الصحافة السورية واقع قلق.. وإرث هش.. وفساد منمّق

09-08-2008

الصحافة السورية واقع قلق.. وإرث هش.. وفساد منمّق

(من يعمل في مهنة الصحافة يقضي النصف الأول من حياته في البحث عما يجهل، والنصف الثاني في السكوت عما يعرف).

• كاتب ألماني ساخر

تاريخ الصحافة السورية عريق جداً، وهي من الأقدم في الشرق، فقد ظهرت أوائل الصحف في بعض مدننا في منتصف القرن التاسع عشر، ثم ما لبثت أن تبعتها المئات من الصحف والمجلات مع مرور السنوات والعقود والمراحل المختلفة..

فأثناء الحكم العربي ما بين عامي 1918-1920 صدرت في سورية أربع وخمسون دورية، أما في عهد الانتداب الفرنسي الذي دام 26 عاماَ فقد صدرت 183 دورية منها 114 في دمشق، أما بعد الاستقلال فقد حدد المرسوم التشريعي رقم 50 الصادر بتاريخ 17/10/1946 بأن تصدر الصحف السياسية بمعدل صحيفة واحدة لكل 50 ألف شخص. أما الآن، ونحن نمضي في القرن الحادي والعشرين، فحتى اللحظة لم يزل بسام ومحمد وفريال، يبحثون عن الاستكتاب المذل، من جريدة إلى أخرى، وما زالت ناديا تحلم بفضائية تضم موهبتها في الإلقاء، دون أن تقع فريسة من يريد تشغيلها، فقد منحها الله دون ذنب منها، وجهاً يثير شهوانية المتربعين قسراً على عرش الإعلام.

في حين يتصيد همام ووسام ونورا الفرص ليصيروا على الأقل اسماً يمكن أن يشتري منه أحد ما، في جريدة ما، ألفي كلمة مقابل 1500 ليرة سورية.

مهند المسكين يدور من فضائية إلى أخرى حاملاً صوته وحظه العاثر، السيرة الذاتية، الأعمال التي شارك بها، أعمال الدوبلاج التي نفذها. عندما حالفه الحظ عمل في محطة لم تكمل بثها، وأخرى لم يستطع تحمل نفسية صاحبها ومزاجه الناري، ومحطته التي تتحدث عن إنجازاتها وهي في مرحلة البث التجريبي.

هذا باختصار واقع الشريحة التي تخرجت من الجامعة، أو التي تمتلك الموهبة دون شرط أكاديمي، أما البقية التي تعمل بانتظام في القطاع العام الإعلامي (الإعلام الحكومي)، فتبدو للوهلة الأولى مستقرة الحال، ولكن الواقع يعكس غير ذلك.

من هنا يمكن أن نتحدث عن واقعين، الأول يتعلق بالصحيفة، والآخر بالصحفي.

- والتي تعرف بالصحافة الرسمية، الناطقة باسم الحكومة، والمنافح (غالباً) عن خطواتها والمُبارِكة لها، وإن كان لها في الآونة الأخيرة شرف محاولة نقد سياساتها في المجال الاقتصادي والاجتماعي، وتسليط الضوء على الأخطاء في الدوائر الحكومية الدنيا، وكان لبعضها شرف الإشارة إلى حالات كبرى من الفساد، إلا أنها تبقى دون شك، الناطق الرسمي بلسان حال الحكومة.

والصحف الرسمية الثلاث التي تصدر صباح كل يوم، يُجمِع أغلب السوريين على أنها تكاد  أن تكون نسخة واحدة عن بعضها، والسبب يعود إلى مركزية الإعلام الرسمي، واعتماده على مصدر أنباء واحد في أخباره، وخاصة السياسية منها، هي وكالة (سانا).

- في استعراض سريع لتاريخ الصحافة السورية الخاصة، وعلى الأقل منذ 20 عاماً، أي منذ أواسط الثمانينات لم تكن هناك صحيفة سورية واحدة يمتلكها مواطن سوري، السبب أن قانون المطبوعات في تلك الآونة كان يضع الصحافة في يد الحكومة فقط.

