا، صعبَ المنال، غريبَ الأبعاد!
«لؤي أيضا أحبّني كإنسانة أكثر ممّا أحبّني كأُنثى.. لذا لم نستطع أن نتزوج!
«كان بيننا شيءٌ مشترك، شفافيّةٌ وروحانيّة قتلتا الشهوانيّة المستحكِمة في الإنسان.. كان يشدّني إلى أفكاره وليس إلى ذراعيه.. كانت عيوننا هي التي تتلاقى وليست أيدينا! لذلك لم أحس غيرةً عليه وأنا الغَيور.. كان يُشعرني وأنا معه بأنْ ليس في الدنيا امرأةٌ غيري.
«أُعجبت به كما لم أُعجب بأحد.. أُعجبت بفنّه وألوانه.. أحببت الصمت في ألوانه، أُصغي إلى همسها في اللوحة، وأفهم لغتها.
«لم يستطع لؤي أن يرسمني أبدًا.. حاول.. قال لي: «من الصعب وضعُك في لوحة.. أنت تخرجين منها.. من الصعب حصرك في لوحة!».
وتختتم: «في بعادك، يا لؤي، زدتَ لؤلؤةً في بحر أحزاني. أذكرك دائمًا، وأبكي عليك».

فاضل السباعي

جمالية الحزن وكلام الأيدي

إن أبرز ما فرض حضوره علي وأنا استرجع سيرة الفنان التشكيلي السوري لؤي كيالي هو تلك العلاقة الملتبسة بين جسده والنار! النار الداخلية التي شكلت «الدينامو» الإبداعي لديه، والنار الخارجية التي وضعت حداً لوجوده المادي، ورسمت وحددت معالم تلك السيرة في الحياة والممات!! والتي تغص باللامكتمل فيها، فبين التشظي الانفجاري لفعل النار وبين التعفن والاندثار التدريجي لفعل الدفن تتجلى لحظة الفعل/ التفاعل مع لعبة النار واستقراء فضائها الدلالي ويتأكد معها حضور هذه اللعبة في ذواتنا القلقة والمثخنة بالتساؤل.

