خالدة سعيد الشاهدة على تحولات الثقافة العربية المعاصرة

29-08-2007

خالدة سعيد الشاهدة على تحولات الثقافة العربية المعاصرة

في منزلها الريفي البديع، في قرية قصابين، على الساحل السوري، وبحضور زوجها، الشاعر أدونيس، التقيت الناقدة خالدة سعيد. رأيتها تخرج من الباب المؤدي إلى الردهة الخارجية، وتمشي بخطى وئيدة نحو الشرفة البيضاء للحديقة، وتأخذ مكانها على الكرسي، قرب شجرة الغار الباسقة، التي كنا نجلس حولها. كانت تتكئ على عكّازين طبيين، مشبوكين بيديها من الأعلى. شعرتُ للوهلة الأولى أنني أصافح نسمة بعيدة، آتية من جبل شاهق، لكنها تكاد تتلاشى أمام ناظري من فرط شفافيتها.

كانت الناقدة الكبيرة تعاني وعكة صحّية عابرة، ما جعلها تبدو أكثر هشاشةً وخفوتاً، وتجد صعوبةً في التنقّل على قدميها. تخيلتُ طيفاً يهبط من لوحة لسيزان أو ماتيس، أو ينهض من قصيدة انتهى أدونيس للتو من كتابتها، ليتحوّل، بقوة التحديق، استعارة بيضاء، تعبر كسراب فضاء المنزل، الذي يشبه قصيدة باروكية في رشاقة عمارته، ورحابة فضائه الداخلي، وتنوّع شرفاته، وجمال حديقته، التي تضمّ أشجارَ صنوبرٍ وجوز ورمّان وتين وزيتون وعنب وكرز وإجاص وتفّاح، وطيفاً واسعاً من الزهور البرية والمنزلية، بألوانها الصفر والزرق والحمر والبيض. فردوسٌ أرضي يخاطب الحواس، ربما أراده أدونيس أن يمثل المعادل الموضوعي للميتافيزيقيا المتعالية في شعره. هذه البرية، التي تحاصر المنزل من كل جهاته، كان يقابلها متحف فني صغير، يمتدّ عبر الغرف والردهات، غني بالصّور واللوحات والأيقونات والتماثيل الصغيرة. لوحات فنية أتى بها أدونيس من أنحاء العالم، وبعضها رسمه بريشته. ولم يكن هذا التوازن بين حديقة الخارج ومتحف الداخل سوى ترجمة حسّية لنزوع أدونيس إلى خلق نوع من «الهارمونيا» بين الرّوح والجسد، أو بين المعنى والمبنى، وابتكار القصيدة المتوازنة التي تنهض على دعامتين كلاسيكيتين: الطبيعة والمخيلة.

في البدء، تبادلت مع الناقدة المبدعة كلمات قليلة عن صحّتها. ثم سرعان ما انتقل الحديث إلى كتابها الموسوعي، حول الحركة المسرحية في لبنان، الذي أمضت أعواماً خمسة في إعداده وتأليفه، وهو يعتبر الآن من المراجع النقدية المهمة، التي تؤرّخ لحقبة مفصلية في تاريخ المسرح اللبناني الحديث. سألتها عن علاقتها بدمشق، وذكرياتها الغابرة فيها، وقالت إنها لا تعرف هذه المدينة جيداً الآن، على رغم أنها أمضت فيها أعواماً لا تُنسى. كانت تختار كلماتها بلطف ويسر وسهولة، وتضع فواصل صمت بين الفكرة والفكرة. سألتها عن بيروت، التي تعشقها، وعن سرّ تعلّقها بها، ولم أكن أحتاج إلى برهان. ففي نبرة صوتها لكنةٌ لبنانية صريحة توقّعُ نهايات حروفها. وسرعان ما انحرف الحديث إلى الشاعرة سنية صالح، شقيقتها الصغرى، وبدأنا بالملفّ الذي كانت أعدته مجلة «بانيبال»، بالإنكليزية، عن شعر سنية، وشارك فيه الشاعر عبده وازن، ومارغرت أوبانك، محّررة المجلة، وأنا.