في تلكم الفترة كانت موضة الصحافة الخاصة الوافدة فقط. السوريون كانوا مستثمرين على المناسبة، لتلك الصحف التي يمتلكها لبناني أو سواه.

يذهب السوري إلى بيروت ويوقع عقد استثمار من اللبناني لمدة 99 سنة أي أنه يصبح بحكم المالك الرسمي، يبدأ العمل في سورية بعد أن يحصل على موافقة التداول في سورية، عن طريق وزارة الإعلام، أما الطريقة الثانية فكانت الحصول على تراخيص من صحف عربية كبرى تعيش في الخارج مثل اليونان وقبرص.

لكن ما الذي قدمته تلك الفترة من تاريخ الصحافة السورية الوافدة، (إن صحّ النسب)، للصحافة السورية وللمواطن السوري؟!

هذا النوع من الصحافة عاش على ابتزاز المؤسسات الرسمية، من وزارات وبلديات ومؤسسات، من باب الإعلان عن إنجازاتها، حيث يتصدر رئيس بلدية صدر صفحة ملونة وبمبلغ 20 ألف ليرة سورية، من ميزانية كان من المفترض أن تذهب إلى عمل خدمي للناس، هذه الصفحة التي تشيد بمهاراته في العمل، قد تصل إلى الجهات العليا التي ستبتسم له وتمدد ولايته.

الأسلوب الآخر الذي روجت له هو الاعتماد على التعاميم التي تصدر عن المحافظين، بالإعلان والاشتراك في هذه الصحف، التي عاشت وترعرعت على هذا الشكل لسنوات طويلة.

أما كيف كانت تدير العمل الإعلاني؟! فبكل بساطة كانت مجموعة من الفتيات الجميلات تشكلن في تلك الفترة نموذجاً كالنجوم، وتعرفن من أين تؤكل الكتف، ولم تزل بعضهن في العمل الصحفي حتى اليوم، مع اجتهاد في تغيير الأسلوب بعد دخول الصحافة الخاصة بشكل رسمي إلى السوق الإعلامية السورية.

أحد أقطاب الإعلان في تلك الفترة يمتلك مكتباً خلف مشفى المجتهد، على خصره مسدس وبين فخذيه ليتر ويسكي فاخر، وخمس فتيات في أول العمر، ينتشرن في الملاهي، من الربوة حيث صغار المطربين في (العراد) ومطعم القصر، إلى كازينوهات الغوطة، حيث السكارى ومطربي الأعراس. هكذا كان المذكور يدير الإعلانات لأغلب الصحف والمجلات الخاصة آنذاك، عمولة 25 % إذا تمكن صاحب المطبوعة من الحصول على الـ 75 % المتبقية مع المؤسسة العامة للإعلان.

أما كيف يتهرب المعلنون والصحيفة ومندوب الإعلان من دفع حصة مؤسسة الإعلان، فقد ظهر وعمم حتى تاريخه (الريبورتاج، اللقاء المعلن)، إعلان على صيغة المادة الصحفية، ليس إعلاناً فجاً.. وإنما يقبض ثمنه على كل حال.

- ما زالت الصحافة الخاصة تحبو على ركبتيها، فقط خانة الاستثمار في المجال الإعلامي، ما قاد إلى ظهور عشرات الصحف الخاصة المنوعة، وفي الغالب ما زالت رهينة التجربة السابقة، وتمارس الأساليب نفسها في التمويل، وكبار المستثمرين أرادوها صوتاً لهم، وهذا ما تؤكده النظرية الإعلامية التي تقول: (الإعلام صوت السيد)، والسيد هنا هو المالك.

من يدير العمل هو مجموعة الباحثين عن فرصة عمل، وهو ككل القطاع الخاص، يبحث عن الصحفي الذي يمكن أن يرضى بالسعر الأقل، وفي مجملها لا تزيد رواتب المحررين عن 25 ألف ليرة إذا كان اسماً لامعاً، والأفضل أن يكون خريجاً جديداً، أما أغلب المواد الإعلامية، فمصدرها المستكتبون على القطعة التي لا يزيد ثمنها على 2000 ليرة.