فراشة النار

تتجلى النار كمفهوم مع حضور دلالي بارز ومتباين بنفس الوقت لفعلي التطهر والعقاب، ترابطاً مع مفهومي المقدس والمدنس، بحيث ترتبط بالأول عضوياً وتستحضر الثاني كنقيض.
حرق الجسد، ترميده، إزالته من الوجود... نوع من التسامي نحو الأعلى، نحو السماء: النار، الاحمرار، الدماء، العذاب، اللهب، الدخان، الرماد، صعود نحو الأعلى، تحليق وطيران، حركة وحيوية.
كل ذلك نقيض للدفن في الأرض: التراب، التحلل والتفسخ، الدود، والعفن الداخلي للأرض.. هبوط نحو الأسفل، الدفن /القبر/، السكون، والسكينة.
كثير من المبدعين قضواً احتراقاً بالنار أستحضر منهم الفنان الفلسطيني مصطفى الحلاج، الذي مات محترقاً في مرسمه مع لوحاته!! وليس آخرهم مبدع وملهم الربيع العربي محمد البوعزيزي، الذي أنهى حياته منتحراً، محتجاً، يائساً، متوهجاً كرمز
ينطوي فعل الاحتراق على رمزية واضحة يتماهى فيها الألم والأمل، العذاب الارادة والاحتجاج، التطهر والتوهج والنور، ولهذا بالرغم من تشابه النتيجة بين الموت حرقاً والموت شنقاً، الا ان الدلالات الرمزية والطقسية مختلفة بين الميتتين، ولهذا ربما كان إعدام العسكريين رمياً بالرصاص، أي باطلاق النار عليهم وليس بأي طريقة أخرى.
اختلفت الآراء حول ظروف موت لؤي كيالي وأسبابه، حيث ذهب البعض بحماسة إلى كونها عملية انتحار، الأمر الذي لقي تجاوباً، بل استحساناً وحماسة لدى الكثيرين، فهي تنطوي على الإثارة المنتظرة من فنان غير اعتيادي، وتؤمن الدعاية اللازمة للمزيد من الفاعلية النقدية، والاعلامية، وحتى التسويقية!! وجمالية أخرى تضاف للجماليات التشكيلية في تجربته.
في حين ذهب البعض بجرأة إلى أن موته كان مجرد حادثة عرضية، مستندين إلى تقارير طبية وشهادات.
وبغض النظر عن كلتا النظريتين لكن يبقى المؤكد أن ذلك الجسد قد قضى بفعل النار!! ولا ينتقص بشيء من القيمة الكبيرة لهذا الفنان وللاضافة البارزة التي قدمها لتجربة التشكيل السوري المعاصر.
لكن بالرغم من كل ذلك أعتقد أنه من الإجحاف ألا يتبقى من سيرة شخص ما إلا حدث واحد ومحدود، يُختزل ويُقيد فيه، ففان غوغ : الذي قطع أذنه، وسلفادور دالي: المجنون، ولؤي كيالي الذي انتحر حرقاً......
ولهذا ربما سيبدو حديثي عن علاقته بالنار نوعاً من التناقض مع ما أوردته الآن!! ولكن ما يبرر ذلك التوجه كونه ينطلق ضرورة ومشروعية تتمحور حول علاقة المبدع بالنار (المجاز والرمز) من جهة أولى، والنار (المادة والكيمياء)، الحدث، من جهة ثانية، ويقوم على محاولة لتحليل تلك العلاقة في سياق دلالي، يتسم بالربط بين مناحي الإبداع عموماً في علاقتها مع النار.
فالإبداع توهج، حرارة، لهب، احمرار، قبس، شعاع، ضوء، ونور، يتطهر بها المبدع خلال تجربته الإبداعية ويتجلى بها وتتجلى به، وفي بعدها الرمزي كتفاني، وتضحية، عذاب، ألم، توجع، ، تشوه، وشم على الجسد، وأخيراً فناء ورماد.
وكأن قدر الإنسان أن يعيش بحاجة دائمة للنار، للاحتراق، للتطهر، ولكل أسبابه وناره.
ضمن هاتين النارين ومثل كثير من المبدعين الحقيقيين عاش لؤي كيالي حياته يمارس فعل الاحتراق اليومي إلى آخر نفس عام 1978 راجعاَ كالفراشة إلى ناره محترقاً متوهجاً وخالداً.
لا شك في أن النهاية المفجعة لحياة الفنان لؤي كيالي رسمت له معالم بارزة في ذاكرة الفن التشكيلي السوري، وكذلك عند الفنانين التشكيلين والذي استطاع أن يشكل لهم حالة من الإلهام سواء على المستوى التشكيلي أو على المستوى الانساني والشخصي.

