روجيه غارودي... شاهد على ارتجاجات القرن

30-06-2012

روجيه غارودي... شاهد على ارتجاجات القرن

رجل القناعات «العابرة» لا يختلف عن روبير فوريسون
قد يكون كلامي هذا متأخراً قليلاً، فأنا حالياً في القاهرة وتشغلني مشاكل أخرى أكثر أهمية. غير أنّ وفاة روجيه غارودي أثارت تعليقات في العالم العربي أكثر منه في أي مكان آخر، إذ رأى فيه كثيرون رجل فكرٍ كان يدعم كفاح الشعب الفلسطيني... وقد أُدين لذلك. عالجتُ حالة هذا الرجل في صيغة أولى من كتابي «اسرائيل/ فلسطين ــ حقائق حول صراع»، وفيها وجدتُ ذلك النصّ بعنوان «رسالة إلى ابنتي» الذي أتطرّق فيه إلى التحريفية وغارودي.
لماذا، رغم كل الأدلة، يواصل الناس التشكيك في حدوث هذه الإبادة الجماعية؟ «منكرو المحرقة اليهودية» (التحريفيون) ليسوا المجموعة الوحيدة التي تقاوم نظرياتها الواقع. بل ما زال هناك ملايين الأميركيين يعتقدون أنّ العالم وحكوماتهم مختَرقة من الكائنات الفضائية. ومنذ عشر سنوات، يدعي البعض ــ ومنهم علماء موثوقون ــ أنّ فيروس نقص المناعة ليس السبب في الاصابة بالإيدز. لكنّ طروحات روبير فوريسون وأتباعه تتغذى من معاداة السامية التقليدية، وقد تجذرت في النقد الراديكالي لدولة إسرائيل انطلاقاً من منطق: تستخدم اسرائيل الإبادة الجماعية لترسيخ شرعيتها، وبالتالي ينبغي إنكار الإبادة الجماعية بغية سلب اسرائيل شرعيتها. عرفت هذه الطروحات زخماً جديداً في فرنسا والعالم العربي مع روجيه غارودي. لا شك في أنّ هذا الاسم لا يعني لكم شيئاً. إنّه رجلٌ عجوز أقل ما يمكن قوله عن مسيرته بأنّها مذهلة: شيوعي وستاليني خلال الخمسينيات والستينيات، و«شيوعي إصلاحي» في السبعينيات، اعتنق أولاً المسيحية ثم الإسلام. لديه قناعات قوية جداً، وبالتالي فإنّها لا تدوم طويلاً. في عام 1996، نشر كتاباً بعنوان «الأساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية». بموجب قانون غايسو، أدانته المحاكم الفرنسية بتهمة «إنكار جريمة ضد الانسانية». وقد رأى الكثير من رجال الفكر العرب، والفرنسيين المسلمين في هذا الحكم إدانة سيئة تشبه صيد الساحرات، إثباتاً للنفوذ الصهيوني في فرنسا.
بخلاف معظم أفراد مجموعة التحريفيين، ينأى روجيه غارودي بنفسه عن معاداة السامية التقليدية. فهو يدين مثلاً كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون»، باعتباره مُلفقاً، ويحيّي ذكرى «شهداء انتفاضة غيتو وارسو». لكنّ عداءً من الصميم يحرّكه تجاه إسرائيل، عداء يعميه ويُكسِبه تعاطف العالم العربي. هل ينبغي أن نثني على جان ماري لوبن لأنّه يدين الحصار على العراق في حين أنّه يواصل مهاتراته المعادية للعرب؟
