إعادة تأهيل سوق مدحت باشا وتدمير سكانه

31-12-2007

إعادة تأهيل سوق مدحت باشا وتدمير سكانه

فوجئ سكان حيّ باب شرقي منذ أكثر من ثلاثة أشهر بتهافت الآليات على حيّهم دون سابق إنذار، والعنوان العريض لهذا التهافت كان: «مشروع إعادة تأهيل سوق مدحت باشا»، وطبعاً، لم يتبرع أحد من القائمين على المشروع بإخبار الأهالي عن المدّة الزمنية التي سيتطلبها تنفيذه.
 وكما جرت العادة في مشروعات المحافظة، فإن الحاضر الأبرز هو الغبار، أضف إليه هذه المرّة ذلك المظهر الكارثي الذي بات الصفة الوحيدة للحيّ منذ الشروع بإعادة تأهيله، ولا يسع السكان إلا الدّعاء لانتهاء الارتكابات المجحفة بحق حيهم تحت عنوان (إعادة التأهيل) بأقل الخسائر، ولاسيما أنهم محاطون بمن يمنعون وصول صوتهم إلى أي شكل من أشكال الصحافة أو الإعلام (رسمياً كان أم خاصاً)، حيث أكد الأهالي (محبذين عدم ذكر أسمائهم) أن القائمين على عمل الورشات أوقفوا نشاطهم (التأهيلي) بمجرد قيام أحد الصحفيين بتصوير المواقع المتضررة جراء أعمال الحفريات المستعرة، مطالبين الفريق الصحفي الذي كان يصور الجدران المائلة والحفَرَ التي تعوق مرور الناس، بالذهاب وإلا..؟!
إن ضعف الدراسة الإنشائية لمواقع الحفريات، وتجاهل حالة الأبنية المتصدعة المحيطة بأماكن عمل الورشات، وتجاهل نتائج الدراسات السابقة القائلة بهشاشة التّربة الدمشقية وقلّة احتمالها لعبث العابثين (لأسباب كثيرة منها سوء واهتلاك أنابيب الصرف الصحي وضعف البنية التحتية من جدران استنادية قادرة على منع الانهيارات المفاجئة.. إلخ). كل هذه الأسباب أدت - وأوّل الغيث قطرة- إلى انهيار أحد المحال في الحيّ، وتعريض العديد من البيوت التاريخيّة المحيطة به إلى المصير نفسه، ويؤخذ على المحافظة تذرعها بكونها أنذرت السكان بإخلاء المنازل والمحال في الحي الأمر الذي لم نجد أحداً في الحي يؤكد حدوثه! اللهم إلا أن المحافظة حذرت القاطنين (بعد وقوع الحادث) طالبة منهم عدم الاقتراب من الجزء المنهار ومحيطه حرصاً على سلامتهم، وفي ذلك تأكيد استمرار الخوف من انهيارات أخرى وشيكة!.
ناهيك عن إقلاق راحة السكّان والمارّة على حدٍّ سواء، ساهمت أعمال الحفر بـ«ضرب» نشاط السوق التّجاري والسياحي في الحي، (من محالّ تعنى ببيع التحف والأنتيكا الدمشقية، وفنادق صغيرة تستقبل المجموعات السياحية وتمثل ألطف معالم المدينة القديمة..)، فحسب شاغلي المحالّ: «انخفضت حركة البيع والشراء إلى مستويات لم نشهدها من قبل، وما من أحد عرض علينا التعويض، أو على الأقل أشار إليه»، أما الفنادق والمطاعم فبعضها اضطر إلى إغلاق أبوابه، والبعض المتبقي بات معلقاً بالهواء حيث يستدعي الدخول إليه تسلق السلالم الخشبية التي أصبحت الوسيلة الوحيدة للترحيب بالضيوف هناك. أما المارّة فشكل آخر من المعاناة إذ بات عبور إحدى بوابات «باب شرقي» الثلاث كابوساً يصلّون لانتهائه شاكرين اللـه (لأول مرّة في حياتهم ربما) لتأخر المطر عن الهطول هذا العام، فلو شاءت الأقدار وهطل المطر فهم لابد محكومون بارتداء (جزمات مطاطية) لتفادي غرقهم في الأوحال وتعريض أنفسهم لشتى أنواع الاتساخ، وحسب أحد العابرين: «وكأن المكان ساحة حرب... اللـه ينجينا من شي أعظم»، وإن كان هذا رأي سكان دمشق، فما رأي الوافدين الأجانب؟ هل يعقل أن نزودهم بدلائل جديدة عن مدى الإهمال الذي تعانيه مرافقنا الأثرية والسياحية؟!.
وجاء الحدث الأبرز في تاريخ الحي (التاريخي) على شكل انهيار أصاب واحداً من أقدم محاله الشعبية، منذراً ما يحيط به من بيوت يناهز عمرها مئات الأعوام بالمصير نفسه، وأكد السكان أنه «ما إن وصل العمال بحفرياتهم إلى عمق ثمانية أمتار، حتى قسمت إحدى الآليات العاملة قسطلاً رئيسياً للمياه، لتفجر نبعاً لم تفلح جهود القائمين على العمل في إيقافه قبل ساعة من الزمن، ما زاد في تخلخل التربة التي تحمل على أكتافها أجمل بيوتات دمشق القديمة، فكان أن تهاوى واحدٌ من المحالّ بكامل محتوياته في الحفرة الواسعة، وتراكض العمال لدفن بقاياه على مرأى صاحب المحل (أبو ميشيل) الذي تضرر بما يزيد على ثلاثمئة ألف ليرة سورية، والذي لا أحد يدري إن كان سيُعوَّض عن خسارته»، وعند السؤال عن أسبب الحادث فإن الجواب واحدٌ: «غياب الدراسة وتجاهل معطيات الدراسات السابقة».
لقد كان باب شرقي مدخلاً للكثير من الأحداث والشخوص التاريخية في حياة دمشق، لكن الحدث الأبرز اليوم هو إغلاقه ليتحول إلى ساحة للهدم بحجة البناء، وإلى دليل على الإهمال وسوء التدبير، وإلى مسرح لمعاناة السكّان لا يغيب عنه سوى شخوص المسؤولين عن توريطه وتوريطنا بأحلام الترميم ودون أدنى شعور بالمسؤولية، تاركين (الشقا على من بقى) من عمال يغوصون في الأوحال دون مرشد أو دليل.
فهل هذا هو تعريفهم «لإعادة التأهيل» أم إنه مجرد خطوة على طريق تخريب ما تبقى من ملامح دمشق الأثرية، وإبعاد الطمأنينة عن وجوه سكانها؟! وهل هذا ما ستبدو عليه دمشق 2008 عاصمة الثقافة العربية عشية تتويجها؟ حُفرٌ تشوِّهُ شوارعها القديمة وحُزنٌ يشوبُ وجوه قاطنيها وعابريها.
لماذا هذا التلكؤ في تنفيذ المشروعات الملحة؟ ولماذا دائماً ننتظر اللحظة الأخيرة للبدء بحل المشاكل المتراكمة؟! طبعاً لن نحصل على جواب، فهذا (للأسف) ما عودتنا عليه الكثير من الجهات المسؤولة في بلدنا. لكننا لن نتعب من الإشارة إلى الأخطاء، فهذا واجبنا.

وسيم الدهان

المصدر: الوطن السورية


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...