الفم يعيد صياغة «الثقافة البديلة» في العولمة

31-03-2007

الفم يعيد صياغة «الثقافة البديلة» في العولمة

لنُنح الأطباق جانباً! تأكل الأنواع الحيّة لتعيش، أما البشر فإن علاقتهم بالطعام أكثر تطوراً. إذاً لنناقش ظلال المآكل؛ بمعنى الحديث عما يحمله الطعام من أخيلة وإشارات ورموز إلى انسان المجتمع المعاصر، حيث المأكل اليومي نقطة تقاطع لعلاقات البشر وتاريخها (وخصوصاً «ثنائية» ذكر – أنثى وامتداداتها)، ولتطور الكائن الانساني اجتماعياً وثقافياً ومعرفياً (وضمنها العلاقة التفاعلية بين الطعام وتطوّر الذكاء البشري، وكذلك علاقة الانسان بملذات الجسد وشهواته)، وكما الأمر مع السياسة وصراعاتها ومصالحها، وعلاقة البشر بالبيئة ومُكوّناتها، خصوصاً الثورة الصناعية وما تلاها، يُمكن البدء من نقطة ساخنة: التغيّر في النقاش في «الطعام العضوي». فعند اختتام القرن 20، ظهرت صورة ذلك الطعام باعتباره نقيض ما فعلته الصناعة بالطبيعة؛ ونقيض ما ينمو باستعمال وسائل صناعية، مثل المبيدات الحشرية (النبات)، والعلف الممزوج بالدهون والزيوت الصناعية الثقيلة (كحال بعض دجاج أوروبا)؛ والعلف الممزوج بالعظام المطحونة (الذي ارتبط بانتشار جنون البقر). وحاز الطعام العضوي صورة «البري»، ذلك الذي ازدرته عقلانية الحداثة وصناعاتها طويلاً، لكنه عاد ضمن تلاوين ما بعد الحداثة مثل عودة الطب البديل والعلاج بالأعشاب. وملأ «البري» أيضاً خيال مُناهضي العولمة ممن اعتبروه نقيضاً لأطعمة «الفاست فود» التي تُديرها الشركات العملاقة، خصوصاً الأميركية، على حساب صحة الناس، إضافة الى مصالح الشعوب النامية. في هذا السياق، حاز الطعام العضوي أيضاً صورة المُعبّر عن الهويات الوطنية والمحلية التي تُقاوم انسحاقها تحت ضغط الهوية الشاملة للعولمة المؤمركة. ولعل المرشح الرئاسي الفرنسي الفلاح جوزيه بوفيه من ممثلي ذلك الطعام.

وشرعت تلك الصورة بالتغيّر راهناً. إذ تنبهّت الشركات إلى الميل المتصاعد صوب الطعام العضوي، فتبنّته وأرخت قبضتها الثقيلة عليه. فمثلاً، أبرمت سلسلة السوبر ماركت الشهيرة «وول مارت» اتفاقات مع شركات غذاء كبرى تُقدّم أطعمة عضوية مستقدمة من دول عدّة. اعتبر كثيرون، مثل الأميركي غاري بول نبهن (مؤلف كتاب «العودة إلى المنزل وطعامه: ملذّات الأكل المحلي وسياساته»)، الأمر اختراقاً من الشركات الكُبرى لمساحة من «الثقافة البديلة» التي تُناهض سطوة تلك المؤسسات. وثار سؤال عن سيطرة الشركات العملاقة على الأطعمة العضوية، وكأنها تُجدّد فكرة القوى الاستعمارية القديمة بحيث تتصرف كمن يملك تفويضاً مُسبقاً (لم يتردد البعض في وصفه بـ»الإلهي») بالتصرف في ثروات الكون ومقدراته. وهكذا، دخل الفم في القرن 21 إلى حلبة الصراع المتشابك للسيطرة على الأرض ومواردها، ليجدّد نقاشاً أساسياً في خطوط «الاشتباك» بين الهويات، وربما ليحضّ مشارب في «الثقافة البديلة» على تجاوز ثنائية «وطني- معولم» التي تروق لكثيرين، مثل عالم الاجتماع الاميركي بنجامين باربر مؤلف الكتاب الشهير «عالم ماكدونالد في مواجهة الجهاد».

تعج النصوص الأسطورية والملحمية بالصور التي يتخللها شواء اللحم قرباناً أو احتفالاً بانتصار المُحاربين، أو حتى لاغوائهم واستثارة فحولتهم، كما في قصة «استير» في التوراة، وفي ملحمتي هوميروس عن حرب طروادة. وتبدو راسخة تلك الصورة النموذجية حيث الذكر المنتصر يحظى بالطعام ذي القيمة العالية: اللحم، الذي حاز خيالاً يربطه أيضاً بالفحولة الجنسية والقدرة على ايقاظ الشهوات.