وخلال حديثها، كنتُ أسترق النظر إلى وجهها، الذي يبزغُ منه جمالٌ حَييٌ، آسر، وإلى عينيها اللتين يشعّ منهما ذكاءٌ لمّاح، وإلى ابتسامتها التي تكشفُ تهذيباً ورقّة وألفةً. قلت إنها خالدة سعيد، الناقدة المبدعة، التي عرفت عن كثب معظم الشعراء العرب المعاصرين، وبخاصة الطليعيين منهم، ممن واظبوا اللقاء في منزلها، خلال «خميس» مجلة شعر في بيروت، والمرأة المثقفة التي برزت موهبتها النقدية باكراً، منذ صدور كتابها النقدي «البحث عن الجذور»، عن دار مجلة «شعر» عام 1960، مروراً بعشرات المقدمات التي كتبتها للكثير من الدراسات والموسوعات الفكرية، فضلاً عن ترجمتها الشيّقة لكتاب والس فاولي «عصر السريالية»، ثم ترجمتها البديعة لمختارات من قصص إدغار آلن بو، وإعدادها، أخيراً، كتاب «الأعمال الكاملة» لسنية صالح، الذي قدمت فيه قصائد ومقالات وقصصاً منسية لسنية، تُنشر للمرة الأولى. خالدة سعيد، الحصيفة، المثقفة، الأقدر على تحليل سيكولوجيا العلاقة الملتبسة بين المبدع ونصّه، وبين المبدع وعصره، والمؤرّخة الأدبية الشغوفة بالمسرح، والقارئة الاستثنائية للقصيدة، التي لم تستطع شهرة زوجها، الشاعر الكبير أدونيس، أن تحجب حضورها، هي المثقفة الطليعية التي شهدت أهم تحولات الثقافة العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وشاركت بفاعلية كبيرة في كل نقاشات مجلة «شعر»، إلى جانب يوسف الخال وأنسي الحاج وخليل حاوي وشوقي أبي شقرا وعصام محفوظ وخليل حاوي وسواهم. واستحضرتُ عبارات لها علقت في ذاكرتي، من كتابها الأخير، عن شقيقتها سنية، وبخاصة سردها الحميم للحظات مفصلية من طفولتهما معاً، ووصفها لحزن سنية بالمتوحّش الذي ينبجس «من الجوهر الأنثوي الخالق، المطعون، المسحوق عبر التاريخ،» ثم تقويمها النقدي المرهف لأسلوب سنية حيث «الصورة عندها وعد بالقبض على الغياب، بخرق الحدود، وإعداد الكلمات لسكنى الأحلام واللغات.» واسترجعتُ فهمها الفرويدي العميق للعلاقة العاطفية بين سنية وزوجها الشاعر محمد الماغوط، والتي تعزو استمرارها إلى ما تسمّيه «التواطؤ الشعري» بين الاثنين، حيث تلازمَ الشعرُ والحب تلازماً عضوياً. فهي، أي سنية، «طلبت من الحب ما طلبت من الشّعر. طلبت من الحب أن يكون ثأرها من العالم». وفيما كانت تتحدّث، بصوتها الخفيض، الواثق، كنتُ أبحث في ملامحها عن ملامح سنية، وفي صوتها عن صوت سنية، وأستدلّ بكلامها عن كلام سنية. كان من السهل التعرف على صمتِ سنية في صمتها، وعلى كآبة سنية في بريق نظرتها الحانية، الموقّعة بأسى دفين. كان صمتها بليغاً، يخفي أسراراً كثيرة، تماماً مثل صمت سنية، الذي تصفه بأنه لم يكن «خالياً أو مقفراً»، بل «ينحني على أسرارِه وآلامِه وأخيلتِه ويكتشف». وقد اكتشفت خالدة سعيد بعض أسرار هذا الصمت، وأزاحت النقاب عن موهبة سنية الشعرية، في صيف عام 1961، وبعد انفضاض اجتماع لجماعة مجلة «شعر» في بيت أدونيس، في بيروت، حين عرضت سنية عليها بعضاً من قصائدها للقراءة، ومنها قصيدة «جذور الرياح» المنشورة في مجموعتها الأولى «الزّمان الضيق»، عام 1964، والتي تختمها الشاعرة بسطرين رائعين تقول فيهما: «لأنّ الفصولَ أبداً هاربة/ لن يحملني زورقٌ للرجوع». كانت تلك مفاجأة كبرى لخالدة، التي تقول في وصف تلك الواقعة: «فجأةً من الصمت تفتّحت سنية. أزاحت الحجبَ والقيودَ وتكشّفَ ما يسكنُ الداخلَ».

وسرعان ما ذهبت مخيلتي إلى الشاعرة الأميركية الكبيرة إميلي ديكنسون، وتحديداً إلى شقيقتها الصغرى لافينيا، التي لعبت دوراً مفصلياً في تقديم شعر إميلي، المنسي والمفقود، إلى العالم، لتغيّر بذلك خريطة الشعر الأميركي إلى الأبد، بعد أن اكتشفت رزماً مخبوءة من قصائد إميلي، بعد وفاة هذه الأخيرة عام 1886، والتي لم يُنشر منها أثناء حياتها سوى أقل من عشر قصائد، أشرف عليها الناقد المعروف، حينذاك، تماس هيغنسون. لكن أختها، لافينيا، قدّمت إلى العالم الأدبي أكثر من ألف وسبعمئة وستين قصيدة أخرى، أسّست، مع شعر باوند وإليوت، لحظة الحداثة القصوى في الشعر الأميركي المعاصر. وتذكّرتُ أيضاً الشقيقات الروائيات الثلاث من عائلة برونتي الشهيرة، وهن: شارلوت برونتي، صاحبة رواية «جين إير» (1847)، وإميلي برونتي، صاحبة الرواية الساحرة «مرتفعات وذرينغ» (1847)، وآن برونتي، صاحبة رواية «مستأجر في وايلدفيلد» ( 1848)، وفكّرت ملياً بالعلاقة الأدبية التي جمعت الشقيقات الثلاث، وساهمت في بلورة وعيهن الروائي. وقلت في نفسي: ألم تقم خالدة سعيد بدور مماثل، هي الملهِمة والمكتشِفة لموهبة شقيقتها، سنية، والناقدة الأولى لقصائدها، التي اعترف الجميع بتميّز صوتها الشعري وأصالته.

حين غادرتُ منزل أدونيس، وودّعتُ خالدة سعيد، ظلت الأسئلة تتزاحم في رأسي، ورحت أتساءل: ألم يحن الوقت لأن تُكرّم هذه الناقدة المتميزة، التي لا تزال في قمة عطائها، وأن يُسلّط الضوء على منجزها النقدي والأدبي، وتُقرأ سيرتها في ضوء دورها الريادي، عبر تجربة أدبية مفصلية، امتدت أكثر من نصف قرن؟ ألم يحن الوقت لأن نعترف بإسهام خالدة سعيد، وحضورها وموهبتها وتفرّدها، بعيداً من شهرة زوجها أدونيس، والنظر إليها كاسمٍ إبداعي مضيء، له وقعُه وإيقاعُه في ثقافتنا الراهنة؟

عابد اسماعيل

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...