غسان الرفاعي: المطلوب الآن هو «الفكر الفاتر»

31-10-2011

غسان الرفاعي: المطلوب الآن هو «الفكر الفاتر»

-1-مريب هو هذا الحراك الثقافي الجديد الذي تتخبط فيه الأجيال الصاعدة، والداعي إلى التخلي عن الالتزام وتبني «الفكر الفاتر» الذي لا يدعي امتلاك الحقيقة، ويسخر من الذين يناضلون في سبيلها، كان مثقف الخمسينيات والستينيات يفاخر بانتمائه إلى عقيدة راسخة، أو قضية مقدسة، ولكن «المثقف الفاتر» يتحاشى الانحياز، ويفضل أن يتعامل مع الأفكار «برخاوة»، ولن ينزل إلى الشارع، كما كان يفعل المثقفون الملتزمون، للمشاركة في المسيرات والاعتصامات، مكتفياً بالمشاهدة عن بعد، و«النقار» مع من يخالفه الرأي «بلباقة ثلجية».

يقول أحد كهنة «الفكر الفاتر»، روجيه فيدال في مقدمة كتابه المثير «الارتزاق» الخيار المطروح الآن هو المفاضلة بين ثقافة الموز الذي لا يؤكل إلا طازجاً وإلا فسد، وثقافة النبيذ الذي تزداد قيمته كلما تعتق في الأقبية، لقد اخترنا التزحلق على قشر الموز، لا الغرق في برك النبيذ ولهذا الفكر «الفاتر» طروحات لا تخلو من امتاع ومؤانسة: امتداح اللا انتماء، والدفاع عن الإنسان الطيب، الأعزل، والتغني بالصداقة على حساب الالتزام العقائدي، بعد مصرع مفهومي الأخوة في الإيمان، والرفاقية في النضال، والتخلص من مشاعر الحقد التي تغلي في الداخل لأسباب شتى وأخيراً تفضيل ثقافة الموز على ثقافة النبيذ. ‏

-2- ‏
راج «اللا انتماء» في سبعينيات القرن الماضي، بعد أن طرحه (كولن ويلسون)، فكان صرخة ضد مراكز الإلحاق السياسي والاجتماعي والثقافي، ودعوة إلى الانعتاق والتحرر حتى من الحرية ذاتها، ولكن اللا انتماء عرض الانسان إلى الصقيع والاكتهال المبكر والوحدة، وكان ‏

لا بد من مدفأة عاطفية، للتخلص من الدوار، وهكذا عاد الإنسان يفتش عن «قطيع» يندس بين صفوفه، بعد أن استرخصه اقتصاد السوق وعهرته البورصة المالية، ولكنه اكتشف أن الدفء الحقيقي لم يعد في الـ «نحن»، وإنما في «الأنت». ‏

وكما قال مؤلف اللامنتمي: «أن السبب الرئيس في التذمر هو الشعور بالاضطهاد لا الشعور بالاستغلال المستغل يتضايق من وضع اقتصادي سيئ، ولكن المضطهد يسحق في انسانيته، ولا يجوز أن نقايض الاستغلال بالاضطهاد..». ‏

-3- ‏
يشهد عصرنا مصرع رابطتين كانتا توفران للإنسان الأمان والسلامة والدفء، رابطة «الأخوة في الإيمان»، ورابطة «الرفاقية في النضال» بعد أن طفت على السطح الانتماءات المزورة القائمة على المصلحة و«التراص القطيعي»، لقد حوصر الأخوة في الإيمان وتم اصطيادهم كالغزلان البرية، وإذا لم يعد أمامهم إلا خيار الشهادة، فضلوا الاعتصام في قلاع الإيمان الفردي، وسقطت الرفاهية النزيهة، وحل محلها «الانتهاز الماكر» وإذ لم يعد أمام الرفاق إلا خيار المنافسة على الأسلاب والمراكز، ولو عن طريق التصفيات الجسدية، فضلوا هم أيضاً الاعتصام في قلاع «الزهد الثوري»، ويبدو أن الرد الوحيد على تفشي «الصقيع الاجتماعي» هو الرجوع إلى رابطة الصداقة البدائية، بكل عفويتها وسذاجتها ونزاهتها. ‏

والمفارقة أن الصداقة التي رفضت، في القرن الماضي، بدايات هذا القرن، على أساس أنها «عاطفة مترفة» أرستقراطية، لا ضرورة لها، تعود اليوم بزخم مدهش على أساس أنها «كل ماتبقى لنا بعد أن انهار كل شيء». ‏