«أساطير القرن العشرين»، هذا هو عنوان الفصل الثالث من كتابه. هل نسي هذا الكاتب الذي كان مناهضاً للفاشية أنّ ذلك كان عنوان كتاب كلاسيكي للمنظّر النازي ألفريد روزنبرغ؟ يتساءل الكاتب: «هل حدثت خلال الحرب «إبادة جماعية» لليهود؟». ثم يجيب: «كلا؛ لا يتعلق الأمر بإبادة شعبٍ بأكمله» لأنّ اليهودية «شهدت نمواً كبيراً في العالم منذ العام 1945». بالتالي، لم تحصل إبادة جماعية للأرمن لأنّ بعض الأرمن قد نجوا، ولا إبادة جماعية لقبائل التوتسي أو شعب الخمير... انطلاقاً من هذا المنطق، يمكننا القول أيضاً إنّ الفلسطينيين لم يُرحّلوا عام 1948، لأنّ بعضهم قد تمكن من البقاء في منزله!
ويتابع روجيه غارودي أنّه لا شك في أنّ هتلر كان معادياً لليهود، لكنه لم يُرِد إبادتهم. لخَّص «الحل النهائي» في ترحيلهم نحو الشرق في ظل ظروف قاسية: مسيرات قسرية، ومجاعة، وحرمان، وأوبئة... بالتالي، لم يكن هناك يوماً آلة إبادة. ويبدأ بعملية حسابية رهيبة، ليفسّر أن الأرقام المقدَّمة حول عدد الضحايا قد اختلفت على مرّ السنين. صحيح أنّ تقديرات عدد القتلى في أوشفيتز كانت متفاوتة: من 4 ملايين غداة الحرب إلى مليون اليوم. لكن هل هذا مُستغرَب؟ هل كنا نعرف حقاً عدد القتلى خلال حرب الجزائر عام 1962؟ وما زلنا نجادل بشأن عدد القتلى في نزاعات عدّة. لكن في حالة الإبادة الجماعية اليهودية، لدينا عددٌ محدد للقتلى نوعاً ما: 6 ملايين تقريباً، نصفهم في غرف الغاز، مليون رمياً بالرصاص (خصوصاً عند الجبهة الشرقية)، والآخرون قضوا في الغيتوات (الأحياء اليهودية المعزولة) وبسبب العلاجات السيئة، ونقص التغذية... هذه نتيجة أعمال لا تُعَد ولا تُحصى يجهل روجيه غارودي كل شيء عنها. يقتصر نصّه على استشهادات جمعها بعدما أخرجها من سياقها، وهو أسلوبٌ يستعمله في النهاية لـ«يثبت» أنّ غرف الغاز لم تكن موجودة يوماً.
هكذا، بالمعنى الحقيقي، يكون روجيه غارودي منكراً للمحرقة اليهودية، ولا شيء يجعله مختلفاً عن روبير فوريسون وأتباعه المعادين للسامية كلهم. من خلال إدانته، جعلته السلطات الفرنسية ضحيةً في أعين البعض. لكنّ المؤسف أنّ رجال فكر أوروبيين أو عرباً دافعوا عن «حقه في التعبير» من دون أن يدينوا الطروحات التي يروّج لها.
إلا أنّ انتقاداً للسياسة الاسرائيلية أو الصهيونية لا يعني معاداة للسامية أو حتى «إنكاراً للمحرقة اليهودية». ينبغي رفض أي ابتزاز، كالذي يمارسه باتريك غوبير، رئيس «الرابطة الدولية لمكافحة العنصرية ومعاداة السامية» في تصريحٍ لصحيفة «لو فيغارو» (بتاريخ 7 حزيران/ يونيو 2001). يدين الأخير ازدياد الأعمال المعادية للسامية في فرنسا والمرض الذي يسبب هذه «الانبثاثات الخطيرة» مضيفاً: «نعرف الشر. معاداة الصهيونية مشروعٌ فكري وسياسي ضخم وغامض ــ عندما لا يكون عنصرياً ــ يهدف إلى عدم الاعتراف بحق الشعب اليهودي بالعودة إلى أرض أجداده أو، بشكلٍ أدق، بحق إسرائيل في الوجود».

