أنسي الحاج: ظــــــلال

28-02-2009

أنسي الحاج: ظــــــلال

الليل المتقدّم أقلّ إحباطاً من الغروب. أمّا الظلال، فتحتَ الأشجار عقيمة، وهي غيرها في بعض المنازل، حيث يتداخل الدفء بالبرود: ظلال حافية الأقدام، تبتسم لنفسها كصبيّة مقبلة من صابون الحمّام. تتهامس خيالات الردهة. زجاج الشبّاك العالي في الباب يضحك من قضبان حديده. بابٌ وراءه غياب السلطة، نعاجٌ حرّة، شَعْرٌ مُسرَّح على دلاله، خطايا نصفيّة برسم الارتكاب. بابٌ على النسيان، ينفتح وينغلق كالبحر.
ظلال الخارج مستعارة، ظلال المنازل مُمْتَحَنة، الوعي لديها خَدَر والخَدَر وعي. هنا، وراء الباب المراوغ، الذي لا يعرفه الأهل، هنا الزمن محموم بين الصِّغَر والكِبَر، قبيل الكحل، لا حاجة للكحل، الكحل طبيعي.
ولا ضرورة للبوح، الأيدي بليغة. الضحكات المكتومة تغصّ بالوعود. الأقدام الحافية، أطياف الجواري، عَبَق بخور الجسد. فوح مرشّات الحديقة، ماء الورد، درّاق القُفَّة، أريج القمح المسلوق، السكّر، والسكّر الآخر. لا ضرورة للتعارف، كلُّ شيءٍ هو هذا التلاقي بين المَطَرة والشلاّل، بين البريء ومَن سيُغويه.
وينعقد الوقت في البهو بين الاكتشاف وخوفه، تشتاق الثمرة إلى مفارقة غصنها، واليد لا ترفض القطاف، لكنّها لا تعرف كيف تريده، وتَجْمد عند المؤجّل المُهْدى على الحافة...
التأجيل. الفَرَج الذي في التأجيل. ديمومة المؤجّل المفعمة بالشَّهْد، في هذا الممرّ الظليل للموقت. هذه الجملة لرونيه شار: «ما السعادة غير قَلَقٍ مُرْجأ». القلق الممحو إلى الأبد هو الفردوس قبل الطرد منه، والفردوس قبل الطرد منه كان مسرح التهيئة للفتنة. كذلك القلق المضمحلّ إلى الأبد: هدوء يجهل أنه ما قبل العاصفة. أمّا القلق المُرْجأ إلى حين، فنعيمٌ يستلذّ العفو عنه وهو يتحسّس رقبته. إنّه يُقدّر النعمة.

يعود القارئ من تَصفّح الجرائد كما يعود الطائر من أرض الصيّادين. بالغُنْم ذاته يعود من كل شيء. لي صاحب يُقسم كلّ مرّة ألاّ يخوض في حديثٍ مع أحد، لا حديث سياسيّ ولا سواه، ودائماً يتراجع. عقصة الضجر، خشية الرسوب في السكوت، الحاجة إلى غير هدير المونولوغ. يضايقُ «الحوارُ» صاحبي ولا يتوب. كيف فعل حيُّ ابنُ يقظان؟ روبنسون كروزوي؟ لعلَّ الجزيرة تُغْني بقرودها، أشجارها، بحرها... واحتمال سفينةٍ ما فجأةً.

العودة من الخطر أكرم من السلامة المستقرّة. ليس هناك عودة أجمل من هذه. لا العودة من الشيخوخة إلى الطفولة ولا من الطفولة إلى الشيخوخة. ولا من الحرب إلى البيت ولا من البيت إلى المغامرة. فيلم «الحالة الغريبة لبنجامان بوتون» (براد بيت، كيت بلانشيت، إخراج ديفيد فينشر) - الرجل الذي ولد طفلاً في عجوز ثم راح الطفل فيه يكبر والعجوز يتضاءل، حتّى عاد إلى الرضاعة والأرجح مشحوناً بذكريات العمر - يصوّر آخر نظرة للرضيع إلى حبيبته التي أضحت مثل أمّه. نظرة رضيعٍ عارف، رضيع تَلَقَّف جهلُهُ كلَّ شيء، نظرة تقول ما تعجز الحياة عن قوله ولا يُفصح عنه الموت. قصّة سكوت فيتزجيرالد الباحث، بالمقلوب، عن الزمن الضائع، قصّة لا تشبه قصة. ومع هذا، لا يزال موت العجوز، بل موت الكبير عامّةً ولو لم يهرم، أرحم له ولنا من موت هذا الرضيع الطاعن في المعرفة.

من بعيد، يتراءى الأشخاص أشدّ جاذبيّة. والبعيد قد يكمن في القريب، كما في الوجوه العابثة وراء تلك الأبواب، عند نسائم بعد الظهر، بل وعند نسائم ما قبله أيضاً. في عادات الهوى يُنسى النهار. الليلُ مكرَّسٌ للعشق، ولهذا، الليلُ رسميّ ومرغوب لغير طقوسه. وهل هو، كما يقال، إلاّ غياب النهار؟ وها هو النهار في فيء المنزل المنهمكة بناته بإدخال جيران مدهوشين، كحمّال ألف ليلة وليلة، من باب الأسرار. نهار كهذا هو ليل. هو الليل الطازج السابق لليل التكريس. ارفضْ كلَّ تكريسٍ لا يثور على نفسه. ارفضْ كلَّ رقادٍ لا يحملك من ظلّ إلى ظلّ. ارفضْ كلَّ جدارٍ لا يحمي معاصيك.

