الكتابة النقدية تخترق الزمن الصحافي اليومي

30-04-2011

الكتابة النقدية تخترق الزمن الصحافي اليومي

كلما أعاد الشاعر والناقد اسكندر حبش نشر مقالاته الصحافية في كتاب ("حيوات ميتافيزيقية، حيوات تاريخية ـ قراءات في روايات معاصرة"، عن الدارالعربية للعلوم ناشرون") حيث يعيد جمعها وتنسيقها وترتيبها، يتبادر إلى ذهني سؤال وجيه، وهو، ماذا لو لم يفكر يوما ً في الاحتفاظ بما ينشره في الصفحات اليومية؟ الجواب هو أني كلما عدت وقرأت مقالاته في كتاب جامع كهذا، أنتبه الى أن ما نكتبه على مدى سنوات يوما ً بعد يوم، قد لا يمّحى بمجرد أن نطوي جريدة الساعة، لسبب بسيط، وهو أن الكتابة السابقة هي دائما ً امتداد حيوي لكل كتابة لاحقة، هي تعبيرعن فكرٍ وفكرة ومجهود ٍ في قراءة الآخرين. العمل الذي يقدمه لنا من مقالات في هذه المجموعة، هوعمل بعيد كل البعد عن الذاتية، هو رغبة في جمع تعب سنوات عبر صفحات قد يأكلها الوقت والنسيان في الأرشيفات. هوعمل مفيد قبل كل شيء، إذ يقدم للقارئ ما قدمه أصلا ً للكاتب الذي تناوله حبش، ليعيد الصلة بينهما، الصلة الثقافية، كون العمل امتدادا ً لما صنعه وكتب عنه حبش، امتدادا ً لما اكتشفه عبر قراءاته المتنوعة وكلها مراجعات توازي عمق النصوص التي يتكلم عنها. وبهذا المعنى يقول حبش في مقدمة هذا العمل، وهو يتكلم على السبب أو الهدف الذي جعله ينشر الكتاب، إنه "لا أعرف إن كان الكتاب هذا ـ حيوات ميتافيزيكية، حيوات تاريخية ـ يشكل جزءا ً آخر من كتابين سابقين لي... لكن كل ما أعرفه انه امتداد لهما...". ما يكتبه اسكندر حبش من مقالات صحفية هو امتداد للكتب التي قرأها وامتداد ٌ لما يتكون من أفكار وملاحظات (في مراجعاته) لتصبح صورة عاكسة لما يأتي في كتب الآخرين، وهكذا تكون وجهة نظره مسلطة الضوء على ما قرأه ومن ثم تبدأ عملية التبادل والتفاعل الثقافيين بينه وبين كل قارئ عبر وساطة الكتّاب الذين تناولهم.
هذا التفاعل أوّله اكتشاف، أوله عملية تجاوب وبحث ولقاء مع الأفكار والحبكات واللغات. وفي كل كتاب يقع حبش على لغة جديدة، على أسلوب مختلف، على نمط مغاير، فيحثه ولا شك على التفاعل معه في كل مرة بطريقة مختلفة أيضا ً وضمن مراجعاته.
يقول حبش في مستهل مجموعته "هي متابعات للأدب الأجنبي ـ الرواية منها بخاصة ـ الذي كان يأخذني (ولا يزال) إلى أماكن قصية، لا في الجغرافيا وحسب، بل أيضا ً في رحلة عبر الأساليب والمناخات والفضاءات المتنوعة...". وإذا كان لكل أديب أسلوبه ومناخه الخاصان في تركيب روايته، فللناقد أسلوبه الخاص أيضا ً في تمكنه من القفز من رواية إلى أخرى، من لغة إلى أخرى، من أسلوب إلى آخر، بمهارة واعية ومتمرسة، بحيث أننا نقرأ مقالاته متنقلين بين الصفحات دون أي إحساس بأنه يتكرر.
هنا تكمن أهمية هذه القراءة، التي بدورها تصبح خلّاقة، وأشير إلى ذلك كوني أخذت أتصفح المجموعة، قائلة لنفسي إنه سبق لي أن قرأت هذه المقالات قبل اليوم، في صفحة "السفير" الثقافية. لكن انجذابا ً ما أخذني إلى هذه الصفحات إذ ما إن وقع اختياري على أديب من الأدباء الذين جمعهم حبش في هذا المؤلف، حتى رأيتني مشدودة إلى الأسطر التالية وهكذا دواليك حتى نهاية المقال، وكأني أكتشف هذه الكتابات النقدية للمرة الأولى. من هنا اقتناعي بأن إعادة نشر هذه المواد لهي بمثابة إعادة كتابتها من قبل حبش واكتشافها من قبل القارئ. ثم ألم يقل هو ذاته ما معناه إنه في بعض مقالاته أعاد صياغتها ليس من حيث تبديل الكلام إنما من حيث إعادة تركيبها وتنسيقها ضمن مادة واحدة (حول كاتب واحد) بعد ان كانت (المقالات) مبعثرة ومتفرقة (تلك التي كتبها سابقا ً)، بغية جعل القراءة متناغمة، غير مجزّأة وغير متناثرة، وهذا ما نقع عليه مثلا ً لا حصرا ً في كلامه عن أنطونيو تابوكي.
الكتابة الصحافية
