الكاتب الاسباني انريكي فيلا ماتاس: ماذا يعني الوعي الكوميدي

30-11-2011

الكاتب الاسباني انريكي فيلا ماتاس: ماذا يعني الوعي الكوميدي

يرى الكتّاب أشياء أخرى لا نراها نحن، حيث إن رؤاهم الغريبة قد تكون مهلوسة كحال الكاتب التشيكي فرانز كافكا أو ضائعة (كفرجينيا وولف من خلال عدسة المصورة جيزيل فرويد) أو قد تحاكي الدواخل الإنسانية كما فعل الكاتب والمخرج المسرحي الايرلندي صاموئيل بيكيت.

أما نحن فنحلم من خلال عيونهم التي اشتهروا بها، خاصة عندما نقرأ آخر كتاب صدر للكاتب فيلاماتاس «تشيت بيكر يفكر في فنه», وبيكر هو موسيقي وعازف ترومبيت, ومغني جاز اشتهر في عشرينيات القرن الماضي. ‏

تبدأ الصفحة الأولى من الكتاب بصورة للكاتب في طفولته غارقاً في القراءة. ‏

كم كان يبلغ من العمر؟ ‏

تسع، عشر سنوات ؟ لكنه كان يرتدي ربطة عنق، ويبدو أنه يركز بجدية فيما يفعله، وتؤسر مباشرة بنظرته... لديه تحت مظهر حاجبيه الحادين تأثيرٌ كالتنويم المغناطيسي. عيون سوداء وكأنها ستثقب الصفحة من شدة حدتها. يقول فيلا ماتاس: «أجد نفسي جميلا في هذه الصورة.» ‏

التقيته في منزله في برشلونة, بالقرب من حدائق باولا مونتال. كان جالساً على أريكة حمراء، يتصفح مسودة الطباعة لكتابه باللغة الفرنسية. تحدثنا عن باريس, وعن الفترة التي قضاها هناك. ونعود من جديد إلى الصورة في الكتاب. ألا تلخص هذه الصورة كل شيء؟ ‏

هو، الذي عدّ منذ طفولته أن القراءة «جلسة مستمرة من المشاعر وأن الأدب قوة مخدرة؟ هو «انسان الكتاب»... لكن نحن ربما لم نصبح كذلك بعد. هو قال إنه يرى نفسه جميلاً، فقط. هل يمزح أم ماذا؟ من المستحيل أن نعلم مع فيلا ماتاس. ‏

الخطأ صواب أو الصواب خطأ، كله سواء. في الستينيات من القرن الماضي عندما كان فيلا ماتاس يعمل صحفياً، سخر كثيراً من لقاءاته الصحفية مع عدة شخصيات, كرودولف نورييف, وأنتوني بارغيس وباتريسيا هايسميث, يقول: «في النهاية كنت شديد الخوف من فضح نفسي, وبأني حتى أنا كنت لطردت نفسي من العمل». ‏

من خلال كتبه تلخيص لتاريخ الأدب الخفيف، بارتلبي وأصحابه (بارتلبي هو شخصية في رواية الكاتب الأمريكي هيرمان ميلفيل)، التضليل, معاناة مونتانو، نراه لا يزال يحاكي بسخرية مختلف أنماط كتاباته ويضع بعض الاستشهادات, ويناقض نفسه متعمداً, ويفصل بصرامة بين الخيال والتجربة، الواقع والحلم، الأنا والآخر. ‏

 يقول الكاتب: «أعرف أناساً لا يدعوك ترى سوى وجه واحد لهم. هؤلاء أكثر من أرتاب منهم. وفي يوم من الأيام يتضح لك أنهم ليسوا كما كنت تظنهم. وأقول إن العالم هو مسرحية, وجميعنا لديه عبارات ليقولها ودور ليلعبه. بعض الممثلين يدركون أنهم في عمل إبداعي, ويستمرون بلعب دورهم، بينما نجد آخرين وقد انفضح أمرهم, فيقعون في الخطأ ويحاولون ترك المنصة. ‏

