الأحزاب العربية: المقدمات والنتائج والحلول

07-05-2021

الأحزاب العربية: المقدمات والنتائج والحلول

 

1

 

هل استَهْلَكَتْ الأحزابُ العربيةُ التقليديةُ نفسَها، ولماذا تراجع إقبالُ الشبابِ عليها، هل هو تراجعٌ في رغبة الجمهور بالعمل السياسي، أم عدم ثقةٍ بجدوى هذا الشكل التنظيمي للعمل السياسي، وإن كان كذلك فما هو الشكل الجديد للاجتماع السياسي الذي يطلبه الناس؟

استخدم العرب لفظ السياسة بمعنى الإرشاد والهداية، أما معنى حزب فيَرِدُ في المعاجم: حزب الرجل أصحابه، والحزب أيضا يعني الطائفة، ويقال تحزَّبُوا بمعنى تجمَّعُوا، والأحزاب تعني أيضاً الطوائف التي تجتمع على محاربة الأنبياء. وفي القرآن الكريم سورة باسم "الأحزاب" وتتحدث عن التحالف ضد المسلمين بعدما أجلى النبيُّ يهودَ بني النضير من المدينة فقاموا بعقد عدد من التحالفات مع بعض القبائل العربية للاشتراك معهم في غزو المدينة المنورة فيما سمي بغزوة الخندق، ومن بين هذه القبائل قبيلة قريش، وقبيلة كنانة، وقبيلة غطفان، ويهود بني قريظة الذين أطلق عليهم اسم الأحزاب... وبسبب علاقة الأحزاب باليهود والمشركين لم تكن الجماعات الإسلامية تميل إلى وصف نفسها بالحزب، ولكنها شَرْعَنَتْ الخديعة السياسية قياساً على مفاوضات الرسول مع قادة قبيلة غطفان، الذين دخلوا في التحالف من أجل الحصول على الغنائم، فعرض عليهم  المسلمون الانسحاب من تحالف الأحزاب مقابل إعطائهم ثلثَ ثمار المدينة كلِّها من مختلف الأنواع لسنة واحدة، فانسحبت غطفان وكان ذلك أحد أسباب تفكك تحالف الأحزاب وفشل حصارهم على المدينة...

فمن المعروف أن مكة قبل الإسلام كان يتقاسمها حزبان هما: البيتُ الهاشمي الذي يتولى الكعبةَ والشؤونَ الدينية، والبيتُ الأموي الذي يدير الاقتصادَ والتجارةَ. وقد استمر تنافسُهُما وصراعهما بعد الإسلام، فنشأت كل الفرق الإسلامية الموالية لحزب الهاشميين أو لحزب الأمويين، وفريق ثالث عارض توجهات الحزبين القرشيين فسُمُّوا بالخوارج. وكلها أحزاب ذات توجهات سياسية استخدمت القرآن الكريم لدعم سياساتها، وعندما لا يجدون فيه ما يدعم سياساتهم كانوا يتوجهون نحو الحديث، الأمر الذي ساهم بتلفيق كَمٍّ هائلٍ من الأحاديث المنسوبة للرسول وتحوُّلِ هذه الأحزاب إلى مذاهب متناحرة..

 ويعرَّفُ الحزب السياسي بأنه تجمع من الأفراد يؤمنون ببعض الأفكار السياسية ويعملون على تحقيقها، له مشروع سياسي يستهدف استلام السلطة أو المشاركة فيها أو التأثير عليها بواسطة الدعم الشعبي... وقد ولدت الأحزاب السياسية في أوروبا من رحم نقابات العمال والجمعيات الفلاحية منذ نحو قرنين من الزمان تقريباً، ولكنها لم تتطوّر وتلعب دوراً مهماً إلا منذ حوالى قرن، حيث تفشت بين أمم العالم المقبلة على الحداثة والعلمانية، ومن بينها العرب الذين غلب الفكر اليساري على توجهاتهم الحزبية منذ أواسط القرن الماضي، إذ نشأ التيار اليساري (القومي والاشتراكي والماركسي) مقترناً بالاستقلال والتطلع نحو سياسات وطنية عادلة تنهي الاستغلال... وبعد الاستقلال تمكنت بعض هذه التيارات اليسارية من الوصول إلى الحكم، فكونت أنظمة حاولت من خلالها ترجمة توجهاتها السياسية، فنجحوا في البداية وفشلوا في النهاية بسبب الفردية وعدم قدرتهم على العمل الجماعي...

 

