حنا مينه: هناك تركت نبض قلبي

22-06-2011

حنا مينه: هناك تركت نبض قلبي

شادٍ على الأيك غنّانا فأشجانا

تبارك الشعر ألحاناً وأوزانا ‏

ترنّم البان واخضلّت شمائلهُ ‏

فهل سقى الشعر من صحبائه البانا؟ ‏

وفي الجواب أقول: نعم! فالبان يخضل، في عقدة الزنار، حول خصر امرأة، شبيه بالخيزران، في ممشوق رهافته، واملوديّ إدلاله، رقة وعذوبة. ‏

إنني من هنا، من دمشق وطريقها المستقيم، ومن دمشق التي لها، في القدم السحيق، تاريخ تأبى على التأريخ، ولها في الإشعاع الإبداعي، منبر لا أعلى ولاأغلى، ولها، في سبق بناء الدولة، سبق في ذاكرة الزمان أبعث بتحياتي إلى السقيلبية وأهلها، ثم إن دمشق، كانت، وستبقى، قولة الأخطل الكبير، الفارس والمضمار، لأن أهلها «خير من ركب المطايا، وأندى العالمين بطون راح».
 
‏ نعم! من دمشق، في حسبها والنسب، أبعث، راكعاً على قدمي، تجلة واحتراماً، لتلك المرأة التي، في لباسها الأسود، ولسانها الطلق، وذاكرتها الألقة، أوقفتني على مدخل القاعة، في المدينة الحبيبة، لتنشدني، وأنا على العتبة، باقة من شعرها الدارج، العذب، المنضر، وسط دوي التصفيق، ونثار الزهور، والزغردات التي جن بها الإباء، وتقبلني في مفرق الشعر من الرأس، قائلة، كما لو أنني أتعمد في نهر الأردن المبارك: «أنت هو ابني الحبيب، الذي به سررت» فانحني، من تجلة، لأقبل يديها، وأنهض لألثم رأسها والوجنتين. ‏

من ذا الذي قال، إن محاضرتي، في البلاغة، كانت هي الأبلغ، في التعبير عن الذات، من بلاغة تلك السيدة ذات الثوب الأسود، التي في ردياتها، منوعة، منغمة، مموسقة، رفعت الكلمات صلاة من الأرض إلى السماء؟ ‏

طوبى لذكراك، أيتها التي، بكلماتك باركتني، وطوبى لك، أيتها السيدة المجللة بالسواد، من تقوى لامن حزن، اسمعتني «نشيد الإنشاد» كرمى محبة، وتقدير، ونعمى تأهيل، وتسهيل، نيابة عن كل من السقيلبية، من سمار وندمان، ومعذرة، سيدتي، إذا لم أحفظ اسمك، فأنا لا احفظ أسماء النساء، ولاأحمل في قلبي أو جيبي، قلماً، أو ورقة بيضاء، أو دفتر ذكريات، أو مذكرات بعد أن فعلت ذلك يوماً، ودفعت الثمن غالياً، في أسئلة من لاأهابهم، لكنني أعرف أساليبهم، في التواء القصد والنيات، وفي المحاولات السمجة، للسؤال عن هذا، أو تلك، وأنا أحمل أغلالي، في انتقالي من سجن إلى سجن، أيام الاحتلال الفرنسي، وعهود الاقطاع، وفي المنافي التي تهت بينها، قبل أن أسمع شعر عمر أبو ريشة: «أوقفي الركب يارمال البيد/ إنه تاه في مداك البعيد». ‏

إنني أدعي الصراحة كاملة، وماكان ادعائي أكذوبة يوماً، فالحديث الشريف يقول: «الكذب رأس المعاصي» وأنا أحفظ الحكمة القائلة: «إذا صدقنا بسرعة كل مانسمع، وجدنا الكذابين في كل مكان!» لكنني بقلب طيب، أدعُ بعض الأكاذيب تمر على جسري، من ضفة إلى أخرى، متذكراً أبداً دهاء معاوية، الذي قال له أحد وزرائه، بصراحة وجرأة، وهو في مجلسه المعتاد «لقد خدعوك ياأمير المؤمنين» فأجابه مبتسماً: «نحن، أيها الوزير، نريد أن نخدع أحياناً!» والخديعة، في الحرب جائزة، وجائزة أيضاً، في مقاومة العدوان، كما في فلسطين والعراق، حيث تتضرى المعارك هناك. ‏

ولئن كنت مدعياً، معتدا، فذلك من بعض الشيم في طبعي، ومن بعض الجنون في سلوكي، وبعض العنفوان في الصمود للخوف، إذا ماكان، في أيما موقف، وهذا الصمود للخوف هو الشجاعة في تعريفي، وقد خفت، مع رجوة أن يكون خوفي في غير محله، أن تصعد السيدة المجلببة بالسواد، إلى المنبر الذي أقف عليه، وأن تحاورني شعراً فتهزمني، ويبوخ قولي، مهما يكن أنِقاً، أمام ماتحفظ من شعر دارج، وأمثال، ورديات، سمعت بعضها، قبل أن أتخطى عتبة قاعة المحاضرات! ‏

إلا أن السيدة المفوهة لم تفعلها، ولم أقع لها على أثر بعد ذلك، فقد زفتني، أنا العجوز، زفافاً لائقاً، وعقدت قراني على امرأة مجهولة، وبذلك، كما أقدّر، انتهت مهمتها، فارتفعت إلى أعلى، وصارت، في السحب البيض، سحابة بيضاء، وكان تكريمها، على طريقتها المفضلة، تكريماً لي، نيابة عن جميع من أحببتهم وأحبوني، بإخلاص لازوغ فيه، وصدق صدوق لاكذب فيه ولارياء، وهذا ماأدهشني حقاً ولايزال. ‏

إن قصتي مع السقيلبية، قصة تروى.. فقد دعوني، قبل سنوات طولٍ، لزيارة هذه البلدة الجميلة، فلم أزرها، وبعد عام أو عامين، كرروا الدعوة، فلم ألبها أيضاً، وبعد مدة غير قصيرة، جاءني بريدياً، إلى وزارة الثقافة، مغلف كبير، تريثت في فتحه حتى الانتهاء من بعض أعمالي المستعجلة، وعندما فتحت المغلف خجلت من نفسي.. كان المغلف يحتوي على عريضة، وقعها الكثرة من أهالي السقيلبية، والمعنى، فيها واضح: إذا كنت لاتأتي بدعوة، فـ «شرّف» وتعال بعريضة، وطبعاً لم «أتشرف» وأذهب حتى بالعريضة، إلى أن كان هذا العام، وتجددت الدعوة، فذهبت، مع مدير أعمالي جورج اسبر، في سيارة خاصة، يقودها أحد المحامين، أرسلت من السقيلبية إلى دمشق، لنقل «جنابي» إلى البلدة التي سأدهش، من الاستقبال الحافل الذي أعد لي، من كرام رجال وسيدات أهلها، ومن أطفالها الذين يحملون الزهور، بينما أجراس الكنائس تقرع، والورود تهدى والأرز ينثر، على «السلطان عبد الحميد» الذي هو أنا، وهذا السلطان، لايعرف، إلى الآن، كيف يجزي على الجميل جميلاً. ‏

حنا مينه

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...