غسان الرفاعي: المطلوب منا للتناغم مع القرن الواحد والعشرين

12-09-2011

غسان الرفاعي: المطلوب منا للتناغم مع القرن الواحد والعشرين

-1- ما سمعته في ندوة حول (مشارف القرن الواحد والعشرين) عقدت في جامعة السوربون، في نهاية الأسبوع الماضي، أقنعني بأن جيلنا مهدد بأن يتحول إلى (شبه ديناصورات) لا بد من أن تنقرض،.

في زمن قصير، اكتفيت بالاستماع المهذب والخجول، ولم أشارك في النقاش الساخن الذي جرى بين (الاختصاصيين) وتعمق لدي الشعور بأن لا علاقة لي بكل الإشكالات التي طرحت ونوقشت وأثارت الدهشة والتأمل، قلت في ذات نفسي (أنا أنتمي إلى جيل عاش انتصارات موهومة، وإخفاقات جارحة، ومازال يتشبث بمجموعة من الأفكار التي خيل إلينا أنها مفاتيح الحداثة، وقد آن الأوان للانسحاب من الميدان بهدوء وصمت، قبل أن نجد أنفسنا على قارعة الطريق). ‏

-2- ‏
تعصف بالمجتمع المعاصر –في زعم المشاركين في الندوة- صدمات الكترونية تفقده توازنه وتسلمه إلى أمواج من الاضطرابات والتفجرات والانقلابات السياسية والاجتماعية والثقافية، قد يتعذر بعدها الرجوع إلى الهدوء والسلام في فترة وجيزة، ولئن كانت الإنسانية قد عاشت ثورتين كونيتين بدلتا المعالم، وقلبتا كل شيء رأساً على عقب، هما الثورة الزراعية، والثورة الصناعية، فإن الثورة المعلوماتية التي نحياها اليوم هي الأخطر والأفجع، إن أسياد العالم الجدد لن يكونوا الطغاة، ولا العسكر، ولا أباطرة المال والمافيا، وإنما (العقول الالكترونية البشعة) ستقوم أوتسترادات الإعلام بهدم كل شيء يقف في طريقها: الحدود، القوميات، الهويات، الثقافات، ولن تكترث بما تسببه خلفها من مآس وكوارث اجتماعية أو فردية، ولن يفيد في شيء مقاومتها، أو محاولة التصدي لها.. ‏

وأولى الصدمات تهشيم النموذج الأمثل للحداثة: المصنع، يقول أحد المشاركين في الندوة، وهو من تلامذة (توفلر) مؤلف كتاب: (خلق الحضارة الحديثة) الذي مازال يثير الكثير من الضجة (إذا كانت القصة الحديثة قد خرجت من معطف غوغول، فإن الليبرالية والاشتراكية قد خرجتا من معطف المصنع) إنه يجسد المركزية والبيروقراطية شاقولياً والجمهرة العمالية أفقياً، وهما آفتا المجتمع الصناعي، وإذن لا بد من تفتيت المركزية البيروقراطية، إذ تتخذ القرارات الكبيرة اليوم، في المنازل والمكاتب، بل وفي السيارات والطائرات، ثم إن العامل المطلوب اليوم هو ليس البروليتاري المنظم والنقابي الثوري، وإنما العامل المجدد الذي يأخذ مبادرات ويفخر بفرادته). ‏

وثاني الصدمات تهشيم العامود الفقري للديمقراطية أي تفوق الأكثرية، وآية ذلك أن الاعتماد على الأكثرية في الانتخابات الليبرالية أو الجماهير العريضة في الأنظمة الاشتراكية، هو الذي ولد الشمولية والديكتاتوريات الحزبية أو العسكرية، وللتخلص من هذا المأزق، لا بد من شرذمة المجتمع، والتحرر من وهم الوحدة الوطنية، وبالتالي لا بد من إفساح المجالات أمام الأقليات الناشطة، فهي وحدها القادرة على حماية الحرية، وبكلمة أخرى، إن ما يسمى (بالبلقنة) ضرورة لإشاعة الديمقراطية الحق، يقول (رينو دولابوم)، وهو أحد مؤلفي كتاب (سادة العالم الجدد): يزعم بعض المتحذلقين أن بلقنة المجتمع تؤدي إلى الصراعات، ولكن قد يكون العكس هو الصحيح، إذا كان مئة شخص يريدون الحصول على الشيء ذاته، فلا مهرب من القتال والتنافس، ولكن إذا كان لكل شخص هدف مختلف، فقد ينشأ التعاون فيما بينهم، فإلى المزيد من التفكك والبلقنة، ولتتكاثر الأقليات من كل الأنواع، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، اثنية، دينية. ‏