2


بعد سقوط الأنظمة الحاكمة في العراق وتونس ومصر وليبيا، تكاثرت الأحزاب بشكل غير منطقي لشعوب كانت مقيدة سياسيا، ففي مصر، وبعد نصف قرن من هيمنة الحزب الواحد، خاض أكثر من 60 حزباً الانتخابات البرلمانية. وفي تونس، وبعد نصف قرن من هيمنة حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، فقد ضربت رقماً قياسياً في عدد الأحزاب حيث يبلغ عددها 214 حزباً. وفي ليبيا تسجّل ما لا يقلّ عن 142 حزباً سياسيّاً جديداً للتنافس في الانتخابات التشريعية الأولى في البلاد، بعدما كانت الأحزاب معطلة في زمن الملك إدريس واستمر الأمر في عهد القذافي الذي قال في كتابه الأخضر: "من تحزب خان". أما في العراق فقد تكاثرت الأحزاب مثل الفطر، بعدما تم (اجتثاث) حزب البعث وإنهاء احتكاره للحياة السياسية طوال نصف قرن، حيث بلغ عددها 583 حزباً وتحالفاً سياسياً ضمنها 120 حزباً لم تستوف شروط التأسيس، وبينها عشرات الأحزاب السنية والشيعية التي ما زالت تحمل أسباب انقسام الحزبين: الهاشمي والأموي، ويتشارك 32 حزباً وتحالفاً وتجمعاً عراقيا في مقاعد الحكومة والبرلمان، ولكن لم يتحسن حال الشعب، وغدا العراق أكثر تفككاً وانقساماً وضعفاً عما كان عليه في القرن الماضي.

أما في اليمن الشمالي فكان يسود حزب المؤتمر الشعبي العام، والحزب الاشتراكي اليمني في الشطر الجنوبي، وبعد قيام دولة الوحدة 1990، بلغ عدد التنظيمات والأحزاب السياسية التي أعلنت عن نفسها في السنوات الأولى للتجربة الديمقراطية أكثر من 46 حزبًا وتنظيمًا سياسيًا. ثم انقسمت الأحزاب بعد نشوب الحرب اليمنية، حيث أعلن 18 حزبًا يمنيًا تشكيلَ تحالفٍ سياسي تحت اسم "التحالف الوطني للقوى السياسية اليمنية" لدعم حكومة عبد ربه منصور هادي، والتحالف الخليجي الذي يشن حربه على فريق الحوثيين الذي تدعمه بدورها سبعةُ أحزاب تتحالف تحت اسم "اللقاء المشترك".

أما في السعودية ودول الخليج العربي فلا يوجد قانون للأحزاب ولا أحزاب، سوى ما يدعى بحزب الأمة غير المرخص في الكويت والسعودية والإمارات، وينتمي أعضاؤها لجماعة الإخونج، لهذا كان هناك تساهل معها إلى أن نشب الصراع السعودي التركي فبدأ تقييد حركتها في دول الخليج ماعدا قطر التي تمول حروب الجماعات الإسلامية ضد الجيوش العربية العلمانية.

 

3 

 