الوحدة والعزلة

تقوم لوحات الكيالي على جمالية الحزن، والسمة الأساسية فيها هي تلك المسحة الرومانسية من الحزن الغامض والهادئ الذي يسري في عروقها، خطاً ولوناً، مساحةً وتعبيراً، مسحةً تغرينا باستحضار شخوص (موديلياني) في سكونها المثير للحيرة: تألماً وتأملاً.
من الواضح أن الخط يشكل الحضور الأبرز في تلك التقنية، والأكثر فاعلية وتأثير على المستوى التعبيري، فجسده يتدلى من أعماق ذات الكيالي المرهفة بحزن دفين وقديم، يتلوى في ثناياها راسماً على مسامات لوحاته معالم ذلك الحزن، وذلك الانعزال والوحدة، الأمر الذي ينسحب حتى على اللوحات التي تضم أكثر من شخص، فهي تتسم بالوحدة والعزلة، فالحزن لا يتجلى إلا بالوحدة والانعزال والانزواء والتقوقع والسكون، على عكس الفرح الذي يتطلب الجموع والمشاركة، ولهذا يتجلى حركة وحيوية وانفتاح.
ولهذا كان الفرق واضحاً في دلالاته بين الرقص الفردي والجماعي، فالأول تأملي إيحائي يتم في أجواء من الوحدة والتفرد، في حين يتطلب الثاني الجموع والمشاركة، فيتجلى فرحاً وحيوية.
إن الخط الذي يغرسه كيالي عميقاً في لوحاته، يحفره حفراً على سطح الخشب والقماش، ولا يرسمه رسماً، يحاول من خلاله بث ذلك الحزن المحير في نفوسنا، والذي يغريه بالتسلل فيها، هادئاً رقيقاً وعذباً.
كل ذلك بنعومة وليونة، خط موحي ومعبر، خط مشحون بايقاع من الانسياب الحزين والدافىء، بعيداً عن القسوة والاستفزاز والانفعال الصاخب، ودون إثارة أو تحريض.
في نفس الوقت يتسرب ذلك الخط في المساحات اللونية الهادئة والحالمة، ويتماهى معها بحزن، بدون بكاءٍ أو نحيب.
كذلك فإن اختيار المواضيع عند لؤي يندرج ضمن نفس الفلسفة والتوجه، شخوص هامشية حالمة طوال الوقت، تعيش أحلام اليقظة، تتأمل في اللاشيء، دون إفصاح وبدون انفعال حاد...
(بائع الياناصيب، بائع الذرة، بائع العلكة، بائع المسبحة، ماسح الاحذية، مرمم الشباك، الغسالة، الأم وطفلها، قاطفو القطن، ...) هؤلاء المهمشون بائعو الحزن تحولوا في لوحات لؤي الى ايقونات للحزن، دخلت كثير من القلوب وعلقت في ذاكرة الفن السوري المعاصر.
صمت يخيم عليها، سكينة لأرواح هانئة وقلقة بنفس الوقت، مكتفية بحزن دفين، مغلفة بأجواء من الرومانسية الموحية.
شخوص تحاور دهشتك، تساؤل فيك ما غاب في أعماقك وتاه، تغوص في متاهات حزنك وتفضح صمتك، تنتزع حيرتك، تعلمك طقوس الصمت في حضرة الحزن، تسحبك إلى تفاصيل التوجع، دون إكراه، ترحل معها إلى عوالم غريبة جداً! لكنها مألوفة بذات الوقت!!
من ناحية أخرى من اللافت أن يركز لؤي ويكثف كل ذلك الحزن في رسم الأيدي، والتي أصبحت «عيون» الجسد لديه، دون أن ينتقص ذلك من وميض الحزن الواضح والمتسرب من العيون.
إن كل ذلك الاشتغال في اللوحة على مستوى الخط واللون والمساحة ما هو إلا المعادل التشكيلي لمعاناة الناس البسطاء، وتعبيراً عن آلام وآحلام تلك الشخوص المهمشة، والمهشمة بجمال، المعزولة والمنعزلة وسط الجموع، والتي عرف لؤي كيف يلتقط جمال أرواحها العذبة والطيبة، بلغة تعبيرية بسيطة، تتسم بالبلاغة والتأثير، استطاع من خلالها التقاط الحالة الإنسانية المعاشة في أبعادها الكلية، وذلك على مستوى الأدوات التعبيرية وعلى مستوى اختيار الموضوعات، تأتي خياراته في غاية البساطة لكنها بنفس الوقت موضوعات تضج بالأسى والحزن، ولهذا جاءت كارهاصات لأناس قلقين دون احتجاج، أو صراخ، يسكنهم الصمت ويتأملون بايحاء مرير، تسكنهم الحيرة، ونبض البؤس اليومي، وكأن إصراره على تصوير الشخوص مسكونة بالطيبة والدفء الإنساني كردة فعل واحتجاجاً على الشر الموجود عند البعض الذين شاركوا في آلامه وحزنه وشقائه.
وما كل ذلك إلا جزء مما فاض من لؤي كيالي من معاناته الشخصية والحياتية، سكبهاعلى مساماته لوحاته، ونثرها في فضاءاتها التشكيلية خطاً ولوناً، حزناً ومرارة!!
يقول لؤي كيالي للناقد (صلاح الدين محمد) في لقاء اجراه معه رداً على سؤال عن أزمته ومعاناته : « أما ما هي المعاناة التي سببتها لي الأيام العصيبة تلك من حياتي كفنان فلك أن تنظر وأن تدقق وأن تلاحق لوحاتي ومدى قربها أو بعدها من الآخرين»

حبيب الراعي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...