حمَّى الدورات التعليمية، هل صار العلاج مستحيلاً؟

30-09-2008

حمَّى الدورات التعليمية، هل صار العلاج مستحيلاً؟

الجمل - نجيب كيالي: مع بدء العام الدراسي 2008/ 2009، خطر لي أن أعود إلى إحدى مشكلاتنا التعليمية التي تسبب لنا صداعاً لا ينفع معه الإسبرين، وهي: الدورات التعليمية.
وقد سألتُ نفسي وأنا أضع العنوان لهذه المقالة: لماذا استعملتُ فيه كلمة:(حمَّى)؟ ألا تكفينا حمى صراعات الديوك في المنطقة العربية؟ وحمى الأسعار؟ وحمى المسلسلات الرمضانية؟ ولكنْ.. ماذا أفعل أيها القارئ الكريم إذا لم أجد كلمةً أفضل تصف حال الدورات التعليمية في بلدنا؟ الحريق يتصاعد من جلد الطالب، وأهله، وحتى من جلود المدرسين والمدرسات المشاركين والمشاركات في هذه الدورات، والكل يصرخ: ( نار) أو يكتمها في قلبه، فتظهر في عينيه!

معاناة الطالب:
صارت حياة الطالب والطالبة في ظل الدورات التعليمية تشبه حياة سيارات السرفيس التي تعمل داخل المدينة:(ذهاب وإياب/ إياب وذهاب)، ولو أنَّ الطالب له عجلات لكان عليه أن يبدِّلها كل شهرين مرة، ولو أنه يمشي على البنزين لنشَّفَ قسماً من مخزون المحطات! هذا السرفيس البشري الذي يعمل على خط: (بيت- دورة- مدرسة) وصل إلى مرحلة الملل والتنفيخ والفشفشة، ولو كان هذا الشيء الذي يسمونه:(التعليم) رجلاً لناوله رفسة على قفاه أو ضربة:(تاك وندو) في صدره. بعض الدورات يبدأ بعد صياح الديك بقليل، وبعضها ينتهي قبل صياحه بقليل، وهكذا فالطالب المسكين يعاني جوعاً مزمناً للنوم، وغالباً ما ينام على مقاعد المدرسة التي تحوَّلتْ إلى فنادق بلا نجوم ماعدا نجوم الظهر التي بات يراها في عملية التعليم كلها!
نعم.. علينا أن نعترف بأن التعليم في شكله الحالي:(مدرسة فوقها خمس..ست دورات) بات منفِّراً، وكيف لا ينفر الطالب من التعليم وهو يأتي إليه دون لياقة عقلية، دون صحصحة ليتمكن من الفهم والاستيعاب؟! كيف لا ينفر منه وقد ضاعت بسببه أوقات الفسحة والتسلية واللعب مع الرفاق؟ كيف لا ينفر وهو يحمل الكتب المدرسية والملخصات الخاصة بالدورات ليحرق بها نفسه كما تفعل ( أم لهب حمالة الحطب بزوجها)؟! كيف لا ينفر ويتأوه آهات معلنة ومكتومة، وهذه الحالة التعليمية تتعارض مع طبيعة عمره، تلك التي راعتها الدول المتقدمة، فجعلت التعليمَ فيها أنشطةً وفعاليات بالدرجة الأولى، بينما تقلصت في مدارسنا أكثر أنشطة التعليم التي تعتمد على جهود الطلبة، ولحق الشلل النصفي أو الكامل بالفعاليات المسرحية والأدبية والموسيقية، ولولا دفتر الغياب لترك طالبنا المدرسة حتى دون كلمة:( باي.. باي)!
معاناة الأهل:
تشكِّل هذه الدورات كارثة على أصحاب الدخل المحدود أو( المحلول) كما يصفه الموظفون والعمال ضاحكين من آلامهم، ففوق فواتير الماء، والكهرباء، والمرض، واللباس، والطعام تأتي هذه الفاتورة الجديدة التي لم تكن معروفة في بلدنا قبل عشرين سنة تقريباً. إنها شيء يشبه (عصَّة القبر) أو الذبح بسكين غير مسنونة، يصرخ المعيل أماً كان أو أباً: من أين؟! هل أعمل لصاً؟ مهرِّباً؟ شحاذاً ؟ خذوني إلى السوق بيعوني، وادفعوا للدورات، ولكنْ.. من يشتري رجلاً منخور العظم والجيب؟!
تتراوح فاتورة الدورة الواحدة ما بين: ( خمسة آلاف وثلاثة عشر ألفاً) في المدن الصغيرة، فإذا أخذنا متوسط الرقمين، وهو ثمانية آلاف، وضربناه في خمس.. عدد الدورات الأوسط التي يجريها طلاب الشهادات كان الناتج:( ثلاثين ألفاً) في عيون الشيطان، ولا ننسَ أن بعض الأسر لديها في الدورات ولدان أو ثلاثة.
ومن الملاحظ أن بعض الآباء والأمهات يظهرون ويظهرن في أواسط أعمارهم بوجوه شائخة، وثياب مهلهلة قريبة من ثياب الشحاذين، وهم الذين كانوا في شبابهم آية في الأناقة والذوق، وأحد أسباب ذلك يتصل بالفاتورة الجديدة المشار إليها.