هذه الصحف، وإن طورت مفردات عملها، في الجاد منها، وتعد هنا على الأصابع بسبب استخدامها للخبرات الكبيرة على الساحة الإعلامية في سورية، لكن عقلية المستثمر تبقى هي الطاغية، ففيها الكثير من المداهنة للقطاع الذي تنتمي إليه، والموارِبة من أجل إعلان ينقذ ماء الوجه، بعضها لم يدفع في شهور، أجور الصحفيين الذين يصدرونها، وبعضها (يطنش).

- كل يغني على مبدئه، وبعض هؤلاء يدعي حمل النظريات التي همها الأوحد الدفاع عن مكتسبات الجماهير على غير يقين أو مبدئية..

الذين يحررون هذه الصحف هم أعضاء الحزب غالباً، بالإضافة طبعاً لبعض المستكتبين الذين يمكن أن يغيروا بعض اللغة الكلاسيكبة في خطابها المتأخر عن حاجات الناس والمرحلة.. ويوسعوا الهامش الضيق الذي يفرضه التحالف الجبهوي على مواقف وإعلام هذه الأحزاب وصحفها والمواضيع التي تعالجها..

إحدى الجرائد الحزبية أثارت في أحد أعدادها قضية شركة فاسدة، صال المحرر وجال، وجمع ما استطاع من وثائق تدين المدير وبعض المتعاونين معه، وبدت الأمور وكأن الصحيفة تسعى لإحداث ثورة في عالم الصحافة المحلية، لكن في العدد التالي مباشرة، قامت الصحيفة نفسها بنشر إعلان عن الشركة وما تقدمه من خدمات جليلة للجمهور، مع تصريح للمدير الفاسد يظهر فيه «بطولاته الإدارية والإنتاجية». والذي حدث من تحت الطاولة بكل بساطة، أن مندوبة إعلان أكلت المبدأ مع جهد الصحفي، مع الحقيقة!!.

ولكن ما تقدم ليس كل ما في صورة الصحافة الحزبية أو القريبة منها، فثمة أمثلة أخرى أكثر موضوعية ومبدئية ومهنية..

- من بين الصحفيين اجتهد من اجتهد، من قدر له العمل كمراسل لإحدى الصحف العربية، مستكتباً عن طريق المكاتب الصحفية التي ابتزت الكثيرين، ومارست كل الضغوط بحقهم، ولعبت دور مكاتب السمسرة التي تأخذ العمولة. أجر الصحفي قد يصل إلى 100 دولار عن المادة، يقبض 2000 ليرة والباقي عمولة لهذه المكاتب.

البعض الآخر صار عرّاباً لبعض الاقتصاديين ينشر أخبارهم، يدور في فلكهم، ويعيش على الفتات الذي اشترى للبعض سيارة وأكثر.

بعض من يصفن أنفسهن بالصحفيات مارسن دور تلميع رجال الأعمال، مقابل الحصول على إعلانات لمؤسساتهم.

من بين الصحفيين نجد بعض الذين يعملون في الصحف الرسمية، وقد دفعتهم أحوالهم المالية للاتجاه للصحافة الخاصة، كبديل مادي للتعويض عن سوء الحال، وبعضهم حقق ما صبا إليه رغم صدور قرارات كثيرة بالعمل فقط في صحفهم الرسمية.

- في هذا النمط الجديد الذي لم يحدده أي قانون، جاء على هيئة الخليط الكثيف لمجموعة الصحف، بالإضافة إلى اعتماده على المواد المنشورة في مواقع أخرى، محلية أو عربية أو عالمية، باستثناء بعضها الذي قدم محاولات جديدة، بما يتعلق بالترجمة الإستراتيجية، لكنها تشترك جميعاً، في الهم نفسه الذي تعانيه كل مفاصل الصحافة السورية. 