في سورية مازال حزب البعث العربي الاشتراكي يهيمن على الحياة السياسية السورية منذ 74 عاماً، وكذا كان بعث العراق قبل الاحتلال الأمريكي 2003 لكن الحياة الحزبية السورية، ككل الدول العربية، تغور بجذورها إلى بدايات الانقلاب على العثمانية من قبل مجموعة من المثقفين الأتراك في النِّصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانوا متأثرين بأفكار الثورة الفرنسية، التي حققت حكماً ديمقراطياً في فرنسا، وأتت بأفكار القومية والعلمانية والتحرر من حكم الفرد. كما تأثروا بالحركة القومية الإِيطالية، فأنشؤوا جمعية "الاتحاد والترقي" وأطلقوا على أنفسهم «العثمانيُّون الجدد»، وكان منظِّرهم نامق كمال قد قدَّمَ إِلى مدحت باشا مشروعاً للدستور العثماني، على غرار الدستور الفرنسي، وكان نامق كمال صديقاً لرئيس الصدارة العظمى مدحت باشا المثقف العلماني الإصلاحي الملقب بـ "أبي الدستور" و"أبي الأحرار" حيث سعى إلى إعلان القانون الأساسي وظهور البرلمان العثماني عام 1876م، وكان له فضل في تعريب المناهج المدرسية حين كان والياً على دمشق استجابة لطلب مدير المعارف طاهر الجزائري، وقد سمَّى الدمشقيون أحد أقدم الأسواق في دمشق باسمه، كما سموا جادة باسم طاهر الجزائري المثقف والمربي المعارض للاستبداد العثماني... وقد انتشرت خلايا الاتِّحاد والتّرقِّي العلمانية في وحدات الجيش، وبين موظَّفي الدَّولة من المدنيِّين، واتَّحد جناحاهما العسكري والمدني في باريس للعمل الفعلي ضدَّ السُّلطان عبد الحميد، حيث استطاعت الجمعيَّة إِجبار السُّلطان في 24 تموز 1908م على إِعلان الدُّستور الَّذي كان قد أمر عام 1877م بوقف العمل به. وكان شعارهم عدم التديُّن، وإِهمال الجامعة الإِسلامية، وكل ماله علاقة بالرجعية العثمانية، بدءأ بالكتابة بالحروف العربية وانتهاء بالطربوش. فقد فتح الاتحاديون في سنوات حكمهم الأولى باب الحريات مما سمح لعدد من الأحزاب بالظهور كان أولها الحزب الاتحادي، ثم تلاه الحزب الحر، ثم الاتحاد العثماني ورفعت شعارات جديدة مثل: الوطن، والدُّستور، والحرِّيَّة... وقد عمل الوطنيون العرب من داخلها من أجل تطوير سياسة اللامركزية الإدارية في بلدانهم واكتساب المزيد من الحريات... غير أن التجربة لم تتواصل، إذ تخوف الاتحاديون من النوايا الانفصالية عند شعوب الإمبراطورية، فأصدروا قانوناً يمنع تأليف الجمعيات السياسية، فتستر الناشطون العرب بالجمعيات الأدبية ومنها: جمعية الإخاء العربي العثماني، والجمعيّة القحطانيّة، والجمعيّة العربيّة الفتاة... ثم أقدم جمال باشا أحد أقطاب "جمعية الاتحاد والترقي" الذي لقب بالسفاح على إعدام نخبة الوطنيين السوريين في دمشق وبيروت بين عامي 1915 و 1916 الأمر الذي دفع بالسوريين، الذين بدؤوا يتذوقون طعم الحرية، للمشاركة في ثورة الشريف حسين ضد الكماليين في 1916 لاستكمال الاستقلال... ومع تولي الأمير فيصل ابن الشريف حسين الحكم في سورية سنة 1918 نشطت جزئياً الحياة الحزبية السورية فعاودت بعض الأحزاب نشاطها، كما ظهر الحزب الوطني السوري عام 1920 وكان تجمعاً سياسياً للتجار وكبار الملاكّ وفئات أخرى. أما في عهد الانتداب الفرنسي فقد عملت فرنسا على محاربة النشاط الحزبي الذي تمثل في عمل حزب الشعب بزعامة المثقف العلماني عبد الرحمن الشهبندر، وكان أعضاؤه من كبار الملاك والبرجوازية الحلبية، مُطَعَّماً بعدد من خريجي الجامعات الفرنسية. كما تشكّل حزبا الاستقلال والاتحاد السوري، واللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني، وعصبة العمل القومي، والحزب الشيوعي. وفي عهد الاستقلال الوطني تسيَّدت الأحزاب العلمانية الساحة، كالحزب الشيوعي، والحزب القومي السوري، وحزب البعث العربي الاشتراكي الذي انتشرت خلاياه في وحدات الجيش، وبين الطلاب والمعلمين، واتَّحد جناحاهما العسكري والمدني قبل إعلان انقلابهم واستلام السلطة 1963، فتصدى لهم الفرع السوري لجماعة الإخوان المسلمين وأعلن حربه ضد البعث منذ العام 1964 حيث هاجموا مكاتبه في حماه وقتلوا بعض أعضاء الحزب رافعين شعار الحكم لله، فقام الرئيس أمين الحافظ بقصف تجمعهم المسلح في مسجد السلطان، فاستكانوا حتى منتصف السبعينات حيث أعلنوا مجدداً عصياناً مسلحاً في حماه، بدعم عراقي أردني مصري فرنسي، حيث قاموا باغتيال نخبة البعثيين فقصفهم الرئيس حافظ الأسد بعد مفاوضات عقيمة وفشل عدة محاولات لاغتياله، فاستكانوا مجدداً بعد خسارتهم للحرب في مواجهة البعثيين 1982، ثم عادوا بدعم أمريكي تركي سعودي قطري إلى الصراع مع البعث منذ 2011  فدحرهم الرئيس بشار الأسد ومازال الصراع على سورية مستمراً...

وبالعودة إلى عام 1948 "فقد أسفرت التطورات السياسية عن حظر أي نشاط حزبي، ورغم ذلك ظهرت على الساحة أحزاب جديدة في 1949 ثم تلقت الأحزاب ضربة قوية في أول انقلاب قام به حسني الزعيم حيث حلَّ الأحزاب وختم مكاتبها بالشمع الأحمر. وعندما أطاح الانقلاب الثاني (آب 1949) بالزعيم عادت الحياة الحزبية إلى سابق عهدها، غير أنها انتكست مجدداً مع الانقلاب الثالث الذي قاده أديب الشيشكلي، حيث اعتبر أسوأ عهد مرت به الأحزاب السورية في تاريخها" حسب وصف د. عبد الله حنا في كتابه عن الأحزاب السياسية السورية، فقد صدرت خلاله قرارات تهدف إلى تقييد عمل الأحزاب، وكانت بداية المتاعب مع صدور مرسوم 1952 الذي يمنع الموظفين من الانخراط في الأحزاب، ثم تراجعت حكومة الشيشكلي عن موقفها فأصدرت قانون الأحزاب والجمعيات سنة 1953 الذي نص على حق السوريين في تأليف الأحزاب والإنتساب إليها، فعادت الأحزاب إلى الصراع والتقاتل فيما بينها إلى مرحلة ما بعد الشيشكلي، وفي عام 1958 بعد قيام الوحدة مع مصر تم حظر الأحزاب أو أي هيئات سياسية جديدة حتى سنة 1961. وقد شهدت حكومة الانفصال تيارين أحدهما مؤيد والآخر معارض للحياة الحزبية، غير أن ذلك لم يمنع من تواصل نشاط الأحزاب بكل حرية، كما عادت إلى سيرتها الأولى من الصراع، حتى داخل الحزب الواحد، إذ نشأ الخلاف بين زعامات حزب العربي الاشتراكي وانشق الحزب إلى تيارين متناحرين: تزعم الأول أكرم الحوراني وأطلق على نفسه حزب الاشتراكيين العرب، وتزعم الثاني ميشيل عفلق وصلاح البيطار واحتفظ باسمه القديم. كما انفصل الحزب الشيوعي السوري عن الحزب الشيوعي اللبناني عام 1964، ثم انقسم الحزب الشيوعي السوري على نفسه في 1972، وأدى هذا الانقسام الى وجود تيارين في الحزب الأول بزعامة خالد بكداش الذي شارك بالجبهة الوطنية والثاني بزعامة رياض الترك الذي تحالف مع الإخونج ضد البعث .

