النهضة العربية والغرب: بدأ الحل بالاقتباس وانتهى بالاستعمار

28-02-2009

النهضة العربية والغرب: بدأ الحل بالاقتباس وانتهى بالاستعمار

على رغم التنوع في تحديد مرجعيات خطاب النهضة، فإن القول بأن الإصلاح والتجديد كانا كلاهما من خيرات الغرب المتحضر، أو جاءا من أجل الإحياء الإسلامي، ومن داخل عالم الإسلام، أو نتيجة للتحدي الغربي، ليس دقيقاً بالمعنى العام، فربما تكون النهضة استجابة لكل ذلك. وهنا نجد من يفرق بين عرب إصلاحيين وعرب نهضويين وذلك على أساس البيئة الثقافية أو المشروع السياسي الحامل أو الراعي لفكرهم، ثمّ انعكس ذلك على العقليات وأوجد بينها تمايزاً واضحاً، وهذا ما يقوله عزيز العظمة الذي يرى أن تزامن رفاعة الطهطاوي وبطرس البستاني (ت: 1819م) مَثّل ظاهرة مستمرة في التاريخ. ونتج من ذاك التمايز فكر الطهطاوي الذي كان برعاية محمد علي باشا ومشاريعه الإصلاحية التي لم تنطوِ على تحديث الهيئة الاجتماعية، وهناك فكر بطرس البستاني الذي انتمى إلى عالم آخر إذ كان - بحسب رأي العظمة - نتاجاً للإصلاحات العثمانية التحديثية في القرن التاسع عشر، وتأهل في ما بعد للانخراط في المعارف العلمية والتاريخية الحديثة بقصد إنهاض مجتمعه.
احتُفي بدور الغرب كثيراً في النهضة العربية، وهنا يمضي كمال عبداللطيف في كتابه «أسئلة النهضة» إلى ذلك، فهو وإنْ اعترف بحركة سياسية عربية تبلورت في العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر نتيجة تطور داخلي، إلا أنه يرى أن الحضور الغربي والوافد هو الذي يقف وراء الحركة التي حصلت في تلك الحقبة. وهو بذلك لا يخرج عن آراء غيره من الذين يعدُّون صحوة العرب نتيجة منطقية للقاء مع الغرب المتمدن، وهي نتيجة تتكرر لدى الكثير ممن درسوا حقبة النهضة العربية.
ومع أن الحديث عن حداثة أو عصرنة أو نهضة أو إصلاح رتب وفق زمان عربي كان قابلاً للبحث عن سؤال التقدم، إلا أن ذاك التقدم لم يكن متصوراً من دون الاختلاط أو الاقتباس من الغرب، فقد ذهب رفاعة الطهطاوي إلى أن «مخالطة الأغراب لا سيما ذوي الألباب تجاب للأوطان من المنافع العمومية العجب العجاب»، وكذلك الحال مع خير الدين التونسي الذي تساءل قائلا: «هل يمكننا اليوم الحصول على الاستعداد الحربي اللازم لدفع خطر أوروبا... من دون تقدم في المعارف وأسباب العمران المشاهد عند غيرنا؟».
لم يكن الاقتباس مجرد هاجس عند رفاعة الطهطاوي بل هداه للمطالبة بالدعوة الى حكم مُقيد بالدستور، وتباعد بين الدين والدولة على النحو الغربي، والحال ليست مختلفة كثيراً عنها في تجربة خير الدين التونسي الذي خرج من عباءة باي تونس كما خرج الطهطاوي من معطف الضابط البلقاني محمد علي باشا، ليجد نفسه - التونسي - مدعواً لدى السلطان العثماني ويشغل موقعاً رسمياً في ما بعد خلال بقائه في الأستانة، وما بين الرجلين صديق لخير الدين التونسي هو الشيخ أحمد ابن أبي الضياف الذي زار باريس أيضاً عام 1848 برفقة الباي احمد حاكم تونس. هذه الثلاثية الإصلاحية التونسية المصرية - الطهطاوي وخير الدين وابن أبي الضياف - والتي زارت كلها باريس مارست مجتمعة محاولة التقريب بين منجز الغرب في إدارة الدولة ونقله إلى المحيط العربي في محاولة الوصول لدولة القانون.