وفي رمزية شفيفة، فإن اللحم أول الأطعمة الإيروسية. ومازالت قبائل كثيرة في بلاد العرب، تجعل الرجل- الأب على رأس المائدة؛ يأكل أولاً، ابتداء باللحم الذي يفترض به امداد فحولته بالقدرة على الاستمرار بالتكاثر المطلوب لإعلاء شأن القبيلة.

ولم يفت سيغموند فرويد التنظير للعلاقة بين الفم والجنس، ومدّها إلى الطعام. وسار بعض منظّري مدرسة التحليل النفسي لإدماجها مع تطورية تشارلز داروين. وشاعت صورة تُفسّر التطور التاريخي لثنائية ذكر - أنثى، مع أدوارهما الاجتماعية المختلفة، عبر تلك المقولات. وتقليداً، اعتقدت الداروينية بأن المزايا البيولوجية للذكر، مثل قوة العضلات وطول القامة وثقل الوزن، أناطت به دور الصياد - المقاتل، الذي يحمل السلاح ليوفر للقبائل طعامها، ويقاتل أعداءها.

عند عودته، يُكافأ الرحل بالشواء والجنس، فيما النساء هن للاعتناء بالسكن وإنجاب الأطفال وليكنّ محلاً لمتعة الذكور. عرفت تلك النظرية باسم «الغذاء مقابل الجنس». ولعل فيلم «ابوكاليبتو» (اخراج ميل غيبسون - 2006) ترداد لتلك النظرة. هل صنع اللحم صورة الذكر وقدّ جسده أم العكس؟

منذ أواسط سبعينات القرن 20، تعرضت نظرية «الغذاء مقابل الجنس» لنقد نسوي قوي. فمثلاً، أبرزت الباحثة الفرنسية كريستين دلفي أهمية أبحاث انثروبولوجية لأدريان زيهلمان ونانسي تيرنز، بيّنت أن أقوام بدائية كثيرة اعتمدت على الحبوب، التي شكّلت 70 في المئة من غذائها. وتولّت النساء شأن تلك الحبوب؛ ما يعني أن الرجال طالما اقتاتوا من أيدي النساء، وليس العكس! وعلى غرارها، سارت الأميركية سارة مانسون (1994)؛ وهي باحثة في علم تطور الانسان.

ودرست أطعمة ترجع الى الزمن الطبشوري في أوروبا الوسطى؛ فأيّدت بطلان مقولة «الغذاء مقابل الجنس» وذكوريتها المُفرطة. ومع الاستقرار المديد للمجتعات الزراعية، صارت مع الطبيعة قابلة للإنتاج الموسّع. كما بات اللحم متوافراً على نحو ثابت، وانتقل جزء منه الى أيدي النساء، خصوصاً عبر الدواجن.

وأدت الثورة الصناعية، وإعلاء قيم الاستهلاك، وارتفاع نسب تكاثر البشر إلى تزايد الحاجة الى لحوم الدواجن والأبقار. وعملت الصناعة والعلم على مكاثرتها بأساليب تُشبه التصنيع.

ثم أخلّ ذلك التدجين المُكثف ومزارعه بحياة المواشي. وشكّلت تلك المزارع منصات لانطلاق أوبئة على علاقة بالطعام، مثل الحمى القلاعية وجنون البقر وانفلونزا الطيور.

في أواسط القرن السادس عشر، بدت المآكل مُتشابهة بين الغرب والشرق الاسلامي للامبراطورية العثمانية. ثم حصل تغيير في أوروبا بالتزامن مع ظهور النظريات العلمية الكبرى التي بدّلت نظرة الانسان الى العالم. ففي القرن 16، صنع الطعام بحسب طب اليونان الذي نظر إلى الهضم كاستمرار للطهو، الذي يبدأ من حرارة الشمس التي تصل الى مكوّناته كلها، ثم تكمله حرارة النار في المطبخ، ثم تتولاه حرارة الجسم في المعدة. وزاد في التشابه أن العرب تبنوا أسس الطب اليوناني، خصوصاً نظرية الخلطات التي تظهر في كتابات ابن سينا والفارابي كما في مؤلف ابن حيّان «حي بن يقظان». ساد غرباً وشرقاً طعام قوامه العصائد التي تخلط الفواكه (التمر شرقاً والتفاح غرباً)، مع اللحم والحليب والسكر والمكسرات والبهارات.