وثالث الصدمات تهشيم وهم التمثيل الشعبي، في أشكاله المختلفة الرجعية، والتقدمية، من أحزاب ونقابات وتنظيمات مهنية ومجالس نيابية ولجان شعبية، والاستعاضة عنها كلها بالاستشارة المباشرة عن طريق الحاسوب أو الليف البصري الذي تفرزه التقنيات المعلوماتية الحديثة، يقول (جان برتولوس): (أكبر خطر يهدد الديمقراطية الحق هي التنظيمات الكاريكاتورية التي تدعي التمثيل الشعبي، وأعتى الطغاة المفسودين هم القائمون والمشرفون على هذه التنظيمات، من رؤساء نقابات وأمناء عامين للأحزاب، ونواب ملتزمين)، والحقيقة أنه لم تعد هناك حاجة لطبقة عازلة تقوم بين الفرد وقيادة الهرم الحاكم، إذ بمقدور كل إنسان أن يبدي رأيه مباشرة، وهو وراء حاسوب في منزله، ولنصرف من الخدمة كل هذا الجيش الهرم المترهل من ممثلي الشعب الذين لا يتقنون إلا صنعة واحدة هي الإثراء غير المشروع، وتكريس الامتيازات والاحتيال على القوانين التي يصدرونها. ‏

ورابع الصدمات تهشيم هرمية القرارات ونقلها إلى أفراد القواعد إذ لم يعد محتملاً أن يحتكر فرد أو مجموعة من الأفراد في رأس الهرم السياسي اتخاذ القرارات المصيرية، في سرية تامة، وبمعزل عن مشاركة الآخرين، وقد يتطلب الأمر تجزئة القرارات، وتكليف (الميدانيين) باتخاذها، لأنهم أقدر من رؤوس الهرم على الإحاطة بضرورتها وجدواها، ولماذا التخوف من تنوع القرارات، وتناقضها، وتعديلها باستمرار؟ ويكفي هذا التسابق المحموم على التسلق والمراوغة، والمناخات العدوانية التي تلتهم النشاطات المنتجة، والتنافس الدموي على المناصب والأسلاب والمراكز، والوشايات الكاذبة التي يسقط فيها الكل ضحية الكل، وطاحونة التملق التي تطحن بدون توقف. ‏

-3- ‏
ووقر في ذهني، بعد الخروج من الندوة، أننا ندخل القرن الواحد والعشرين ونحن لا نملك من الجاهزية الحضارية إلا حقيبة سفر عتيقة محشوة، بما نعتقد أنه ضروري: أرغفة من الخبز التنوري، وقطع من الجبن العكاوي، وبيض مسلوق، وخيار بلدي، وتحت ابطنا، حجاب واق، كتبه لنا أحد أولياء الله الصالحين يحمينا من عين الحسود، وأوجاع الظهر والمفاصل، وخلفنا وطن تحول إلى بلديات صغيرة، ودول مهابة انقلبت إلى سجون محاصرة، وممالك تفتت إلى دكاكين، وحدود مزيفة انزرعت بين المدن والقرى، وثروات فوق الأرض وتحتها مرتهنة في المصارف الأجنبية لمئات السنين القادمة، ومواطنون يرتعدون من رؤية ظلالهم على الجدران، وسلام مخاتل يتصيدنا، وينصب لنا الأفخاخ!. ‏

-4- ‏
وأتساءل هل تحولنا فعلاً إلى ديناصورات أم إن النظام العالمي الجديد قد نجح في إدخالنا إلى (جوراسي بارك) وأخذ يشحد علينا الصدقات؟.

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...