علاء الأسواني: الحقائق القديمة تصنع المستقبل

31-12-2013

علاء الأسواني: الحقائق القديمة تصنع المستقبل

كان مصطفى المغني قد تجاوز الأربعين وإن كان يتمسك بمظهر الشباب. كان يتردد علينا أنا وأصدقائي في أحد مقاهي وسط القاهرة، يحمل عوداً لا يفارقه أبداً، وما إن يسأله أحد عنه حتى يخبره بأنه موظف في وزارة التموين، لكنه في الوقت ذاته مطرب أشاد بنبوغه كبار الملحنين في مصر، وأن المطربين المشهورين يخافون من موهبته ويتآمرون باستمرار للقضاء عليها. عشرات الوقائع يحكيها مصطفى ليثبت لنا أنه ضحية لمؤامرات المطربين الحاقدين على نبوغه الفني. الغريب أننا حين استمعنا الى غناء مصطفى وجدنا صوته عاديا جدا بل انه كثيرا ما يتحشرج أثناء الغناء وينقطع نفسه من أثر إسرافه في التدخين. تحمس أحد الاصدقاء واستعمل علاقاته وحصل لمصطفى المغني على فرصة عمره. اتفق على أن يقدم مصطفى فقرة غنائية في حفل تنقله الاذاعة على الهواء. طار مصطفى فرحا وشكر الصديق بحرارة وراح يوما بعد يوم يطلعنا على تفاصيل استعداده للفقرة الغنائية التي سيقدمها. ليلة الحفل جلسنا جميعا بجوار الراديو نترقب فقرة مصطفى لكن الحفل بدأ وانتهى بغير أن يغني مصطفى.
في اليوم التالي اتصلنا بمصطفى فلم يرد واتصلنا بصديقنا الذي توسط له فأخبرنا بالمفاجأة: لقد اتصل به مصطفى قبيل الحفل واعتذر عن عدم المشاركة.. احترنا في تفسير هذا التصرف الغريب فقد انتظر مصطفى لأعوام طويلة فرصة لقائه بالجمهور ولما جاءته تخلف عنها. كان رأيي ان مصطفى خاف من مواجهة الجمهور. لقد عاش طويلا في عالم افتراضي مريح يعتبر نفسه مغنيا عظيما ومضطهدا بسبب مؤامرات الحاقدين على موهبته فلما حان الاختبار الحقيقي خاف من اجتيازه لأنه لو غنى وفشل أمام الجمهور فإن عالمه الافتراضي سوف يتحطم وسيكون عليه أن يواجه الحقيقة المؤلمة: انه غير موهوب وصوته لا يصلح للغناء وبالتالي فانه وحده المسؤول عن فشله.
ما حدث لمصطفى المغني يحدث للكثيرين منا. اننا كثيرا ما نرفض رؤية الواقع ونخترع عالما افتراضيا يعفينا من المسؤولية ويرسم في أذهاننا صورة متوهمة مريحة نكون فيها نبلاء ومظلومين بسبب شرور الآخرين. العالم الافتراضي يعفي الانسان من رؤية الحقيقة لأنها قد تؤلمه أو تدينه. «الاخوان» الآن يعيثون في مصر فسادا: قتل وحرق وتفجيرات واعتداءات على الشرطة والجيش والمواطنين.. هل يدرك «الاخوان» بشاعة جرائمهم؟ لقد رأينا بالفيديو أنصار «الاخوان» يذبحون ضباط الشرطة في كرداسة وهم يكبرون ويهللون. «الاخوان» يعيشون في عالم افتراضي يعتبرون أنفسهم فيه مؤمنين أتقياء وورثة الأنبياء، وهم يرون أنفسهم دائما ضحايا لتآمر أعداء الاسلام، يعتقدون أنهم فقدوا السلطة بسبب انقلاب عسكري اشترك فيه فلول نظام مبارك والعلمانيون أعداء الشريعة بمباركة الصهيونية العالمية بالطبع.
لا جدوى اطلاقا من تذكير الاخوان بخياناتهم للثورة وبانقلاب مرسي على النظام الديموقراطي بإصداره الاعلان الدستوري الذي جعل قراراته فوق القانون. لا جدوى من تذكيرهم بدعم الولايات المتحدة لهم ولا بملايين المصريين الذين نزلوا للاطاحة بمرسي قبل أن يتدخل الجيش. لا فائدة من مناقشة «الاخوان» أساسا لأنهم يرفضون رؤية الحقيقة ويتشبثون بأوهام عالمهم الافتراضي. من الصعب على من قضى سنوات مقتنعاً بعقيدة «الاخوان» أن يعترف انه أضاع عمره في الدفاع عن أفكار فاشلة وباطلة كما أن شيوخه الذي طالما اعتبر طاعتهم من طاعة الله ليسوا في الواقع الا مجموعة من تجار الدين وطلاب السلطة والمتآمرين المجرمين، ليس أمام عضو «الاخوان» الا أن يتمسك بالعالم الافتراضي المريح الذي يعفيه من اية مسؤولية ويصور «الاخوان» مهما ارتكبوا من جرائم كمجاهدين مظلومين.