وقد أحصى الباحث هاشم عثمان في كتابه "أحزاب سورية السرية والعلنية" 28 حزباً سورياً (من بينها حزب العشيرة الماسوني) وصولاً إلى عام 1972 حيث شكل الرئيس حافظ الأسد "الجبهة الوطنية التقدمية" التي ضمت غالبية الأحزاب السورية، وتمت إضافة مادة إلى الدستور تقول بأن الحزب قائد الدولة والمجتمع، ثم ألغيت المادة من دستور 2012 ولكن الحزب استمر بالسيطرة على مفاصل الدولة، ولكنه بدأ بالتراجع عن شعار الوحدة بعد شعار الاشتراكية إذ تبنى نظاماً اجتماعياً اقتصادياً هجيناً بين الاشتراكية والرأسمالية وسماه (نظام السوق الإجتماعي) كما ألغى مؤسسة القيادة القومية وبدأ بحل منظماته الاشتراكية بدءا من الاتحاد النسائي والاتحاد التعاوني السكني...

بعد نشوب الحرب السورية صدر قانون الأحزاب 2011 وظهرت عشرة أحزاب جديدة على الساحة السورية، يقابلها عدد مماثل من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، غير أن معظم الأحزاب الجديدة لا تمتلك برنامجاً أو أيديولوجيا تميزها عن بعضها، وما زالت ضعيفة ونشاطها السياسي مقيد فلم تحقق ثقلاً على أرض الواقع السياسي... وبات المجتمع السوري يبحث عن أشكال جديدة لنشاطه الاجتماعي والسياسي من دون مزاعم أيديولوجية قومية أو طبقية أو إسلامية، فقد استهلكت أحزاب الآباء كل الشعارات والأيديولوجيا القديمة، وعندما نجحنا في تقديم شكل جديد للعمل الشعبي ضمن برنامج "التحالف السوري العلماني" عطله الرفاق البعثيون ولم تجدِ مفاوضاتي معهم لاستمرار نشاطنا...

 

4 

 

 تعتبر التجربة الحزبية العراقية تجربة غنية وتتقاطع مع التجربة السورية في الخطوط العامة والكثير من التفاصيل، فقد بدأ النشاط السياسي السري أيام الحكم العثماني، ثم بدأت الأحزاب بالتشكل بعد الثورة العربية الكبرى ومع حكم الملك فيصل للعراق 1921 بعدما أخرجه الفرنسيون من سورية، فبعد قيام البريطانيين باحتلال العراق شهد العراق ظهور حركات وتجمعات واحزاب سياسية أسستها وقادتها النخب المثقفة والشخصيات الاجتماعية المعروفة . وكان الهدف إنهاء الاحتلال والانتداب البريطاني وإعلان الاستقلال وبناء الدولة الحديثة. ففيما بين 1920-1930 لم تكن للأحزاب أسس عقائدية أو تنظيمية وكان مؤسسوها سياسيين يبتغون خوض الانتخابات والمشاركة في الحكومة، كما كانوا يتحالفون مع شيوخ العشائر لتوسيع قواعدهم والضغط على الحكومات أو إسقاطها. وشهد عقد الثلاثينيات ظهور أحزاب وتيارات سياسية تتبنى أيديولوجيات وتعتمد العمل التنظيمي كالحزب الشيوعي والحزب الوطني بالإضافة إلى تيارات قومية عروبية. وأدى الصراع المستمر على السلطة إلى سلسلة من الانقلابات العسكرية بعد تنامي الدور السياسي للمؤسسة العسكرية. ومنذ 1936 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية تم فرض قوانين الطوارئ وتحريم العمل الحزبي فتراجع أداء الأحزاب والحريات الصحفية، فتم اقتراح الأخذ بنظام الحزبين: حزب للحكومة وآخر للمعارضة كبديل لنظام التعددية الحزبية، ولكن الوصي على العرش الأمير عبد الإله كان أضعف من أن يقر المشروع ويحققه. وفي عام 1946 أجازت وزارة الداخلية تشكيل: حزب الاستقلال وحزب الشعب والحزب الوطني وحزب الأحرار بينما لم يرخص للشيوعي بسبب تحالفات النظام السياسي العراقي مع الغرب في الحرب الباردة. ففرض العمل السري على الأحزاب الماركسية ومنها الحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي الذي تأسس فرعه العراقي مطلع الخمسينيات مستقطبين جماهير واسعة.

 كما وجدت الأحزاب الدينية السياسية بيئة مناسبة في أوساط شيعة وسنة العراق، وبدأ تشكيل الأحزاب الدينية السنية في العراق منذ أواخر عقد الأربعينيات، كحزب الإخوان المسلمين وحزب التحرير، أما تشكيلات الأحزاب السياسية الشيعية فقد جاءت في نهاية عقد الخمسينات كالحزب الفاطمي وحزب الدعوة. بالإضافة إلى كل من الحزبين الكرديين: الحزب الوطني الديمقراطي والاتحاد الوطني الكردستاني.. فقد كانت بنية العقل السياسي لدى العراقيين تتمحور حول البعد القومي العروبي، والبعد الوطني العراقي، والبعد القومي الكردي، والبعد الإسلامي.