وهنا يرى وفيق رؤوف في كتابه «إشكالية النهوض العربي من التردي إلى التحدي» أن تلك الدعوة كانت نتاجاً لواقعة أدب السفارات والزيارات التي وجدت في باريس والغرب معاً بداية الحل والنهاية في آن، الحل لأنها كانت مدركة للعجز البالغ في الواقع العربي، والنهاية لأنها اصطدمت في ما بعد بقوى معارضة لأي تدخل غربي، وما بين اللحظتين كان جمال الدين الأفغاني بما ترك من أثر في مصر والأستانة يدافع عن الرابطة الإسلامية، ثم نجده يعارض أرنست رينان ويدخل معه في معركة الردود الفكرية للاستدلال على قدرات العرب وإنجازهم في الفلسفة والعلوم وفي الوقت نفسه يتساءل عن دور الإسلام في أزمة المسلمين!
لا حاجة لاستعادة سيرة الأفغاني، أما آرنست رينان (1823-1890) فيجب التذكير بأنه نشأ يتيماً وتعلم دينياً ليغدو رجل دين، وتابع دراسته في كنيسة القديس نيقولا دي شاردونيه، ثم قرأ وكتب وألف الكثير من الكتب منها: «مذكرات الطفولة والشباب» وكتاب «مستقبل العلم» ودرس الأديان واللغات السماوية، ودرس في الكوليج دي فرانس وكان يشغل منصب أستاذ كرسي اللغات السامية. ونشر كتاباً عن الإصلاح الأخلاقي وكتب رسالة عن «الإسلام والعلم»، وهذه الأخيرة كانت في الأصل مناظرة جرت بينه وبين جمال الدين الأفغاني في جامعة السوربون.
 نشرت مجلة «الجورنال دي دبا» journal des Debats بتاريخ 18/5/1883، المناظرة وأشار عزيز العظمة - في كتابه عن العلمانية - في معرض قراءته لها الى أن الأفغاني أراد أن يجعل من نفسه محامياً للشرق، في الوقت الذي كان يعي حدود المسافة الفاصلة بين الدين والعقل.
كان الأفغاني يحاول الدفاع عن دور العرب في مجال الفلسفة في مقابل مقولة رينان بتخلف العرب الفطري، وتضمنت ردود الأفغاني دفاعاً عن مساهمة الساميين في العلوم والفلسفة، وانتهى الأفغاني إلى القول بأن: «كل الأديان ضيقة الصدر تجاه العلوم، وأنه ليس ما يمنع المسلمين من التقدم على رغم الإسلام...كان هو المسؤول عن تدهور حضارة العرب وكان الحليف الأكبر للاستبداد».
حمل العدد الرقم 87 من مجلة «وجهات نظر» المصرية لعام 2006 مراجعة لفكرة المناظرة، وقاد الأمر إلى إعادة ترجمة نص الأفغاني ورده على مقولات رينان، وهي مسألة أثارت قديماً الكثير من النقاش، وليست أهمية الأمر في إساءات رينان إلى الإسلام وإنما تعود الأهمية إلى ما حفل به الرد من أفكار تتعارض والسمة السائدة عن فكر الأفغاني، وهنا يقرر مترجم الرد أن النص العربي الأصلي لم يُعثر عليه، وهو المفروض أن الأفغاني كتبه، وظل النص الموجود هو نص مجلة «دي باد» الفرنسية المشار إليه أعلاه.
ليس الهدف هنا استعادة نص المناظرة، بقدر ما هو محاولة للتأشير الى ردود الأفغاني وما يقرره من أسباب للتردي والتخلف والتي علقها على الإسلام. يحاول الأفغاني الدفاع عن منجز العربي وهو في المسألة الأولى التي تناقش وقوف الإسلام عقبة أمام العلوم ويتساءل هل هذه العقبة لن تختفي ذات يوم؟ كما يرى أن كل الأديان متعصبة ضد العلم، والخطير في مقولات الأفغاني ما نصه: «في الحقيقة حاولت الديانة الإسلامية خنق العلم وإيقاف التقدم وعرقلة الحركة الفكرية وتحويل العقول من البحث في الحقيقة العلمية والمحاولة نفسها قامت بها المسيحية وما زال الرؤساء الأجلاء للكنيسة على حد علمي لم يردعوا بعد عن ذلك».
أما المسألة الثانية فهي الرد على مقولة رينان بتأخر العرب في ميدان العلوم، وراح الأفغاني يعرض مسيرة العلم عند العرب وهو يتساءل عن الكيفية التي جعلت الحضارة العربية تفقد بريقها ووهجها بعد أن كانت صاحبة إسهام كبير في تغيير العالم. ويسأل الأفغاني لماذا يبقى العالم العربي قابعاً في ظلال ظلمة كالحة.