لا يوجد شيء خارج المشهد. لا شيء لنعرضه. كل ما نستطيع عمله, هو أن نستمر بلعب أدوارنا، لكن ربما بوعي جديد، وعي كوميدي...» ‏

في كتابه تشيت بيكر...، فيلا ماتاس, كاتب يتساءل عن ماهية دوره، بكل بساطة، «مع هذا الوعي الكوميدي ذاته». ماذا يعني هذا؟ كيف يجب أن يكتب؟ بأسلوب جويس أم بـأسلوب سيمينون؟ ماذا ننتظر منه نحن اليوم؟ الأدب الواقعي أم التجريبي الراديكالي؟ أم أننا نتوقع شيئاً آخر؟. ربما هناك صلة ما بين أنواع الأدب القديمة, التي تصبح كما يقول «سهلة القراءة»، والأكثر حداثة, التي تفوق الإدراك الحسي للعالم, وهذا ما دفعه للتفكير بأن خيانة الممثل لحاجاته عند الضرورة تجعله سهل الفهم لعدد أكبر من الناس. ‏

بطريقة ما، يمكن لنا أن نلخص الكتاب كالتالي: أدخلنا فيلا ماتاس إلى غرفة فندق، أغلق الباب وأزال لافتة كتب عليها: «صل كي لا يتم إزعاجك»، ودعانا للقيام برحلة. هواة الإثارة يكملون طريقهم، وهناك آخرون يقدمون على هذه المغامرة, فقط لأنهم يجدون شيئاً من السحر في صور الفجر والليل, وكل ما هو غريب, فتصبح ذات قيمة. ‏

في البداية قد نحتار، حتى إن الكاتب يبدو لنا غير متأكد من الهدف الذي يصبو إليه. يرتجل، يخرج قليلاً عن المسار، يرجع بنا إلى الوراء, ويقودنا في خط متعرج, يمتزج بذكريات شخصية, ولمسات لشخصيات تمتاز بالتنوع... ومن ثم نراه يقف على قدميه. بما يخص فكرة السفر، هل يشبه جويس أم سيمينون؟ ‏

لسنا بحاجة لأن نشغل بالنا بالسؤال حتى نستمتع بالمناظر. فقد وقعنا تحت تأثير السحر منذ زمن طويل. البراعة والفكاهة والخبث. أرخينا يدينا وتركنا أنفسنا تؤخذ بهذا السحر، كما الوقوف فوق جبل عال, حيث الهواء العليل، ولكن مع الاقتراب من الحافة تبدو النهاية, القاع, أكثر إثارة من رغبتنا بالوصول إلى ملاذ. لأنه بوصولنا إلى هناك, سيكون كل شيء قد انتهى، ولا يوجد ما هو مؤكد، فقط الواقعية، مهما كان ما نصبو إليه, سواء كان «وحشياً، عنيفاً، صامتاً أو مجزأً, وخالياً من الدلائل». ‏

هناك نوعان من الكتب بالنسبة لانريكي فيلا ماتاس. منها ما يطغى عليها «نوع من التشويش غير المحبب, ويبقينا خارج المسرحية», ومنها ما «ينقلنا إلى السعادة» من دون أن نعلم لماذا. وهذه هي حال كتب فيلا ماتاس. حتى لو أن رحلته تدور في حلقة, وحتى لو أن طرقه لا تقود إلى مكان، نسعد دوماً بصدور كتاب لفيلا ماتاس. وعلى «موضوعاته المتقلبة» من أدبه، ننتهي بأن نصنع لأنفسنا عشاً في أعماله, حيث نجد السعادة. في الحقيقة، أصرّ الكاتب على الإشارة إلى أن مدينة توران في الكتاب, هي من محض خياله، وأنه رأى صورة واستلهم منها، هذا كل شيء. «وعندما ودعني أمام المصعد قال لي: كما قلت عن المسافر الحر أن يحوك موضوعه, أنت أيضاً لك كل الحرية بأن تروي لقاءنا بالطريقة التي تحب». ‏


ترجمة: ديالى غنم- عن صحيفة لوموند ‏

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...