كان الفارق بين ثورة البعث في القطر العراقي والقطر السوري شهراً واحداً 7 نيسان في بغداد و8 آذار في دمشق سنة 1963، ونهج الفرعان القطريان العراقي والسوري نحو تخطيط اشتراكي، وزراعة تعاونية يديرها الفلاحون، وسيطرة العمال على وسائل الإنتاج، في محاكاة للتجربة السوفياتية... ثم انقسم البعث العراقي عن البعث السوري 1966، وانقسم الشيوعيون في العراق مثلما انقسموا في سورية، ولوحقوا من قبل حكومات البعث الصديقة للاتحاد السوفياتي ودخل الكثيرون منهم إلى السجون العراقية والسورية البعثية ...

تحسنت أحوال العراق في بداية حكم البعث أيام أحمد حسن البكر بتوجهاته العلمانية الاشتراكية، ثم بدأت الحياة السياسية بالتدهور منذ استلام صدام حسين للحكم، حيث أدخل الدولة في حروب مجانية ونزاعات مع الدول المجاورة بالإضافة إلى صراعها مع مكوناتها الإثنية والمذهبية والعشائرية، وبات صدام هو الحزب والحزب صدام، وفي الوقت الذي كان يحاربُ فيه حزبَ الدعوة الشيعي، تحالف مع إخونج سورية، معلناً توقيت نفير حماة سنة 1982، فاستنزف مقدرات العراق وقوته البشرية وأضعف تماسكه الوطني، بحيث كان احتلال الأمريكان للبلاد سهلاً بعدما تبخر أكبرُ الجيوش العربية غداة دخولهم بغداد...

 

5 

 

في مصر تأسس عام 1907 وبالتسلسل: الحزب الوطني الحر بزعامة محمد وحيد بك الأيوبي، وحزب الأمة بزعامة حسن باشا عبد الرزاق، والحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل، وحزب الإصلاح بزعامة الشيخ علي يوسف، والحزب الوطني بزعامة حافظ أفندي عوض. وكان أعضاؤها من كبار ملاك الأراضي الزراعية وكبار رجال العائلات وبعض رجال السياسة والقانون والصحافة... ثم نشأت خلال السنوات اللاحقة العديد من الأحزاب المصرية، قسم منها كان مدعوماً من القصر والقسم الآخر يدعمه الإنكليز، واستمر الأمر كذلك حتى قيام ثورة الضباط الأحرار 1952 فتم حل جميع الأحزاب التي كانت داخلة فى صراعات سياسية مع بعضها البعض حتى باتت تشكل أزمة سياسية أكثر من كونها حلاًّ، فجاء جمال عبد الناصر بفكرة إعادة تنظيم الحياة الحزبية وانتهى إلى تنظيم سياسي واحد يضم المؤيدين للثورة تحت اسم "الاتحاد الاشتراكي" الذي سيطر على الحياة السياسية المصرية بعدما تغلغلت لجانه ووحداته ومنظماته في كل مؤسسات الدولة، واتخذت قرارات ثورية منها تطبيق نظام اجتماعي جديد، واستصلاح الأراضي، وإلغاء الألقاب والرتب، ومنع الفصل التعسفي للعمال، فقد قام ناصر بخلط الطبقات المصرية ومهد لظهور جيل سياسي من أبناء الطبقة الوسطى... ثم أصاب الحزب المرض الذي يصيب الأحزاب الشمولية عادة من ترهل وفساد وجمود، وبدلاً من تحرير الحياة السياسية تم إلغاؤها، وكانت من أسباب الانفصال السوري عن مصر... وقد استمر الاتحاد الاشتراكي بالتراجع حتى وفاة عبد الناصر، حيث استبدله السادات بالحزب الوطني الديمقراطي الذي سيطر بدوره على 80% من مقاعد مجلس الشعب بعد مهادنته للإسلاميين والتقرب منهم بصفته رئيس مؤمن... ثم ورث مبارك زعامة الحزب بعد اغتيال الإسلاميين للسادات. ولكن ذلك لم ينهِ الاستبداد والفساد الساسي، فانتهز الإخونج الأحوال المتردية للتغلغل بين الجماهير، مستخدمين الدين والمنح والعطايا، من أجل الحشد والاستقطاب إلى أن وصلوا إلى الحكم، ولم يلبثوا فيه إلا قليلاً، حيث ثار الشعب والجيش المصري عليهم بعدما اكتشفوا أن حكم الإسلاميين أسوأ من القوميين الاشتراكيين...