-4- ‏
أصدر الروائي المغربي (طاهر بن جلون) في نهاية العام المنصرم، كتيباً في مئة صفحة سماه «اللحمة الوردية» بالفرنسية، لعله من أجمل الأناشيد في امتداح الصداقة استهواني هذا المقطع الشاعري: «الصداقة هي ديانة من دون إله ولا شيطان، ولا يوم حساب، انها حب بلا توترات، ولا كراهية، ولا غيرة، ولا انتقام، انها الصمت النبيل، الطهارة التي لا يتسرب إليها الاتساخ، انها العطاء لا التملك، الوفاء بلا مقابل وقد لاقى الكتيب رواجاً في الشرق والغرب: في الشرق، لأن الإنسان العربي، بعد المجازر العقائدية، والطائفية، والطبقية، أصبح بأمس الحاجة إلى ظلال الصداقة الوارفة، إلى واحات الود الرطبة، إلى الحوار العطوف النزيه وفي الغرب، لأن الإنسان الأوروبي، بعد مأسي اقتصاد السوق، وتصاعد الشوفينية والعرقية والعطالة والوحدة، أصبح بأمس الحاجة إلى القلب الصافي من الأدران الحاقدة، إلى اليد الممدودة بحرارة، إلى النظرة الحانية المتعاطفة. ‏

أما الإنسان العربي، الذي يقف مقشراً في العراء، بلا كسوة سلطوية، ولا عباءة جماهيرية، فإنه يتوق إلى الصداقة البريئة، فهي وحدها القادرة على ضخ شيء من الدفء في شرايينه ونسجه وأليافه، لم يعد يتحمل ارهاب الأخوة و«انتهاز» الرفاق. الأولون قد يغتالونه في وضح النهار، والآخرون قد يجعلون منه ممسحة يغسلون بها خطاياهم وأوزارهم، لقد تعب، وهو بحاجة إلى صدر يرتمي عليه، وقلب يغوص داخله، وفضاء نظيف يتنفس فيه. ‏

-5- ‏
يمتاز الانسان الطيب بثلاث صفات رئيسية: ‏

أولها، إنه انسان أعزل، لا يحميه تكتل سياسي أو اجتماعي أو مهني، وهو لهذا السبب مستباح الحدود دوماً، وثانيها إنه انسان مسالم لا يقود معارك وإنما يتلقى الصدمات واللكمات باستمرار وهو لهذا مهزوم دوماً، وثالثها إنه إنسان نبيل يلتزم ممارسات نظيفة مشروعة، وهو لهذا مضطهد باستمرار، ونقيض الانسان الطيب هو ليس الانسان الشرير، وإنما هو الإنسان الانتهازي الذي يمتاز هو الآخر بثلاث صفات، أولها أنه إنسان منتم، وهو لهذا محمي، وثانيها أنه طموح، وهو لهذا عدواني، وثالثها أنه وصولي وهو لهذا رابح دوماً. ‏

-6- ‏
أنا حاقد! مجاهرة غير مألوفة، نسمعها في كل مكان، وترتسم على كل الوجوه، قد لا نفهمها، لا نستسيغها، ولكنها مرمية، كالقنبلة اليدوية، بين الناس، إنها شر مختبئ خلف العيون، رغبة غاضبة في الانتقام، تنفر من كل القسمات، استعداد دائم للبطش، محشو في قبضات الأيدي، شعور مضغوط بالإهانة والغثاثة، واللا جدوى، طاقة سلبية مدمرة «أنا حاقد!» حرب أهلية متجولة تنتقل من مدينة إلى مدينة، ومن شارع إلى شارع، ومن غرفة إلى غرفة، نار ثلجية تتغلغل في النسج والألياف، وتستقر في العظام، مزيج من الكبرياء والضعة، مبالغة في التكريم والتجريح نوسان بين التقرب والنبذ، انتقال من الشفقة إلى الازدراء، كرّ وفرّ من البخل إلى الاتلاف والهدر «أنا حاقد» هجوم على الآخرين، أعمق من المحبة والانصياع والقبول والخضوع، خروج عن العزلة المختارة، والغيتو، والعزل، تحد فعال في المطلق، ونفي للطبقة السياسة والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، اعتراف بأنه «إذا كان علينا أن نحمي أنفسنا من شيء، فقد يتوجب علينا أن نحمي أنفسنا من أنفسنا، وأنه إذا كان هناك مخربون وناهبون في كل مكان، فعلينا أن ننهب أنفسنا، وأن نتلف قوانا. ‏

-7- ‏
المفارقة أننا محاطون «بالعارفين» بالخاتمين الذين يعلمون ما لا نعلم والمدركين «لبواطن الأمور» وهؤلاء يضعون رؤوسنا تحت المقصلة، ويأمروننا بأن نتخذ أحد خيارين: إما أن نقبل حقائقهم، وإما أن نعمد بأننا جهلة أو مخربون، أو على الأقل «مواطنون غير صالحين» ينبغي بترهم، حتى تحقيق الازدهار الشامل. ‏

هل ستنتقل عدوى «الفكر الفاتر» إلى مثقفينا، عنوة أو بملء إرادتهم، بعد أن رصّهم «الفكر الساخن» في خنادق متخاصمة، وحولهم إلى قبائل متنابذة؟ يزعم أحد كهنة هذا الحراك أن الديمقراطية لا يمكن أن تزدهر إلا بتكاثر منابر «الفكر الفاتر» وذيوع «الرخاوة» في المجابهات، خصوصاً بعد أن سقط الكثير من الشهداء، دفاعاً عن السخونة والانتماء؟ والإجابة عن هذا التساؤل لا تخلو من تعسف، ولكن لا مناص من الإجابة ولو بالصمت. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...