دمشق تعرِّف أبناءها الى وجهها «القلق»

30-06-2011

دمشق تعرِّف أبناءها الى وجهها «القلق»

لم يستمع سالم لنصائح أهله، ولم يؤجل موعد زيارته السنوية المعتادة، حجز تذكرته إلى دمشق قادماً من إحدى العواصم الأوروبية حيث يستقر موقتاً بغرض الدراسة، وهو يتوق لرؤية أهله وأقربائه والاطمئنان على بلده. حاول الجميع ثنيه عن القدوم في هذا الوقت الحرج، خوفاً عليه من أي طارئ، إلا أن خوفه على وطنه كان أقوى، وقرر أن يزور البلد ولو لوقت قصير وهو يعرف أنه لن يتمكن هذه المرة من تمضية جزء من الإجازة في القرى الجبلية أو المدن الساحلية كما اعتاد.

اجتاز بوابة مطار دمشق الدولي، الذي بدا أكثر هدوءاً، بفرح ممزوج بكثير من القلق، ولكن سرعان ما ارتاح قلبه عندما وجد أباه وأمه وإخوته بانتظاره على الجانب المقابل، بادر إلى السؤال عن الأوضاع والاطمئنان على العائلة، وبشكل خاص على من يعيش في بعض المحافظات التي تشهد أحداثاً ساخنة، أراد أن يعرف منهم ما إذا كانت الصور التي يراها على الشاشات الإخبارية حقيقية أو مبالغاً فيها، وأن يمضي يومَ جمعةٍ هنا ليلمس بنفسه كيف يعيشه الناس في المدينة.

هي دمشق، تستقبله هذه المــرة بوجــه مخــتلف، وعلــى رغم الحركة شبه الاعتيادية في شوارع المــدينة وطرقـــاتها، القلق يعم الوجوه ويسيطر الهمّ على القلوب، والحديث واحد: ما الذي يحدث؟ وما الذي سيحدث؟... دمشق الـــتي نادراً ما استضافت احــتدامــات ســياسية على المكشوف، ضجــت مقاهيها بالشباب والفتــيات يتحاورون، وإنْ بصوت منخفض بعض الشيء، يتوافقون أو يختلفون، عائلات يروي بعضها لبعض قصصاً تناقلها الجيران والأقرباء، وحـــتى مَن لم يكن يتجرأ على التكلم في السياسة استباح الكلام، وقد غلب الهمُّ العام على الهموم اليومية المعتادة، وطغت أسماء كبار المعارضين والمؤيدين، وأصبحت آراؤهم وتصريحاتهم موضعَ تقويم وتحكيم وتأييد أو إدانة.

الهمُّ العربي أيضاً يقتحم الأحاديث بين فينة وأخرى، تونس ومصر واليمن وليبيا والمغرب والجزائر، تطورات عربية لها حصة من التحليل السياسي اليومي للسوريين، الذين أدمنوا بنهم جائع متابعة الأخبار عبر الفضائيات المتعددة والالتصاق بشاشات الكومبيوتر لمتابعة مزيد من التحليلات عبر «الفايسبوك» و «التويتر» وغيرها من المساحات التي لا تعرف حدوداً، إلاّ الانقطاع «المزعج» لشبكة الإنترنت في بعض المناطق.

وجه مختلف لدمشق، وجه جديد على سالم، الذي عاش طفولته وشبابه في هذه المدينة وترعرع في مدارسها وتخرج في جامعتها وتسكع مع رفاقه في شوارعها ومقاهيها. عرف من «الفايسبوك» أن أحد أصدقائه اعتقل بسبب مشاركته في التظاهرات، وأن آخَر سافر إلى بلاد الخليج ليتفادى الوضع غير المستقر، بينما لم ينهِ ثالثٌ خدمته الإلزامية في الجيش بعد.

استغل فرصة وجوده في البلد ليلتقي بمن بقي من أصدقائه، بعضهم لا يزال يُمارس أعماله المعتادة في دمشق، التي تتوسط الأحداث محافِظةً على هدوء نسبي متقطع، وآخَر أجّل عرسه الذي كان وشيكاً إلى حين «تنفرج الأمور»، فالوقت ليس وقت أفراح والقلوب ليست صافية ولا العقول مرتاحة.

يقظة تزحف إلى أرجاء المدينة وقد استفز الهمُّ العقول وبدّل المشهد، رأى سالم كل شيء مختلفاً، صاحب الدكان، شرطي المرور، الزبال، الاطفال، النساء... شعر بالشوق إليهم جميعاً، وأراد أن يلقي التحية عليهم واحداً واحداً، ويخبرهم كم يحبهم وكم يتألم لقلقهم وخوفهم من دون أن يكترث هذه المرة للمنغِّصات المعتادة المزعجة، كانقطاع الكهرباء وبطء شبكة الإنترنت، التي لطالما انتقدها وشعر بعدم قدرته على احتمالها من زيارة لأخرى، فهو غالباً ما أزعجته فكرة أن بلاد الغربة توفر له إمكان الاستحمام اليومي، ولكن في «دمشق الكرم» تنقطع المياه، ولطالما اضطر إلى استخدام مقاهي الانترنت للتواصل، كون سرعة الشبكة في منزل أهله أبطء بكثير، لم تلفته تفاصيل مماثلة هذه المرة وقد كبُر همّ الوطن وتغيّر معه الكثير... كل شيء أصبح له نكهة مختلفة غريبة.

ليست هذه دمشقَ نفسَها، التي حفظها عن ظهر قلب ونقل تاريخها وحاضرها معه إلى بلاد الغربة، هو يتعرف اليوم الى دمشقَ جديدةٍ، ملامحها لا تزال مبهمة، شعر بالحاجة إلى الالتصاق بالمدينة كما الجنين، وأسف لأن عليه العودة لبلاد الغربة للدراسة، فما أصعب أن تبتعد عن أحبائك في مثل هذا الوقت العصيب... ودّع أهله وأقرباءه وعَبَرَ بوابة المطار مغادراً... تشده مدينته إليها بقوة كما لم تفعل من قبل!

بيسان البني

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...