يقول نوفاليس، في «أناشيد من أجل الليل»، إن الليلَ قد فَتَّح فينا عيوناً لانهائيّة تصل نظراتُها إلى ما وراء النجوم. لعلّها، لهذا السبب، تشتاق، عيوننا هذه، إلى مداعكة النهار، جزءاً وراء جزء، والنفس تجد في مباذلها خلاله متعة لا تجدها في تهتّكات الليل. وحين نتحرّك أو نستسلم في الليل فإنّما على ضوء النهار، نهار الذاكرة ونهار العري. النهار مدلَّلٌ بالعصافير، والليل كهوفٌ مهجورة.

«أعطيتُ الشمسَ كلَّ شيء، كلّ شيء، إلاّ ظلّي»، يقول ابوللينير. وتُردّد ذلك معه بنات الغرف المستحمّات في مغاطس الكبت والعنبر. إنهنّ الضوء في العتمة والعتمة في الضوء. نكهة المسْك والعلْك الشامي، مجونُ ابتسامةِ ملاكٍ ـــــ ملاكةٍ تعلن وتبطن شيطاناً غير واضح. شيطانٌ في منطقة اللّاشروق واللّاغروب، المنطقة المنزوعة الهويّة، حيث تهدأ الحدود بين جبلين، ويُسمح بالوجود والتلاقي لظلال الظلال.
أيّتها الغرف الطريّة الرطبة الغامضة، أنتِ نساءُ المدنِ وحوريّاتُ القرى، هل يتبقّى من الذكرى إلاّكِ؟ ولن تعصف بكِ شمسٌ أو يجرفكِ طوفان، فقد أصبحتِ الأرواح المسكونة بعدما كنتِ البيوتَ الساكنة. لا يتبقّى إلاّ هذا الثلج الحليبي المتناثر في حَلْق الذاكرة، يجمدها عليه فَيَجْمد هو، وتحاول هي التقاطه فيتأجّج التهابها.
كانت تمطر يوم ذلك الباب. ولم يكن ثمّة تدفئة. كانت الزخّاتُ تعربد على الشبابيك والجوّ في الداخل مشمس تحت الأفياء. شمسُ الضحكات المكتومة والأكتاف العارية. شمسٌ تبزغ من بين الأسنان.
أنتَ مَن يفكّر العكس، لا تحسب الظلال سوداء. الظلال هي هَمْس البياض، الشفاه المتشوّقة إلى الحليب. الظلال هي الأقدام الحافية على بلاط نَسّْلِ الوقت من الأهل. ولا تصــدّق أن الشمــس واحــدة، فلكــلِّ ظــلٍّ شمس ولكلّ جَسَد شموس، وعلى حجم شموسكَ تكون إقامتك.
والظلُّ ليس مسؤولاً عمّا يحصل بسببه.

أَنْعَمُ الحضورات الظلّ. أنعم الظلال تَنَقُّلُكِ كفراشة بين الأروقة، في رخاوة المنزل. الحضور حدود فظّة ولا يُحَبُّ إلاّ بمقدارِ ذوبانه. الحضور إرهاب والغياب امرأة. المرأة احتجاب الحَجَر لحساب الهواء. أنتِ مسرحُ الظلال والعالم أمامكِ طفل.
وأنتِ، مجسّمة أو هاربة، مَغْفرة للذنوب. في صميم الوصال معكِ انفصالٌ إلى النسيان. كما يأتي العطر إلى الزهر تَحلّين في روح العينين، كما يتراءى القَصْر في الخيال يتراءى غيابكِ في حضوركِ وحضورُكِ في الغياب. لا مغبَّةَ لخمركِ سوى أطيب منها.
أنتِ الملء لأنَّ زمانكِ ضيّق، وسحركِ قاهر لأنّه وطن الحواس.

ظلال الخارج مستعارة، ظلال الداخل ممتحَنَة، الوعي لديها خَدَر والخَدَر وعي. هنا، وراء الباب المراوغ، الذي لا يعرفه الأهل، هنا الزمن محموم بين الصِّغَر والكِبَر، قبيل الكحل، لا حاجة للكحل، الكحل طبيعي.

أنسي الحاج

 

عابـــرات
إلى الطفولة نعود على رؤوس الأصابع. شَعْر على الثلج. سحر النفانف الأولى. مشالح وقبعات صوف. أحياناً يلتمع الحبر قليلاً. لن ننطلق بسرعة. سنحاول إعادة مطالعة هذه الحكاية حتى النهاية. سوف ننتظر أن يندمل جرح السماء.
Jean-Michel Maulpoix
جان ميشال مولبوا
(بعد ظهر أحد في الراس، 1996)
■ ■ ■
ماذا تشتكين من عجز الكلمات، بينما يكفيكِ أن تتعرّي حتّى تتخذ جميع الأشياء حولك أماكنها بدقّة؟ (...) أنتِ لغة أخرى لا تُحكى: الكلمات فيها تتذكّر معانيها. تحدثينني عن العالم وكأنّه داخلُ بيتكِ. تنهمّين بالطقس، بنموّ الأعشاب وألوان الوقت. راحة يدك ناعمة وممتلئة، وجسدكِ قد فَهِم كلّ شيء.
جان ميشال مولبوا
■ ■ ■
الأوراق الذابلة كلمات متساقطة، صفحات ممزّقة من دفتر حاول أحدهم ذات يوم أن يكتب على صفحاته قصيدة. حلمُ ورقٍ مغموس بالحبر، نوعٌ من فنجان الزهورات التي لا بد أن يكون من شاربيها أولئك الأموات الذين يسعلون تحت التراب البارد.
جان ميشال مولبوا

 

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...