وفي خلاصة البحث عن هذه المسألة يخلص الأفغاني إلى أن المسؤولية ملقاة على العقيدة الإسلامية مسؤولية كاملة، وهو يرى أن «كل إيمان يكون خلفه الدين فإنه لا محالة سوف يمحو الفلسفة».
إذاً، راح الأفغاني يسأل عن الذي يحدد تقدم الغرب، وعن الذي يدفعنا نحو الظلام والاستبداد، والأفغاني الذي عاش ظلال المحاولة العلوية في بناء الدولة الحديثة - نسبة لمحمد علي باشا - كان يحاول أيضاً البحث عن البديل.
لقد وجدت أفكار الأفغاني آذاناً صاغية في مصر أكثر مما وجدت في بلده الأصلي، وهذا ما حدث مع داعية مناهضة الاستبداد الشيخ الكواكبي، وحين نقرأ حالة احمد لطفي السيد الذي كان يدعو الى الأخذ بالتقنية الغربية منذ زار الغرب وحلّ في جنيف فإنه لما عاد تغير وأصبح عشية الحرب العالمية الأولى مشرفاً على جريدة الحزب الوطني في مصر. ومع فروق الأزمنة والخطابات بين النماذج المشار إليها إلا أنها تجسد ثلاثة نماذج ما زالت حاضرة حتى اليوم في الدولة العربية المعاصرة.
في كتابه «الايدولوجيا العربية المعاصرة» يرى عبدالله العروي أن تعايش مختلف أنواع الوعي في الدولة نفسها هو شيء لا جدال فيه، ولكن التعاقب التاريخي هو الذي يعطي كل وعي منها وزنه النوعي.
إن القول اليوم بأن وعي الشيخ والليبرالي وداعية الأخذ بالتقنية غير موجود في اللحظة المعاصرة عربياً يمكن اعتباره نوعاً من النفي المتلطف لمقولة أننا تغيرنا، غير أن الجراحة الفاحصة تؤكد اليوم استمرار هذا الوعي الثلاثي، فالوعي المشيخي ما زال موجوداً، والليبراليون العرب دخلوا في حال جديدة من العلاقة من الأنظمة السائدة ودعاة النسخة الغربية من التقانة مؤثرون في شكل أو في آخر لدى مؤسسات الدولة وبخاصة في مناهج التربية وأساليب التدريس، ولكل منهم وزنه لكن لا أحد يقوى على القول بما قاله الأفغاني قبل قرن ونصف قرن تقريباً.
قادت الشراسة الفكرية في الهجوم على الإسلام والعرب إلى حال إرباك، وهذه الحال التي غابت في لحظات تأجج الصراع مع الغرب باتت اليوم مطروحة في سياق البحث عن بديل لخيارات الدولة المهترئة، ليعود السؤال من جديد ما هو شكل الدولة المنشودة؟ فهل هي دولة دينية تحقق شعار الإسلام هو الحل، أم هي دولة قومية الأيديولوجيا ثبت فشلها، أم عسكرية تبين عجزها؟
بعد أربعة عقود على أهوال هزيمة العرب عام 1967 وهي عقود أكدت فشل الانتفاع العربي من الليبرالية الغربية، فإن نداء الاستغاثة يكاد يعاود الكرة مرة أخرى في ظل واقع مفكك للدولة العربية، وبخاصة بعد غزو العراق واحتلاله وبعد أن فشلت كل محاولات الثورة والتغيير والإصلاح في إحلال مشهد أفضل.
إن النظر للواقع العربي منذ تجربة محمد علي باشا ومن ثم ثورة عرابي في الثمانينات من القرن التاسع عشر ثم في ثورة 1919 وبعدها ثورة 1952 وما جاءت به كل أطلال الهزائم المتكررة عربياً وصولاً إلى ما بعد العراق 2003 وليس انتهاء بحرب تموز (يوليو) 2006 يؤكد أن سلسلة الثورات والحروب والهزائم لم تقد إلى ولادة الدولة المضادة للموجود والسائد، كما تؤكد مسيرة الفكر العربي أن الشيخ المعمم كرفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وغيرهما أفشل دعوتهما الغرب حين حل مستعمراً، كما أن داعية التقنية خسر دعوته مقابل الحروب التي لم تأت إلا بالعسكر للحكم، وأما الليبرالي فقد صُدت دعوته بجدار الإسلام هو الحل.

مهند مبيضن

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...