إن ظاهرة العالم الافتراضي ليست قاصرة على «الاخوان». فلول نظام مبارك أيضا يعيشون في عالم افتراضي مريح لهم يعتقدون فيه ان الثورة التي خلعت مبارك ليست الا مؤامرة «اخوانية ـ اميركية» خطيرة، وهم يجهدون لترديد خزعبلات وأباطيل لإثبات ان هذه المؤامرة الكونية دبرتها المخابرات الاميركية ضد زعيمهم المحبوب مبارك. لا جدوى من مطالبة الفلول بتقديم أدلة الخيانة اذا كانت صحيحة الى جهات التحقيق بدلا من تشويه سمعة خلق الله في التلفزيون، ولا جدوى من تذكيرهم بأن الثورة المصرية كانت متوقعة قبلها بعشر سنوات، وقد اشترك فيها 20 مليون مواطن يستحيل أن يكونوا متآمرين أو عملاء. ان فلول مبارك، تماما مثل «الاخوان»، لا يريدون أن يواجهوا الحقيقة لأنها ستؤلمهم وستدينهم وبالتالي يهربون الى عالمهم الافتراضي. ان رجال الاعمال الذين صنعوا ثرواتهم بسبب استغلال علاقتهم بأسرة مبارك من الصعب عليهم أن يعترفوا أنهم مجرد لصوص سرقوا الشعب المصري، وبعض ضباط أمن الدولة الذين قاموا بتعذيب آلاف الأبرياء من الصعب عليهم أن يعترفوا بأنهم جلادون ومجرمون. العالم الافتراضي وحده هو الذي سيمكن رجل الأعمال اللص من أن يعتبر نفسه اقتصاديا وطنيا ويسهل على الضابط الجلاد أن يعتبر نفسه بطلا يقاوم المتآمرين العملاء.
إن أخطر ما يحدث في مصر الآن أن الحقيقة لم تعد واحدة، وانما متعددة ونسبية، وسط تشويش متعمد كثيف يمنع الرؤية. ان «الاخوان» والفلول عاجزون جميعا عن رؤية الحقيقة ويحاول كل فصيل أن يفرض أوهامه على الواقع. هل نحتاج الى مناقشة هذه الافكار بينما الدولة تخوض حرباً ضد «ارهاب الاخوان»؟ اننا أحوج اليوم أكثر من أي وقت مضى الى رؤية الحقيقة بوضوح مهما كانت تؤلمنا او تديننا. هل يستطيع الطبيب أن يتوصل الى علاج المرض اذا كانت نتائج التحاليل غير دقيقة؟ هل يستطيع الخبير الاقتصادي أن يضع حلا لأزمة اقتصادية اذا اعتمد على احصائيات ملفقة؟ وكذلك نحن لا يمكن أن نخطو الى الأمام الا اذا اعترفنا بالحقائق التالية:
أولا: كان نظام مبارك فاسدا وفاشلا وقمعيا وخلال 30 عاما من حكمه تدهورت أحوال بلادنا حتى وصلت الى الحضيض في كل المجالات، وقد تسبب مبارك في قمع وقتل ألوف المصريين بسبب الاهمال والفساد في كل مكان بدءا من المستشفيات العامة وعبارات الموت وصولا الى القطارات المحترقة والاسمدة والاطعمة المسرطنة. في يناير 2011، ثار المصريون ضد مبارك وكانت الثورة نموذجا متحضرا أثبت للعالم كله كيف يستطيع شعب أعزل ان يخلع حاكما مستبدا تحميه آلة قمع جبارة. لم يتنح مبارك عن الحكم حقنا للدماء كما يردد الفلول في عالمهم الافتراضي بل انه، خلال 18 يوما فقط، قد تسبب في قتل الفين من المواطنين بالرصاص الحي وألف مفقود حتى الآن (قتلتهم شرطة مبارك غالبا وتم دفنهم في أماكن مجهولة) بالاضافة إلى اصابة 18 الف مصري برصاص الشرطة، كثيرون تسببت اصاباتهم في عجزهم الجزئي أو الكلي.
ثانيا: إن المجلس العسكري السابق، وإن كان رفض قمع الثوار في البداية، الا أنه انقلب عليهم بعد ذلك وحدثت تحت حكمه عدة مذابح بشعة راح ضحيتها مئات المصريين، والمجلس العسكري المسؤول السياسي الوحيد عن هذه المذابح التي لم يتم التحقيق فيها ولا محاسبة المسؤولين عنها حتى الآن.