انها خلطات السُكّر والملح والحامض والمرّ: المذاقات الرئيسة للسان البيولوجي. وحينها، ارتكز الطعام على فلسفة ارسطو عن الخلطات الأربعة الأساسية في الطبيعة (الماء والنار والهواء والتراب)، بحيث يكون الطعام المثالي أميل إلى الرطوبة والسخونة. والسبب؟ خلطات الطبيعة الأربعة لها ما يوازيها في الجسم الذي يتكوّن، بحسب أرسطو، من خلطات أربعة: الدم والبلغم والصفراء والسويداء. واستطراداً، يكون الجسد في ذروة قوته أيام الشباب، فيكون رطباً ودافئاً، ولذا، فإن الطعام المثالي يأتي دافئاً ولزِجاً، مثل العصيد.

بعد قرن، تفارق الشرق والغرب. غرباً، اختفت العصائد، ليظهر طعام يشبه ما يشيع راهناً. وسادت نظرة علمية ترى أن هضم الطعام يشبه عملية التخمير، التي تُمدّ الجسم بما يلزمه، قبل أن تلفظ بواقيها الى الخارج. ولذا، صار الأكل مُعتمداً على قوام من الدهن والملح والخضار، إضافة الى اللحم والخضر الطازجة، لأنها تُسرّع من عملية التخمير وتنقيها من الشوائب. وفي نقلة تاريخية، انفصل طعم السكر عن الأكل، وباتت الحلوى تُقدّم كأطباق منفصلة بعد الطعام، لتُسرّع في عملية التخمير. نشرت الثورات المتتالية في اوروبا، التي أشاعت مبدأ المُساواة، مآكل النبلاء وطعامهم الثقيل المفعم بالدهون واللحوم، في صفوف العامة. وربما فسّر ذلك جزئياً، ميل الطعام الغربي عموماً، وحتى الآن، الى اعطاء الدهن قسماً كبيراً من مُكوّناته. وربما لعب طعام القرن السابع عشر دوراً في انتشار البدانة راهناً.

في القرن العشرين، حدث تحوّل آخر في فهم الطعام الصحي، لكنه جرى في سرعة أكبر؛ وعبر سيل من التناقضات الهائلة، بما في ذلك صراع المصالح والدول والشركات. يصعب الحديث عن تلك الأمور كلها في مقال مفرد؛ لكن يمكن اعطاء نموذج عنها في التغيير السريع في هرم التغذية الذي يُشكّل تقاطعاً بين العلم والطعام.

فقبل اختتام القرن 20، انتشر هرم غذائي يُعلي من أهمية النشويات (مثل الخبز والرز والمعكرونة)، ويُحارب الدهون كافة، بما فيها الحيوانية المُشبعة، ويعتدل حيال البروتينات بأنواعها.

كما حمل أثر الاقتصاد الذي لم يعد باستطاعته تحمّل الأكلاف العالية للأمراض التي وصفت طويلاً بأنها أمراض الصناعة، مثل الضغط والسكري التي ربطت بالكولسترول. كانت الدولة تُعدّ نفسها لتقلص دورها المركزي بأثر من تسارع العولمة، ولم يعد في استطاعتها خصوصاً الرعاية من الأمراض التي تضرب جيوش الموظفين عند اقترابهم من التقاعد. وسعى ذلك الهرم الغذائي الى ايكال شأن مرض الجسد الى الأفراد. وشكل الأمر ابتعاداً من طعام زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي اعتمد مفهوم الوفرة، والطعام القوي، الموروث من القرن السابع عشر، إضافة الى حق الفم في التمتع بشهوات التدخين والشراب و...الجنس.

وحدث تحوّل هائل في الطب، الذي تحدث عن البدانة، للمرة الأولى، باعتبارها مرضاً الى حدّ الحديث عن «وباء السمنة»! وفي عام 2005، حدث تعديل جديد في الهرم الغذائي للمجتمعات الغربية المعاصرة، فبرزت ثلاثة أشياء لم تُلحظ سابقاً. أولها التشديد على نمط الحياة وأثره في الغذاء، ما يُقرّ بالتفاوتات الاجتماعية في صنع الجسد عبر مأكله. وكذلك سجّل الجسد النسوي صعوداً قوياً، إذ نال اعترافاً بتميّزه كلياً عن الذكور، في كمّ السعرات الحرارية، وفي تركيب الطعام اليومي. غذاء مختلف لجسد لم يعد يقبل منزلة التابع لجسد الذكر وذائقته. واعترف الغذاء أيضاً بالعمر، ما ينسجم مع اقرار علم الاجتماع الغربي بظاهرة «المجتمعات الرمادية»، أي بارتفاع نسبة أصحاب الشعور البيض في التركيب الاجتماعي.

لقد أهمل المقال أشياء كثيرة عن الأكل، مثل جسد العارضات والأنوركسيا وعلاقة الرياضة راهناً بجسد المرأة، وهول وقوع المجتمعات في قبضتي الميديا والعصر الرقمي، لكنها أمور تحتاج كلاماً كثيراً.

أحمد مغربي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...