روايات يوسا التاريخية جزء أساسي من عمله الأدبي

25-09-2012

روايات يوسا التاريخية جزء أساسي من عمله الأدبي

لا تُعتبر علاقة ماريو بارغاس يوسا، مع «الرواية التاريخية» علاقة عابرة، إذ عرّج عليها خلال مسيرته الكتابية، ليقدم فيها أعمالاً تستحق التوقف عندها، لعلّ أبرزها: «عرس التيس» (2002) و«الجنّة أبعد قليلا» (2003)، من دون أن ننسى بالطبع «ليتوما في جبال الأنديز» و«حرب نهاية العالم» وغيرها من تلك الروايات التي عبقت بقراءة واقع اجتماعي وتاريخه.
في الأولى، استعاد صورة مقتل ليونيداس تروخيّو، دكتاتور الدومينيكان، وفي الثانية الأيام الأخيرة من حياة المناضلة النسوية فلورا تريستان. وها هو في روايته الأولى التي تصدر بعد حصوله على نوبل للآداب «حلم السلتي» (ترجمة صالح علماني، منشورات «طوى»)، يعود إلى هذا الحيّز التاريخي، باستعادته حياة المغامر والمناضل ضد الاستعمار والثوري الايرلندي روجيه كازمان الذي أعدم شنقا في سجن بونتونفيل العام 1916.
بالتأكيد لا يكتب يوسا رواية تاريخية بالمعنى العادي والمتعارف عليه، بل ثمة مساحة كبيرة للفعل التخييلي، أي للفعل الروائي، الذي يقوده إلى طرح العديد من الأفكار التي يرغب فيها، وهو هنا، في اتكائه على التاريخ، يفرد لنا مساحة كبيرة للحديث عن الكولونيالية، التي تشكل «شرّا» من شرور هذا «التاريخ» الذي يتحول من حلم إلى كابوس مليء بالعذاب والتعذيب.
لكن في ذلك كله، يبقى يوسا هو يوسا، أي ذلك «الحكواتي» البارز الذي عرف، وبحصافة فعلية، كيف يعيد تركيب تفاصيل مصير ذاك الشخص الذي كان يعتبر في زمنه شخصاً «غير مألوف»، على الرغم من أن التاريخ تناساه. وفي نسيان التاريخ لهذه الشخصية، يكمن المشروع الحقيقي ليوسا، بمعنى أن اسم «كازمان» لم يحفظ في كتاب التاريخ بل في عمل أدبي هو رواية جوزف كونراد «في قلب الظلمات»، إذ يشير كونراد في رائعته هذه إلى حوار جرى مع «كازمان» الذي زار الكونغو وتفاجأ بالعبودية التي يتعرض لها السود، ما دفعه إلى رحلة جديدة مع الوعي: وعي الشرط التاريخي والشرط الإنساني، وما كان يقوم به الأوروبيون من استعباد حقيقي للشعوب الأخرى.
إذاً، يمكن القول إن يوسا يعيد إحياء «كازمان»، ليخرجه من كونه «شخصية روائية» فقط، ليعطيه الحياة من جديد، أو بالأحرى لينفض الغبار عن هذا الشخص الحقيقي الذي ولد في دبلن العام 1864، والذي شغف وهو صغير بحكايات والده «القائد كازمان» عن الهند وأفغانستان، ما أعطاه الرغبة فيما بعد في اكتشاف إفريقيا وغابات الكونغو، ليتفاجأ هناك باستعباد الإنسان للإنسان، لتبدأ رحلته في النضال ضد أشكال العبودية.
قد تكون هناك طوباوية ما في حياة كازمان الذي لم يستطع مواجهة المؤسسة الرسمية التي أعدمته في النهاية، لكن كلّ هذه الطوباوية تشكل حيّزا كبيرا في فكر يوسا «الإنسانوي» الذي وقف ضد كلّ الإيديولوجيات ليناضل من أجل إنسان يعيش شرطه الحقيقي، بعيدا عن كوابيس الايديولوجيات، التي لم تنفع سوى بجلب الدمار النفسي والداخلي لهذا الكائن.
من السجن الذي يقبع فيه في انتظار محاكمته، وفي انتظار إعدامه، تبدأ ذاكرة «كازمان» باستعادة كل ما جرى له، بدءاً من حياته الأولى، وصولاً إلى اللحظة الأخيرة، وعبر تناوب الفصول، يتبدى لنا رسم هائل لكلّ ما جعل من هذه الحياة جحيماً. وفي معاداته للاستعمار يتحول «كازمان» إلى قومي إيرلندي، وكأنه وجد في ذلك صيغة ما لمواجهة ما هو أصعب.
قد لا تبدو رواية «حلم السلتي» من أفضل كتب يوسا، إذ من يعرف أعماله، لا بدّ من أن يكتشف الفرق الكبير بينها وبين الروايات الأخرى، حتى أن «حرب نهاية العالم» التي جاءت بعدها، تفوقها بكثير وتعيدنا إلى يوسا الذي عرفناه. ومع ذلك يبقى الكاتب البيروفي هو نفسه، أي يستحق أن نصرف وقتا لقراءته.


إسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...