 

6


في السودان أكبر دول أفريقية، توجد حوالي 570 قبيلة تنتمي إلى 57 مجموعة عرقية وتتحدث 106 لغات مكتوبة ومنطوقة، تشكل فيها أكثر من مائة حزب وحركة وجماعة، وكان الحزب الشيوعي السوداني بعد الاستقلال من أقوى التنظيمات الشيوعية في البلاد العربية، لكن الرئيس جعفر النميري الذي قاد مع الضباط الأحرار 1969 انقلاباً أبيض قام بتصفية الشيوعيين، بعد معارضتهم رغبته بإقامة تنظيم "الاتحاد الاشتراكي السوداني" كبديل عن الأحزاب القديمة، حيث أقدم على إعدام قيادات الشيوعي واستجواب ثلاثة آلاف يساري سوداني... لكن تنظيم الاتحاد الاشتراكي فشل في استقطاب التنوع السوداني، وتحول إلى مجرد مؤسسة رسمية يحلبها المنافقون، فراح نميري يتقرب من الإسلاميين ويشيع صورة الرئيس المؤمن بينهم، ثم أخذ يقدم محاضرات عن (الإسلام الحنيف الذي شوهته القيم الغربية)، وبدأ بتطبيق القوانين الشرعية بالتعاون مع جماعة الإخونج، فزادت الهوة بين المكونات الاجتماعية في السودان ونشأت حركة تحرير السودان بزعامة الجنرال المسيحي جون غارنغ، بينما لمع نجم الشيخ حسن الترابي الذي راح يوسع نفوذ الإخونج داخل الاتحاد الاشتراكي... وفي سنة 1985 بعد الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنميري، أعلن الفريق عبد الرحمن سوار الذهب عن تشكيل حكومة انتقالية فازت بأغلبية مقاعدها الجبهة الإسلامية، التي كانت ترعرعت واشتد عودها في عهد نميري، فشكل الصادق المهدي (رئيس حزب الأمة الإسلامي) حكومة ائتلافية، وخلال أقل من عامين نشبت الخلافات الطائفية والعرقية بين الائتلافيين، إذ لايمكن للأيديولوجيا الإخونجية أن ترضي تطلعات الجميع و خصوصاً جنوب السودان بغالبيته المسيحية، فكان من أثر السياسات الإسلامية أن انفصل الجنوب سنة 2011 بدعم غربي إسرائيلي، ثم اصطدم الإخوة الإسلاميون ببعضهم عندما حاول الشيخ حسن الترابي تقييد سلطات الرئيس عمر البشير في اختيار الولاة سنة 1999 فتغداه البشير قبل أن يتعشاه الترابي وحاصر المجلس التشريعي بالدبابات ثم حل المجلس وأعلن حالة الطوارئ، فاستقال جماعة الترابي من حزب المؤتمر الوطني  وشكلوا حزب المؤتمر الشعبي، وراحت جريدتهم "رأي الشعب" تنتقد سياسة البشير، ثم أقدم الترابي سنة 2001 على التحالف مع جون غارنغ وحركة التحرير فاعتقله البشير مع ثلاثين من معاونيه، وفي عام 2013 بعدما تدهورت الأوضاع الاقتصادية والأمنية قامت احتجاجات شعبية واسعة ضد سياسات البشير القمعية فحاول احتواءها ودعا لحوار وطني سنة 2014 فحصلت انقسامات بين الأحزاب المعارضة، واستمر البشير والقيادات الإخونجية التي ضيعت الجنوب بإعادة إنتاج سياساتها حتى قامت احتجاجات كانون أول 2018 في مدينة عطيرة بسبب الغلاء وعدم توفر الخبز، ثم تطورت الاحتجاجات إلى المطالبة بإسقاط البشير، فقامت أجهزة الإخونج بقمعهم بشدة، لكن استمرار سلمية الاحتجاجات والاعتصام أمام القيادة العامة للجيش أدى إلى عزل البشير وإنهاء حكم الإخونج في نيسان 2019

بعد الثورة برزت الأحزاب على الساحة السودانية وهي: حزب الأمة الإسلامي الذي يقوده الصادق المهدي، والحزب الاتحادي الديمقراطي وهو ذو توجه صوفي يتزعمه الشيخ محمد عثمان الميرغني، والحركة الإسلامية وهي تجمع "الإخوان المسلمين"، و"جبهة الميثاق" وتتمحور حول أفكار الشيخ حسن الترابي، والمؤتمر السوداني الذي أسسه رجل الأعمال "إبراهيم  الشيخ" ثم استقال ليسلم زعامة الحزب للسياسي الشاب "عمر الدقير" الذي شكل تجمع الطلاب المستقلين، وهو تحالف قدم نفسه كحل وسط بين "الطلاب الإسلاميين" و"طلاب التجمع الديمقراطي" المشكل من الأحزاب السياسية المناوئة لهم، والحزب الشيوعي السوداني وهو من أقدم الأحزاب السودانية وأعرقها تاريخياً ويحظى بدعم نقابي قوي وقد أسسه نقابيون مناهضون للاستعمار البريطاني في العام 1946. وتأتي قوة " الشيوعي" من توليفة غنية بين قادة كبار السن وشباب متطلع نحو المستقبل، وهو ما يجعل للحزب جاذبية في المدن والجامعات..