ومع المشكلة المادية، تخلخل نظام الأسرة، فالأولاد قلما يجتمعون مع أمهم وأبيهم على مائدة واحدة أو بساط واحد ولو ساعة من زمن، وصار ينطبق على أسرنا- والحمد لله- قول ابن زيدون:
 أضحى التنائي بديلاً من تدانينا      وناب عن طيب لقيانا تجافينا
معاناة المدرسين والمدرسات:
قد يقول قائل: أي معاناة هذه التي ستتحدث عنها للمدرسين والمدرسات، والمعلمين والمعلمات. الجميع فرحون مفرفشون، فقد وجدوا فرجاً بعد ضائقتهم المالية، وبعد أن كانت جيوبهم مملوءةً بالفواتير غير المدفوعة صارت مملوءة بنقود الطلاب، ولم يعودوا يخافون من المرور أمام البقال، والقصاب، وكيف يخافون؟! ودخل الواحد منهم من هذا الباب الجديد يتراوح ما بين (مئة ألف ومليوني ليرة سورية في السنة)!
وجواباً للقائل الكريم أقول: هذا صحيح في الظاهر، ولكنْ.. انظر في العمق تجد ما يلي: تعاني الشريحة المذكورة من الإرهاق المزمن نتيجة العمل الذي يفوق طاقة الإنسان العادي، وينعكس ذلك في إهمالٍ قد يكون منقطعَ النظير لحياتهم الاجتماعية، والشخصية وحتى رعايتهم لشؤون بيوتهم وأولادهم، ونسمع في هذا السياق حوادثَ عجيبة غريبة، من أطرفها أن زوجة مدرس اتصلتْ به وهو منخرط في دوراته المتواصلة لتبلغه أن منزله يحترق، فردَّ غاضباً: وهل عندي إطفائية؟! اتصلي بالإطفاء، ودبِّري رأسك.
ومن معاناة هؤلاء الغيرة والتحاسد فيما بينهم، ووضع الاستراتيجيات والعناية بكل أنواع التكتيكات التي من شأنها جذب الطلاب والطالبات إليهم، وقد تدخل في تكتيكات بعضهم وسائل الفتنة، والحيلة، والسمسرة، والتهديدات المتبادلة حتى سمعنا أكثر من مرة قائلاً يقول: العمى.. ماذا تركتم للمافيا؟!
ومن المضحك المبكي أن طائفة من المشتغلين في التكتكة وأساليب الإغواء أدخلتْ فنَّ التنجيم على مسألة التعليم، وصنعتْ منهما خلطة تفوق عجائبَ الدنيا الشهيرة.. تذيع المدرِّسة أو المدرِّس عبر قنواتهما الإعلامية الخاصة أنها تعرف أو أنه يعرف الأسئلة المتوقعة، ونسبة التوقع تتجاوز التسعين في المئة، ومرة نجحتْ توقعات مدرس في إحدى المواد العلمية، فارتفع في نظر الطلاب السذج الراغبين في النجاح فقط إلى منزلة قريبة من النبوة، فجاؤوا إليه في العام التالي من كل حدب وصوب وبيت ومدرسة، دفعوا له بسخاء دمَ القلب وكلَّ ما في الجيب، لكن توقعاته خابت تماماً في تلك السنة، وكان عليه أن يتوارى من الطلبة الغاضبين ومن ذويهم مدة من الزمن!
أسباب المشكلة:
يمكن تلخيصها في ثلاثة:
1- الهشاشة في المرحلة التأسيسية من التعليم، وأعني بها (مرحلة التعليم الابتدائي حتى الصف السادس) كما كانت تسمى سابقاً. سفينة التعليم في هذه المرحلة يقودها رُبان من المعلمين والمعلمات، شعار أكثرهم( العونطة) التي يلخصها القول الشائع بينهم:(غيِّبْ شموس واقبضْ فلوس)، وهكذا يصل الطفل إلى الصف السابع وهو يكاد لا يعرف الخمسة من الطمسة، ولا يميز بين حرف النون وصحن المهلبية! وفي الصف السابع دروس جديدة وجدية في اللغة العربية، والرياضيات، والعلوم، والمواد الأخرى، وأمامها يقف الطالب غير المعدّ كالأطرش في الزفة، مما يضطر ذويه إلى اللجوء إلى الدورات لتعويض النقص. 
2- التغيير المفاجئ غير المدروس للمناهج، ولا سيما في المواد العلمية، وبشكل لا يلائم التحصيل السابق للطالب مما يجعله يشعر أنه أمام عملية انقلابية محيرة يطير بسببها ما تبقى من براغي عقله، مثال ذلك تبديل الرموز في مادة الرياضيات من العربي إلى الأجنبي في المرحلة الثانوية، وثمة لغط بأنها ستعود إلى العربي، أو لا تعود، والله أعلم أين ستستقر!