- ما زال الصحفي السوري يبحث عن لقمة العيش، يكتب هنا وهناك، في صحيفة رسمية وأخرى خاصة، أو في موقع الكتروني، يمدح الحكومة في الرسمي، ينتقد أداءها في الخاص، ما يجبره على ذلك هو محاولة الوصول إلى حياة كريمة، ربما تمنحه الاستقرار.

في الصحافة الخاصة البحث عن الهوية دون أن يكون للمستثمر سطوة علاقاته ومزاجيته، المطلوب صحافة ذات مشروع تثقيفي وطني، خارجة من ثوب الماضي، ودون قلق الحاضر.

عبد الرزاق دياب

المصدر: قاسيون

إقرأ أيضاً:

مستقبل الصحافة الخاصة الورقية والالكترونية السورية لا يعرف من يرسمه
فضاء الحرية.. الافتراضي السوري مقيد بغياب القانون
مع «بلدنا والوطن» صارعدد الصحف الرسمية خمسة بعيون الحاسد

التعليقات

هل هي إنكلترا حيث يملك القاضي حق الفصل في القضايا بناءاً على حكمته و ليس فقط على النصوص التشريعية؟ لأن اللغة و التصنيف متاهة للعقل و امتحان للحقيقة : مئات الطلاب يتخرجون من قسم النقد أو من كلية الفنون أو حتى من كلية التربية و لكن قلة نادرة تكون الناقد أو الفنان او المربي. في أثناء أزمة بيروت الماضية تحولت محطة المستقبل 180 درجة مما كانت عليه زمن الحريري الأب لتصبح منبر للتلفيق و النكاية و الكذب و عندما تم اقتحام مكاتبها هب المثقفون لحماية الإعلام ! قد نفهم أن العسكري او السياسي لا يملك هامش من الحرية لتفحص الأشياء أو كما قال المتنبي : لتمييز الشحم من الورم والحمى من الخجل. و لكن أن يتحول المثقفون الى دوغما تتسلح بالعناوين فهذه كانت أكبر مشكلة في السنوات الماضية. بالنسبة لي- مسؤولية شخصية - تلفزيون المستقبل لم يكن مؤسسة إعلامية و لا أنتمي اليه و لا ينتمي الي , ليس لأنه يختلف عني و لكن لأنه زور معلومات و حقائق و ريبورتاجات صحفية و اعتمد الدعاية السياسية فتحول الى بوق سياسي, و لا يكفي وجود كاميرا و شاشة و مذيع حتى يدخل بعض الموتورين نادي الإعلام. هذا شاهدناه على صعيد الإعلام و صعد أخرى كثيرة و منها وقوف المعارضة السورية الى جانب المعارضة اللبنانية و لا ندري كيف يمكن لمثقف سوري أن يجد ضالة عدالته في شخص السيد وليد و السيد سعد. و لا نتحدث عن حرية خيارات الشارع بل عن حرية خيار المثقف. لا ندري حقاً من هو المثقف و لا من هو الصحفي فليس كل من يحمل قلم مفكر و لا من يقرأ كتابا هو مثقف و بالتالي ليس كل سجناء الرأي هم سجناء رأي و نتذكر منهم بعض أعضاء مجلس الشعب المثيرين للجدل في أهميتهم الوطنية و الفكرية. لماذا هذا التحامل على هذه المراجع المنيرة؟ لأنها في الحقيقة حرمت الشارع السوري و المعارضة الحقيقية من حقها في محاكمة سياسة الحكومة و من حقها بتذكير السيد الرئيس بوعوده في خطاب القسم. لقد أسكتت المعارضة الغبية و المتغابية الصوت الحقيقي في البلاد. لأنها وضعت المعارضة في خانة الخيانة . و لهذا فإن الناس الطبيعيين و الذين كان من الممكن أن يعارضوا او يحتجوا تحت حاجات طبيعية لزموا جانب الصمت لأن الأصوات بدأت تختلط و أصبح صوت المعرض السوري على تلفاز العربية يطابق صوت تسيبي ليفني- و التي أقدر وطنيتها و استغلالها لكل صوت في العالم لدعم اسرائيل /وطنها و عدونا/ . الصحافة قد تتحول ببساطة الى مادة للإبتزاز و الدعاية و التشهير .و لهذا فإن للصحفي أن يطالب بحق الحصانة و حرية الكلمة و لكن واجبه أن يقوم بتنظيف صوته من النشاذ و المتسلقين و لا يمكن اعتبار حرية الرأي منفذاً للبغاء الصحفي. لا أدري لما اجدني دائماً أمام قول لرب أو حكمة لنبي: فالله ميز بين من يعرف و بين يتشبه بالعارفين عندما وصف من يحملون الكتاب بغير علم كالحمير تحمل أسفاراً. لا نريد تكفير أحد في الفن و لا في الصحافة و لا في الطب و لا في سرعة القذف و لكن يمكننا أن نمتلك الشجاعة الكافية لنقول هذا هذه افعى و هذا حبل.