ثالثا: الثورة ليست مسؤولة عن تولي «الاخوان» للحكم، بل إن نظام مبارك هو الذي قام بتجريف الحياة السياسية أولا بأول مما منح «الاخوان» الفرصة باعتبارهم الكيان الوحيد المنظم وجعلهم يفوزون في أية انتخابات غير مزورة ايام مبارك مثل انتخابات النقابات والجولة الأولى من انتخابات مجلس الشعب في العام 2005. كان من الطبيعي بعد الثورة أن يمنح الشعب ثقته «للاخوان» ليختبرهم فلما فشلوا في الاختبار وانكشفت حقيقتهم الاجرامية حجب عنهم الشعب ثقته وأطاح بهم بعد عام واحد.
رابعا: ثبت الآن على وجه القطع أن الانتخابات الرئاسية التي أجريت في العام الماضي لم تكن سوى مسرحية سخيفة تمت بغرض خداع المصريين ومنح الرئاسة لمرشح «الاخوان». لم تطبق أية قواعد تكفل سلامة الانتخابات فلا شفافية في التمويل تعلن للرأي العام من يمول حملات المرشحين ولا تطبيق جاداً للحد الأقصى للإنفاق على الحملات الانتخابية، كما أن النتائج لم تلغ في لجان كثيرة شابتها مخالفات موثقة وجسيمة. الأخطر من كل ذلك أن اللجنة العليا للانتخابات لم تلتفت الى الطعون التي قدمها المرشحون ضد بعضهم البعض. في الجولة الأولى تقدمت حملة حمدين صباحي بشكاوى عديدة أثبتت فيها أن عددا كبيرا من ضباط الشرطة قد صوتوا لمصلحة أحمد شفيق بالمخالفة للقانون لكن لجنة الانتخابات تجاهلت كل هذه الشكاوى، وفي الجولة الثانية تقدم شفيق بطعون تتهم مرسي بالتزوير فلم تلتفت اليها اللجنة وأعلنت فوز مرسي بالرئاسة. كيف نثق في لجنة انتخابية تعلن المرشح الفائز قبل التحقيق في الطعون المقدمة ضده..؟!. جريدة «الوطن» نشرت مؤخرا حديثا مع المستشار عبد المعز ابراهيم عضو لجنة الانتخابات قال فيه إنه نبه اللواء ممدوح شاهين الى أن قانون الانتخابات غير دستوري فأجابه شاهين:
« أنا عارف والمشير عارف. شوف شغلك..».
هذه الواقعة تؤكد سيطرة المشير طنطاوي على لجنة الانتخابات وتؤكد أنه لم تكن هناك انتخابات رئاسة ولا يحزنون. كانت هناك ارادة سياسية خلف الكواليس تستهدف تسليم الرئاسة لمرشح «الاخوان» وكل ما حدث على المسرح كان بغرض تنفيذ هذه الارادة. الآن يعود كثيرون الى طرح مرشحين للرئاسة وكأننا نريد أن نتعرض لنفس الخدعة من جديد. أية انتخابات ستجرى في نفس ظروف الانتخابات السابقة تعني ببساطة أن المرشح الذي سيفوز هو من تم تحديده في الكواليس. علينا أولا أن نتأكد من شروط الانتخابات النزيهة قبل أن نختلف على المرشحين.
خامسا: لقد كانت «30 يونيو» موجة ثورية عظيمة اشترك فيها ملايين المصريين للتخلص من حكم «الاخوان» الفاشيين، وبرغم كل الأخطاء التي ارتكبتها السلطة الانتقالية فواجبنا في رأيي أن ندعمها لأنها تخوض حرباً ضد ارهاب «الاخوان» الذي يستهدف اسقاط الدولة، كما ان مشروع الدستور الذي أعدته لجنة الخمسين (باستثناء مادة محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية) يعتبر من أفضل الدساتير التي عرفتها مصر، ومهما كانت ملاحظاتنا على الدستور أرجو أن ندرك جميعا ان تصويتنا لن يكون على الدستور وانما على عزل مرسي والإطاحة بـ«الاخوان». كل من شارك في «30 يونيو»، في رأيي، من واجبه أن يوافق على هذا الدستور ليثبت للعالم كله أن ارادة الشعب هي التي أطاحت بحكم الاخوان وأن الجيش لم يقم بانقلاب وإنما نفذ ارادة الشعب.

علاء الأسواني

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...