3- رفع درجات القبول في جامعاتنا رفعاً عالياً جداً حتى وصل إلى ما يقرب من الدرجة التامة في عدد من الفروع الجامعية، وكأن على طلبتنا أن يكونوا في امتحاناتهم ملائكة معصومين عن أي خطأ حتى يدخلوا كليات الطب والهندسة!!
ولعل أخطر ما في هذه المشكلة أن التعليم نفسه لم يعد بخير. صحيح أن كثيراً من طالباتنا وطلابنا يحصلون على درجات شبه تامة في شهاداتهم، ويقيمون بمناسبة النجاح حفلات طنانة ورنانة، ولكنهم – مع الأسف- لا يتعلمون إلا القليل، فمقياس التعليم السليم هو ما ينتج عنه من تغيُّر في السلوك العقلي والاجتماعي ليكون في النهاية نافعاً في تقدم الحياة والوطن، وهذا مقياس لا يعتمده أحد لدينا. إن وسيلتنا هي البصم والتبصيم، ومقياسنا هو وثيقة النجاح، والنجاح عندنا يتم بالاعتماد على ما يُعرَف علمياً بـ (ذاكرة الامتحان)، وهذه تتكون بفعل التعليم التلقيني، وعمرها شهران أو ثلاثة، ثم تفرغ من محتوياتها كما يفرغ البالون من الهواء، والطالب المرهق بين الدورات والمدرسة يسهم في التخلص سريعاً من هذه الذاكرة، ويقيم عيداً لذلك يسميه الطلاب فيما بينهم:( عيد الشَّلف)، فما إن ينتهي الامتحان حتى يتباروا في قذف الكتب وملخصات الدورات إلى حاويات القمامة، فنراها تشكل هناك جثثاً من الورق تعطينا صورة صادقة عن حالة التعليم كلها.
العلاج:
ليس الهدف من هذه المقالة البحث عن متهم لتحميله مسؤولية هذه المشكلة، فالاتهامات أمر مجاني وتافه وضار، لأنه يجعل كل جهة بدلاً من التفتيش عن حل تفتش عن مهرب مما ينسب إليها. إن الهدف هو العلاج، لكن أكثر الناس عندما يسمعون بهذه المشكلة يردُّون بجملة تقطر يأساً:(فالج لا تعالج)، غير أنني أختلف مع هؤلاء، فالحل ما زال ممكناً إذا توفرت النوايا الطيبة، وإرادة العمل التي تحوِّل النوايا إلى أفعال ملموسة، وأظن بأن قطاع التربية- وهو القطاع الرائد عقلياً وتربوياً في المجتمع- لا يقبل، ولا يجوز أن يقبل بأن يرفع الراية البيضاء أمام هذه المشكلة، وقد اتضح أنها وضعت التعليمَ كلَّه على كف عفريت.
ليس في جعبتي علاج جاهز، ولا أظن أنه موجود في درج مسؤول، ولا في الصيدلية، كما أن اللجوء إلى بعض العلاجات السابقة كمحاولة منع المدرسين من إقامة الدورات غير نافع، إذ أنه سيفتح لهذه الدورات سوقَ تهريب خاصاً بها، كما أن المدرسين وإن غضبنا من بعض تصرفاتهم ومظاهر طمعهم، ليسوا - في الحقيقة- سبب المشكلة، وإنما تقع جملة تصرفاتهم ضمن إفرازاتها، ويمكن أن نفهم أن أكثر ما يقومون به هو هروب من شبح الفقر الذي حاصرهم طويلاً، فراحوا يقاتلونه عندما واتتهم الفرصة بوسائل مشروعة وغير مشروعة.
  إن العلاج يتطلب فهمَ خصوصية هذه المسألة لدينا، والإكثارَ من طرح الأسئلة حولها، ومن الأسئلة النافعة:
* لماذا فرَّختْ هذه الدورات وباضت في سورية وفي بعض الدول العربية، وليس لها مثيل في دول عدد طلابها يفوق ما هو عندنا بمئات الأضعاف كالصين مثلاً؟!
* ماذا نفعل إذا رفعنا درجة القبول في كلية الطب مثلاً إلى الدرجة التامة(240 من240)، وكان لدينا من الطالبات والطلاب الحاصلين عليها أعداد أكبر بكثير من طاقة الاستيعاب في كلياتنا؟ هل سننتقي حاجتنا من هؤلاء حسب طول القامة ولون العيون وتسريحة الشعر؟ أم أننا سنلجأ رغماً عنا إلى وسائل تكشف عن الأصلح منهم للطب كالاستعانة بفحص المقابلة، أو اختبارٍ ما  يكشف عن ميولهم وطاقاتهم؟ لماذا لا نطبق مسألة( الميول) هذه أو سواها منذ الآن؟! 
أخيراً.. إنَّ الريح تهب على بيتنا التعليمي تنفخ وتصفر وتأتي بالغبار، فهل يجوز أن نختبئ في قرنة البيت؟ أو نقول: نحن بخير، ونسرع لنغني المواويل؟!


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...