جميل أن تنشر قاسيون مثل هذا المقال، لكأنها فتحت النار على كل الجبهات مرة واحدة، ولكن لأنها إحدى أضعف المطبوعات انتشارا على الصعيد المحلي (بسبب الخط اللاشعبي الذي تنتهجه وسوء تسويقها) وذلك إذا استثنينا المطبوعات الخاصة الحديثة نسبيا، فصوتها بالكاد فرقعة تحت الماء.

يشهد العالم اليوم صعوداً للشر و ليس المقصود هنا تغلب الشرير على الطيب في معركة هنا أو هناك و لكن المقصود هو تحول في الفلسفة الإنسانية تفرضه آليات الإنتاج الإقتصادي الحديثة حيث يتم فيه تفكيك البنى الأخلاقية كمرجعيات ناظمة للمدينة و الإنسان. و يكفي ان نراقب التحولات التي طرأت على المجتمع الغربي منذ ستينات القرن العشرين و حتى نهاية الألفية الثانية لنلاحظ كيف أنه مع صعود المؤسسة الرأسمالية و الميديا-التلفاز- كانت القيم الأخلاقية شديد الصرامة فيما يخص حماية الحريات الشخصية و احترام قيم العمل. و كانت الأمثلة الشهيرة عن شرطي لا يرتشي و موظف يمشي على القانون كراهب. في الحقيقة كانت هذه القيم ضرورية للشركة لأن العامل في النهاية إن سرق فإنه سيقوض الشركة و غن ارتشى فإنه سيهدم الشركة, لهذا كانت قيم العمل و النزاهة شعار المرحلة, و لكن مع دخول الثمانينات و بدء ثورة الأتمتة - بعكس الثورة الصناعية التي استوعبت الطاقات الإنسانية بل و حتى استعملت الأطفال و النساء و غطت فواتير حركات التحرر النسائي في الغرب- الأتمتة المرتبطة بدخول الكومبيوتر و بصعود الشركات العابرة للقومية و الشركة البدوية التي تتحرك الى حيث الضرائب أقل و اليد العاملة أرخص, هذا في الحقيقة خلق أزمة في الزواج السعيد بين الشركة و الموظف, ظهرت النتيجة بحدة في التسعينات مع تسريح موظفين و عمال بالجملة أو من خلال هجرة الشركات من الغرب باتجاه أسيا. هنا انتبه الموظف الى انه لم يكن سوى كلب أمين في الشركة و ان امانته لم تحميه و أن الشركة ليست بيته الثاني , و هنا انتابت الغرب هستيريا فقدان الشعور بالأمن و التي قادت بالنتيجة الى التخلي عن المنظومة الأخلاقية تحت شعور ملح بالتنافس, و هذا قاد في النهاية الى تصدير العنف الغربي الى العالم دون أن يلقى احتجاجاً أخلاقياً و شعبياً واضحاً و مؤثراً. انتشرت الرشوى و استعمال المناصب و كلنا يذكر الفضائح المالية و السياسية التي ازدهرت في نهايات القرن العشرين من تزوير و انتهاكات بيئية و انسانية و تهرب ضريبي, كل شيء أصبح عكس الستينات و لم تعد الشركة بيت الموظف الثاني بل أصبح الموظف جندياً في الشركة و أصبح مستعداً لإطلاق النار على أي شخص يهدد فرصته في العمل أو تعلنه الشركة عدواً لها. اليونيفورم الذي سخر منه عمر أميرالي في فيلم الطوفان على أنه انتهاك من بقايا الإشتراكية تحول الى لازمة جينية في المؤسسة الرأسمالية من أحمر ماكدونالد الى فوشية الدونتس . و من أحمر سيرياتل الى أصفر الإم تي إن. اليوم و بدخولالقرن الواحد و العشرين يمكن لنا ان نشهد لجورج بوش الإبن بفضيلة واحدة و هي أنه و برغم كونه كاذب من الطراز السيء إلا أنه ساهم في حرق الزمن الذي كان يلزمنا للوصول الى حقيقة المستقبل الإقتصادي الذي كان بانتظار العالم : لقد جعلنا نعيش المستقبل في هذه اللحظة. فالرئيس الأميركي الأرعن قلب الطاولة على السياسيين و أثبت ان السياسة كذب و أن الشركات قوة مطلقة و مصلحتها أكبر من مصلحة