 

7


الخطأ الذي ارتكبته الأحزاب الشيوعية العربية هو أنها ربطت نفسها بسياسة الإتحاد السوفياتي وتوجهاتها، ففي الصومال قام الجنرال محمد سياد بري ومن خلفه "الحزب الاشتراكي الثوري الصومالي" بانقلاب أبيض عام 1969 بعد عملية اغتيال الرئيس المدني الصومالي "عبد الرشيد علي شارماركي" علي يد شرطي تابع لجماعة ‏الاخوان المسلمين أثناء زيارته لمدينة لاصعانو لأنه "لا يطبق شرع الله" .. بدأ "سياد بري" عمله باعتقال كل العناصر التكفيرية  والمعارضة التي تميل للقبلية،  وطبق الحزب توليفة شيوعية قومية إسلامية مناسبة لمجتمع الصومال، وقام بسلسلة من الإصلاحات في القطاع التعليمي ومحو الأميّة، وانعكست أفكار الحزب إيجابيا على الجانب العلمي والاقتصادي والإعلامي في البلاد، وأقر سياد بري اللغة الصومالية لغة رسمية للبلاد بدل الإنجليزية و الإيطالية، وأعطى جميع موظفي الحكومة مهلة ستة أشهر لتعلم القراءة والكتابة باللغة الصومالية وفرض على المدرسين خدمة ريفية لتعليم أهلها القراءة و الكتابة حتى انخفضت نسبة الأمية خلال عامين من 78% إلي 16% وسنَّ قوانين ساوت المرأة بالرجل في الوظائف و الحقوق و الواجبات وفي الميراث،  وحظر النقاب، وعطل تطبيق أي حدود بدنية شرعية معتبرا  أن كل وقت له مفرداته .. واعتمد على الإتحاد السوفياتي في تدريب الجيش وتسليحه، وأطلق على البلاد اسم جمهورية الصومال الديمقراطية الشعبية، وافتتح في مناطق القبائل مسارح و مدارس و محاكم و أقسام شرطة. وقسم البلاد إلى محافظات، وأنشأ مطارا في كل محافظة. وأطلق مشروع "المزارع التعاونية" تشارك فيها الفلاحون مع الحكومة، وأقام إلى جانب المزارع مشاريع للصناعات الغذائية، حتى مزارع البرسيم والأعلاف أقام بجانبها مزارع حيوانية  ومصانع تعليب اللحوم.. وفي 1977 أقدم سياد برى على طرد جميع المستشارين السوڤييت من الصومال، بينما كانت الجماعات الإسلامية تتسلح عن طريق أثيوبيا وكينيا وتضع خططا لقلب نظام الحكم بدعم وتمويل سعودي أمريكي.. وفي عام 1991 توغلت المليشيات الإسلامية في العاصمة  وبدأت الحرب في أحياء وشوراع مقديشو،  وهاجمت بعض الوحدات العسكرية  واستولت علي ما فيها من دبابات و معدات، وأطاحت بالرئيس سياد بري،  ونشبت الحرب الأهلية بين العشائر و القبائل نفسها اللي دعمت الإسلاميين، بعدما اكتشف شيوخ القبائل إنهم كانوا مجرد وسيلة ، كما اصطدمت الميليشيات الإسلامية ببعضها..

بعد وصول "إتحاد المحاكم الإسلامية" للحكم  طبق الشريعة بالطريقة التي طبقتها داعش في سوريا والعراق،  فقام بتفعيل الحدود بشكل دموى، ووصل بالبلاد لحالة الدمار والخراب.. والأمر نفسه تكرر حرفيا في أفغانستان الشيوعية وكان يفترض تطبيقه في سورية البعثية منذ 2011

الخطأ الذي ارتكبه الرئيس محمد سياد برى الصومالي هو تسلمه كل المناصب السيادية في الصومال حيث كان رئيسا للدولة و قائدا للجيش وزعيما للحزب الحاكم و رئيسا للمحكمة العليا و رئيسا للجنة الامن والدفاع في الحزب الحاكم..

 

8


تميزت الأحزاب العلمانية العربية بضمها أعضاء من شتى مكونات الطيف الوطني، بينما تمذهبت الجماعات الإسلامية ورفضت انضمام أعضاء من خارج مذاهبها، وهذا يدحض مزاعمها الديمقراطية التي تشتري بها أصوات الناس، كما أنها قسمت العالم افتراضياً إلى مؤمنين وكافرين، وراكمت الكثير من العنف داخل مجتمعاتها، وقتلت من مواطنيها ربما أكثر مما فعل الإسرائيليون وباقي الأعداء. أما الاعتدال فهو من صفات عموم المسلمين، ولكنه لم يكن يوماً من صفات جماعات الإسلام السياسي، تشهد على ذلك الأحداث التاريخية منذ أيام الخوارج وصولاً إلى جحافل الوهابيين وفصائل الإخوان المسلمين... غير أن الأمريكان، وبعد تهاوي الجمهوريات العلمانية التي حاربوها، فإنهم يعملون كي يستمر العرب في ضعفهم وتخلفهم قرناً آخر تحت حكم السلفيين. وفي الواقع فإن الغرب العلماني هو من حارب أول دولة عربية حديثة تنتهج خطاً علمانياً، عندما دمرت دُوَلُهُ أسطولَ محمد علي لصالح الخلافة العثمانية المتخلفة.