آلان غريش- صحافي فرنسي متخصّص في شؤون الشرق الأوسط، ومدير تحرير صحيفة «لوموند ديبلوماتيك»

مفكر إشكالي في عالم معقّد
بعد رحيل الفرنسي روجيه غارودي (13 حزيران/ يونيو الجاري)، خسر العالم أحد الفلاسفة الغربيين الأكثر إثارة للجدل. لم تأتِ شهرة غارودي من نفيه المحرقة اليهودية (أطروحته الشهيرة «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية») فحسب، بل أيضاً حين أعلن إسلامه على نحو غير مفاجئ في عام 1982. وفي مقابل التعتيم الإعلامي الغربي، وخصوصاً الفرنسي الذي رافق رحيله، أعلن «معهد الدراسات والفكر الإسلامي» الإيراني إحياء ذكرى المفكّر الراحل بعد غد الاثنين بمشاركة منظمات إسلامية أخرى. في عام 1998، حكمت محكمة فرنسية عليه بتهمة معاداة السامية بسبب كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، حيث قارع غارودي الخرافات التي قام عليها الكيان الصهيوني، أي تلك الخرافة اللاهوتية الممثلة في الوعد الإلهي لليهود في أرض الميعاد. لكن ما أثار النقمة عليه، هو تشكيكه في المحرقة اليهودية. هكذا، حوكم بالسجن مع وقف التنفيذ.
ينظر غارودي إلى ثالث الديانات التوحيدية بعين أخرى، تنزع عنه مقولات الجبرية والعنف ونبذ الآخر. الإسلام بالنسبة إليه استجابة توحيدية تبحث عن السلام والانفتاح على الثقافات والديانات الأخرى. كان حلمه على شاكلة المتصوفين المسلمين: البحث عن أضواء التوحيد بعقل المساءلة والقلق والتجلّي. يقول: «أشد ما يحملني على الفخر هو تمسّكي بالحلم الذي راودني في سن العشرين، أعني وحدة الأديان الثلاثة: المسيحية واليهودية والإسلام». لم ينفصل غارودي عن منابع الثقافة الغربية، ولا شك في أنّه نتاج لها. وحين اختار المجال النبوي، كخيار عقائدي/ ديني، سعى إلى عقلنة الإسلام، فنادى بـ«تاريخية القرآن»، و«تاريخية الأحكام الشرعية»، إذ رأى أنّ النص القرآني مفتوح على التأويل ويحمل هوية قارئه في الزمان والمكان، ما يعني أنه مفتوح على القراءات الجديدة. كذلك وجّه نقداً للأصوليين الإسلاميين، وإلى كافة الأصوليات الأخرى. وقد تميّز بكثافة الإنتاج بعد إسلامه، فوضع عدداً من المؤلفات وصلت إلى 40 كتاباً. حظيت أفكاره المناهضة للصهيونية بتقدير الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكان معمر القذافي قد منحه «جائزة القذافي لحقوق الإنسان»، ونال أيضاً «جائزة الملك فيصل العالمية» عام 1985 عن خدمة الإسلام، والدكتوراه الفخرية من جامعة «قونيا» في تركيا (1995).
لا يمكن وصف هذا الانتقال بالقطيعة النهائية مع جذوره المسيحية ومكتسباته المعرفية الغربية؛ فالحاج الفيلسوف تحدث في سيرته Mon tour du siècle en solitaire (1999) عن مراجعات ذاتية مستمرة نقلته من البروتستانتية إلى نقد الستالينية من دون أن يلغي ذلك التزامه قيم العدالة الاجتماعية التي اكتسبها خلال تجربته مع الحزب الشيوعي، فوجد الإسلام ينسجم مع ذلك ويطبّقه، وظلّ على عدائه للإمبريالية والرأسمالية، ووضع كتابين: الأول «الولايات المتحدة طليعة الانحطاط» (1997)، والثاني «الإرهاب الغربي» (2004).
وفي ما يتعدى أفكاره في نقد الماركسية، آمن صاحب «الإسلام في الغرب» بشمولية الإسلام قائلاً: «أظهر الإسلام شمولية كبرى في استيعابه لسائر الشعوب ذات الديانات المختلفة، فقد كان أكثر الأديان شمولية في استقباله الناس الذين يؤمنون بالتوحيد، وكان في قبوله لأتباع هذه الديانات في داره منفتحاً على ثقافاتهم وحضاراتهم. والمثير للدهشة أنه في إطار توجهات الإسلام، استطاع العرب آنذاك ليس فقط إعطاء إمكانية تعايش نماذج لهذه الحضارات، بل أيضاً إعطاء زخم قوي للإيمان الجديد: الإسلام». وفي كتابه «وعود الإسلام»، حاول غارودي البحث عن مجال توحيدي يتخطى الانقسامات وصراع المذاهب على الإسلام. إذاً، علامتان طبعتا حياة الفيلسوف الفرنسي الهائم في رواق المعرفة: الخطأ الذي كلّفه غالياً في التشكيك بالمحرقة اليهودية، ودخوله الى الإسلام، مفكراً وموحداً. لكنّ غارودي لم يُرضِ الغرب، ولا الأصوليين الإسلاميين، ولا المفكرين العرب الذين انتقدوا أطروحاته، وتحديداً خلاصاته حول الإسلام. لقد عاصر الفيلسوف الفرنسي أهم التحولات التاريخية الكبرى التي انعكست على هويته المركبة، وأفضت إلى تكريسه مفكراً إشكالياً في ظل عالم معقد، تتداخل فيه الهويات، ويكثر فيه المتحولون العابرون من دين إلى آخر.

ريتا فرج

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...