الدول و من مصلحة الباندا و الدب القطبي. و أن سيارة الإقتصاد ستسير بأزهد النفقات فإن لم يكن البترول فليكن الكحول و إن لم يكن لا هذا و لا ذاك فليكن دم العراقيين أو دم الأفارقة فقد ثبت انهما ارخص وقود في مكنة التطور الصناعي. اليوم يمكن أن نجد امتداد هذا التحول الفلسفي الذي مركزه الغرب و قد أثمر أوتوماتيكياً في الأطراف : أي في بلادنا. الغاية الكبرى اليوم بالنسبة للشركة هي تحييد النظام الأخلاقي و عزله كجملة أو كنظام موازي للنظام الإقتصادي و خاصة بعد أن ثبتت قدرته على عرقلة مسيرة المؤسسة و هذا ما حدث إثر كشف آليات الإستغلال التي تمارسها المؤسسات الغربية في جنوب و شرق أسيا. و تأثير معظم الصناعات الكبرى على النظام البيئي للأرض و ليس للغابة أو النهر فقط. إن وعي الشركات لخطورة وجود نظام موازي سيدفعها حتماً الى تحييد النظام الأخلاقي بحيث يحل محله مبدأ التسليع. فنكون امام صيغ من قبيل : أنا لا أعطيك مالاً مقابل أمانتك و لكن مقابل حراسة ممتلكاتي. و هذه العبارة البسيطة تحسم شكل المجتمع الحديث. فليس المطلوب موظف يفكر او يحاكم و لكن المطلوب موظف ينفذ. و لهذا فإن ما يسمى برسائل التوصية و هي المتعارف عليها بين الشركات عندما تطلب موظفين جدد ,هذه الرسائل تتحول الى لعنة و الى كود سري بين الشركات, كود عبودية, و ليس فقط الى تقرير مهني. إنها تحالف بين الشركات حتى المتنافس منها و هو تحالف عفوي. بحيث أن أي موظف سيتحول الى عبد حيثما حلت به ظروفه لأنه سيحتاج الى خاتم مديره في النهاية. اليوم ثمار التحولات واضحة فلا أحد يصدق أنه لم يعد في أميريكا من هو أصلح من جورج بوش للرئاسة أو من ميريكيل في ألمانيا أو من فلان في الجريدة الفلانية أو من آخر في المصنع الفلاني . هذه الظاهرة عالمية بقدر ما الحضارة عالمية. و هي تفسر كييف تحول العمل الصحفي من غايته النبيلة الى أشكال من التمرغ في القذارة. و كيف أن العمل تجرد من القيم و الهوية الأصلية ليدخل نادي الإقتصاد , فكل شيء أصبح حول المال, أي لم تعد القيم غير الإقتصادية -و التي كانت ترفد العالم بخيارات أكثر انسانية و تنوعاً- ذات اهمية. لقد حادت كل أشكال الفعل الإنساني عن غاياتها الأساسية لتلبس لبوس التجارة و هذا يصدق في الطب و يفسر كيف أن المستشفى لا يقبل الإسعاف قبل تسديد الفاتورة و يفسر كيف أن الصحافيين لم تعد تهمهم الحقيقة بل الربح و كيف ان الشركة لا تهتم بما يعرف الموظف او يقدر على فعله بل تهتم بما تريده هي. و هنا فقط يمكن الإشارة الى الإعلانات الساقطة التي تطالعها في الصحف عن حاجات شركات كبرى لموظفين ديناميين و ذوي خبرة و خيال ابداعي. إنها تقليد غبي عن الإعلان في شركات غربية . ففي سوريا لا تحتاج شركة إم جي أو شركة توني أو شركة نيختله الى موظف مبدع لأن هذه حاجات الشركة الأم أما هنا فهم يحتاجون الى جندي بلون و مواصفات تليق بجندي . قدرة على الإبتسام حتى و لو كانت الشركة قد انتهكت كامل حقوق الزبون الذي قد يبصق في وجه الموظف الذي يردد كلمة (نعم استاذ )مثل ببغاء! اليوم هذه حالنا و لا ندري سر احتفاء الجميع بإطلاق النار على المنظومة الأخلاقية و التهليل للإقتصاد الذي يجعلمن رجالنا طواشيين و من من فتياتنا بغايا على سلم المجد - حيث الجدارة لم تعد هي من يرسم الخط الفاصل بين الطموح و الجشع -