ومنذ أواخر الحكم العثماني تجلى الصراع بين العلمانيين الذين ينهجون نحو الحداثة والتجديد والسلفيين الذين يريدون الحفاظ على رابطة الدين بنسخته العثمانية. وتلخص قضية الحجاب والسفور هذا الصراع منذ أن خرجت سيدات دمشق ومصر المتعلمات سافرات قبل مئة عام، وصولاً إلى حركة الردة السلفية التي وسمتها أمريكا بالربيع العربي، حيث سيس الإسلاميون الحجاب وقادوا معركته خلال قرن كامل، ولم يفهم العلمانيون سبب تعنت الإسلاميين في موضوع شكلي غير مثبت في النصوص المقدسة، ذلك أن موضوع الحجاب سياسي بامتياز وغالبية النساء اللواتي يرتدينه طوعاً، هُنَّ من المؤيدات  للإسلام السياسي من دون جدال، فالحجاب والنقاب بات رمز الإسلام السياسي، وقد خسر العلمانيون معركة الحجاب بدءاً من تركيا التي كانت تحكمها النخب العلمانية  قبل أن يتولاها حزب العدالة الإخونجي ليدير الحرب السلفية ضد الجمهوريات ذات الدساتير العلمانية  في غفلة منا ؟!

يوجد مشكلة مستعصية  لدى جماعات الإسلام السياسي التي تعمل على إدماج الوطن بالدين بدلاً من إدماج الدين بالحياة الوطنية،  فهم لم يخرجوا بعد من عباءة منظرهم سيد قطب الذي قال إن "الوطن وثن"، وقد رأينا كيف كانت الجماعات الإسلامية تحطم أوطانها حتى لو اضطرت للتعاون مع مرجعيات خارجية، لهذا فهي ما زالت تحمل بذرة فشلها بداخلها، ولم تقدم أي نقلة حضارية حتى عندما استلمت السلطة في السودان ومصر، وحتى حزب العدالة التركي الذي يفخر الإسلاميون به، إنما قام على الإرث العلماني، وما زال يعيش على مؤسساته، ولم يضف لتركيا شيئاً سوى المزيد من الانقسامات والسجون والعداء والتراجع الاقتصادي مع استمرار علاقاته مع العدو الإسرائيلي.. لقد فاقمت الأحزاب والحكومات الإسلامية الكثير من العداء مع الوطنيين العلمانيين في المنطقة، وزادت من قلق المراقبين في العالم، وبات المسلم العادي بسببهم شبهة أينما ذهب خارج بلاده.. وقد تضرر المسلمون منهم أكثر مما انتفعوا بهم، لذلك يتوجب على الحكومات الوطنية حظر نشاطها ومقاطعة أعضاءها كونها تشكل خطراً على السلم الاجتماعي والأمن الديني والثقافي، ويجب أن يترافق الحظر والمقاطعة مع تجفيف لمصادر الإرهاب عبر تنقية مناهج التعليم والإعلام الوطني من مظاهر (العنف المقدس).. أما بخصوص فشل الأحزاب العلمانية  فقد كان بسبب أخطاء الزعماء الذين قادوا الأحزاب أكثر مما هو خطأ في أيديولوجيا الأحزاب، بعكس حالة الأحزاب الإسلامية، فقد كان الخطأ في فكر وأيديولوجيا الجماعة أكثر مما هو في سلوك قياداتها.. ذلك أن قادة الأحزاب الحاكمة انشغلوا بنشاطهم السياسي وتخلوا بالتدريج عن برامج أحزابهم الإجتماعية، حتى بدت منظماتهم الرديفة كهياكل بلا مصلين، يديرها موظفون متنفعون من سلطة الحزب، كما تكلست برامجهم التثقيفية وبقيت واقفة عند منظريها الأوائل، فتحولت من أحزاب ثورية انقلابية إلى أحزاب تقليدية محافظة تخشى كل جديد. حيث نلاحظ كيف أن الأحزاب العربية الديمقراطية المتأثرة بالثورة الفرنسية مازالت تقف عند الخطوط العامة للنظام الجمهوري الذي جاءت به الثورة، وتنسى تطوير مفهوم المواطنة الذي ما زال الفرنسيون يطورون فيه منذ قرنين بما يلبي تطلعات ناخبيهم في كل جيل.. أما بالنسبة للجمهور العربي  فيبدو أنه قد ملّ من الأيديولوجيات القومية والأممية والإسلامية وشعاراتها وبات يتطلع إلى أحزاب ذات برامج اجتماعية تنموية اقتصادية ديموقراطية مع التركيز على السياسات الداخلية من دون ادعاءات أيديولوجية تم استهلاكها خلال القرن الماضي، على الرغم من نبل توجهاتها.. حيث لاحظنا منحنى صعود الزعامات الحزبية على صهوة الأيديولوجيا ثم كيف أخذ المنحنى بالهبوط بسبب الإستبداد، وسوء السياسات الاقتصادية والإدارية، وضعف المؤسسات الحزبية المهيمنة  والطاردة للكفاءات الوطنية، إذ لم نسمع بأي برنامج حزبي عربي لرعاية النخب العلمية والفكرية سوى سجون السلطات أو سواطير الجماعات التكفيرية، والكلام يطول ويحتاج إلى مراجعة ثانية، إذ يفترض بنا كعلمانيين ومسلمين ومسيحيين عرب مراجعة تجاربنا والاعتراف بأخطائنا التاريخية وتجاوزها بشجاعة، لأن الزمن لا يرحم المتخلفين عن قطاره السريع.

 

نبيل صالح

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...