ولم أكن فقط أمام اكتشاف جديد لمقالة كنت قد قرأتها من قبل، إنما أيضا ً اكتشفت قدرة الكتابة الصحافية النقدية على اختراق الزمن الصحافي اليومي نحو آفاق قد تكون "لا زمنية" من حيث صمودها أمام الاهتراء بفعل الوقت وما شابه. وهل قرأتُ كل مقالاته ساعة صدورها في صفحة الجريدة اليومية؟! طبعا ً من غير المعقول أن يتمكن أي قارئ من استيعاب كل المراجعات اليومية لأسباب ولأخرى، ومنفعة هذه المجموعة، أنها تعيد إلينا ما فاتنا صدفة وسهوا ً من ناحية. ومن ناحية أخرى، هل قرأنا كل الكتب التي كان تناولها حبش؟! كذلك لا، فمن المستحيل أن نكون جميعنا قرأنا الأعمال ذاتها وفي الوقت ذاته. لذا تكمن منفعة هذا الكتاب الثانية في أنه (الكتاب) يحثنا على اكتشاف وقراءة كتّاب لم نسمع بهم من قبل، والمعروف عند اسكندر حبش إنه يبرع في البحث دائما ً عن الجديد والمختلف، فلا يركن إلى كاتب واحد او اثنين، انما فضوله يدفعه الى الإتيان بكتاب من أنحاء العالم يعرّف بهم من باب التواصل الثقافي الأنقى.
وبهذا، لا يكون قد جعلنا نكتشف نحن فقط هذه العوالم الأدبية والجغرافية (ففي كل أدب جغرافيا جديدة وتاريخ جديد وما يتصل بهما من تفاصيل)، إنما هو كذلك وربما قبل سواه، يكتشف هذه العوالم التي يذهب اليها ككشاف أوليّ حيث تتكون المخيلة الثقافية ممتزجة بكل اللقاحات المفترضة والجميلة لدى كل اتصال وتواصل، الأمر الذي ينتج بالضرورة نوعا ً من إعادة تشكيل الفكر والتفكير، ومن هنا استعمال حبش كلمة "خرائطية" ، وقد عنى بها تلك الجغرافيا الأدبية التي تتسع وتغتني مع اتساع دائرة التنقيب والقراءة والترجمة والتعليق والمراجعة، وهو يقول "من هنا، لا بد لي من القول، إن المتابعات والقراءات هذه، تشكل بدورها سفرا ً في خريطة الرواية الأجنبية المعاصرة، لأكتشف هذه العوالم بدوري". لا بد ّ إذا ً من مكتشف، ولا شك في أن حبش تميّز بهذه الملامح، وهو الشاعر والمترجم والناقد، ويتمتع بالمثابرة، بحثا ً عن المزيد باستمرار، وعمّا يمكن ان يرسم علامة فارقة في الأدب العالمي.
أقول إنه ناقد وإنه يقدم لنا موادا ً نقدية عن اعمال اجنبية ابداعية، لكنه يقول في كلمة التمهيد "لا اكتب النقد بالمعنى الأكاديمي للكلمة. لم أكن مرة مشدودا ً اليه، بل تأخذني الكتابة المتفلتة من كل ضوابط... انه كتاب قراءات... كتاب متابعات، ولكنها متابعات تحاول ان تذهب الى الداخل أكثر... لا تقف عند حدود العرض المجرد، بل ترغب في أن تقدم لمحة اكبر عن سيرة الكاتب... لتقود إلى اطلالة شبه بانورامية".
النقد هو أيضا ً كذلك، كما يصفه اسكندر حبش، دون أن ننفي أهمية النقد الأكاديمي بالطبع، وبهذه الطريقة تدخلنا نصوص حبش النقدية إلى العوالم الأدبية العالمية، لتصنع هي بدورها(أعني مراجعات حبش)، خرائطية نقدية في القراءة، وقد أسميها قراءة جديدة، مليئة بحساسية مرهفة. انها مراجعات تذهب الى الداخل، لا بل الى العمق، الى تفاصيل مؤثرة، تدفع كل قارئ إلى الحماس إزاء الكاتب الذي يتناوله. الأحرى وكما يقولها هو، فهذه الكتابة التي يصفها بالمتفلتة من الضوابط، هي المادة التي تعيد اكتشاف أدواتها. لذا أرى فيها كتابة ابداعية بدورها تضاف الى الكتابة الإبداعية التي يتناولها هو.
يمكن القول إن هذا الكتاب بمثابة مروحة غنية ومتنوعة جدا ً من حيث تعدد الأدباء الذين تناولهم حبش من جهة، ومن جهة أخرى من حيث تناوله كل كاتب على حدة ليبدو عالما ً بذاته مكتمل متكامل والمهارة تكمن في كل مرة في أن الناقد يضيء على معظم الجوانب، لنكون إزاء كل فصل من هذه المجموعة وكأننا أمام بحث جديد لا يتكرر إنما يضيف. فمن تابوكي إلى عتيق رحيمي ومن انطونيش الى خالد الحسيني ومن بول اوستير إلى دو لوقا ومن دون ديليلو إلى دانتزيك، حيث كل واحد من أولئك يأتي في "خرائطية" نقدية مفيدة ورصينة وممتعة في آن، علما ً أن الكتاب قسّمه حبش إلى جزئين: "البورتريهات" و"الكتب".

صباح زوين

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...