حين يصيرُ الفِكرُ في مدينةٍ.. مسَطَّحاً كحدوة الحصانْ.. مُدوَّراً كحدوة الحصانْ.. وتستطيع أي بندقيةٍ.. يرفعُها جبانْ.. أن تسحق الإنسانْ، حين تصير بلدةٌ بأَسْرِها.. مصيدةً.. والناس فئرانْ.. وتصبح الجرائد الموجّهة.. أوراقَ نعْيٍٍّ تملأ الحيطانْ.. يموت كل شيءْ.. يموت كل شيءْ.. الماءُ والنباتُ والأصواتُ والألوانْ.. تهاجر الأشجار من جذورها.. يهرب من مكانه المكانْ.. وينتهي الإنسانْ. حين يصير الحرف في مدينةٍ..ٍ حشيشةً.. يمنعها القانونْ.. ويصبح التفكير كالبغاء.. واللواط.. والأفيونْ.. جريمةً يطالُها القانونْ.. حين يصير الناس في مدينةٍ.. ضفادعاً مفقوءة العيونْ.. فلا يثورونَ ولا يشْكُونْ.. ولا يغّونَ ولايبكونْ.. ولا يموتونَ ولا يحيونْ.. تحترق الغاباتُ والأطفالُ والأزهارْ.. تحترق الثمارْ.. ويصبح الإنسان في موطنه.. أذَّل من صرصارْ.

يقول نزار قباني ( عندما يصير الفكر في مدينة .. مسَطّحاً كحدوة الحصانْ .. مدوراً كحدوة الحصانْ .. وتستطيع أي بندقية .. يرفعها جبانْ .. أن تسحق الإنسانْ ، حين تصير بلدة بأَسْرها .. مصيدةً .. والناس كالفئرانْ .. وتصبح الجرائد الموجّهة .. أوراقَ نعيٍ تملأ الحيطانْ .. يموت كل شيءْ .. يموت كل شيءْ .. الماءُ و النباتُ والأصواتُ والألوانْ .. تهاجر الأشجار من جذورها .. يهرب من مكانه المكانْ .. وينتهي الإنسانْ )

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...