أدونيس:الحداثة العربية مجرد خروج على أوزان الخليل وتنقصها التجربة(5)

24-03-2010

أدونيس:الحداثة العربية مجرد خروج على أوزان الخليل وتنقصها التجربة(5)

جزء أخير من الحوار الذي أجريناه مع الشاعر أدونيس. وفي هذا الجزء يتناول أدونيس مفهوم العالمية الذي استطاع أن يرسخه بعدما ترجم شعره إلى لغات شتى وبات اسمه مطروحاً للفوز بجائزة نوبل للآداب. ويتحدث أيضاً عن عدم ميله الى قراءة الرواية وعن بعض الروائيين، عطفاً على حياته العائلية والعاطفية.

هنا الحلقة الخامسة الأخيرة من «الحوار» مع أدونيس.

 أعود الى الشعر الغربي انطلاقاً من كونك أصبحت شاعراً عالمياً. وفي هذا ما يدفعني الى الحديث عن الشعر الإسرائيلي، شعر دولة عدوة هي إسرائيل. كان محمود درويش يقول إنه عندما كان يقرأ لبعض الشعراء الإسرائيليين الذين كتبوا عن أرض فلسطين التي احتلت، يشعر بالغيرة لأنهم كانوا يكتبون عن الأرض نفسها التي يفترض أن يكتب هو عنها. كيف تنظر الى هذه الإشكالية القائمة في الشعر الإسرائيلي الطالع من أرض فلسطين؟

- لهذه الإشكالية جذورها القديمة في التوراة نفسها. وقد دخلت هذه الإشكالية القديمة في الثقافة العربية عِبْر أنبياء التوراة الذين يعترف بهم الإسلام، ويعدّهم أنبياء له. وفي هذا يلتقي الديني والسياسي والشعري على نحو تناقَضي يُلغي فيه أحدها الآخر. فالشعر الديني السياسي ليس قتلاً للشعر، وحده، وإنما هو قتلٌ للغة ذاتها، من حيث أنه يحوّلها الى مجرد أُدْلوجة أو نظرية سياسية. وكنت وما أزال ضد هذا الشعر، خصوصاً عندما يتناسل في أشكال وطنية – قومية، كما هي الحال في معظم الشعر الإسرائيلي، الذي أتيح لي أن أطّلع عليه، عِبْر الترجمة.

> في إسرائيل جيل من الشعراء ليسوا قوميين عنصريين.

- أعرف. لكن يؤسفني أنني لم أقرأهم. أستثني الشاعر ناثان زاخ، فقد قرأته، مترجماً، ورأيت أنه ذو نزعة إنسانية، وأنه كان صديقاً لياسر عرفات، وهو يقف الى جانب الفلسطينيين وحقوقهم.

> هل يضيرك أن تلتقي بشاعر إسرائيلي في أحد ملتقياتك العالمية، مثلاً.

- كلا. بل أجد في مثل هذا الالتقاء، مناسبة للعمل على كسب هذا الشاعر وجذبه الى القضية الفلسطينية. لكن، شريطة ألا يكون هذا الشاعر قومياً عنصرياً، معادياً للقضية الفلسطينية. لأنه، إذّاك، يكون في صفٍّ واحد مع الذين يُطيلون أمدَ هذه الكارثة الإنسانية الكبرى، ويصرّون على تدمير الهوية الفلسطينية.

> بات معروفاً أنك أصبحت شاعراً عالمياً، وأنك الشاعر العربي الوحيد الذي استطاع أن يبلغ هذه المرتبة العالمية. وهناك رديف لك هو جبران، ونعلم أنك مرشح دائم لجائزة نوبل، وهذا لم يَحْظ به جبران. هل تشعر بسباق بينك وبين جبران؟ هل تغارُ عندما تسمع اسمه؟

- إطلاقاً. على العكس، أبتهج، وأشعر أنني أوسعُ وأقوى. الشاعر يكون كبيراً بين الكبار، لا بين الصغار. لذلك أشعر بالقوة وبمزيد من الحضور، بقدر ما يكثر الشعراء الكبار. كتبتُ عن جبران، وعلّمته في الجامعة، كما لم يكتب عنه أو يعلّمه أحدٌ قبلي. كتبت عنه، بوصفه، قاعدة رؤيوية أولى للحداثة العربية في طورها الثاني، بعد الحرب العالمية الأولى. فأنا أعتقد أن الحداثة العربية الأولى، بدأت بأبي نواس وأبي تمّام.

> لكنك قلت أيضاً في جبران إن أهميته ليست في ما كتبه، وإنما بالأحرى، في موقفه ورؤياه؟ أليس هذا إلغاء له؟

- موقفه من الثقافة العربية، ورؤياه الثقافية، والأفق الذي يتفتّح منهما أكثر أهمية بكثير من منجزاته الكتابية باللغة العربية. وهو في ذلك مؤسسٌ للحداثة العربية. جبران أكثر من شاعر. إنه راءٍ. وكونه رائياً أعمقُ وأغنى وأشملُ من كتاباته باللغة العربية.

> كيف تفسّر، إذاً، سرّ نجاحه العالمي، وهو ليس روائياً كبيراً، ولا شاعراً كبيراً؟

- السر في كونه رائياً، مُفصحاً عن رؤياه بنبرة نبوية. وبِحَدْسٍ شعري، موحداً في ذلك بين النقيضين: الدين والشعر. «والضد يُظهر حُسنَهُ الضدُّ». يجرّك، يوقظ في نفس من يقرؤه شاعراً، شهوة الدين، وشهوة الشعر في من يقرؤه رائياً أو «نبياً».

> أنت حاضرٌ في العالم وآثارك بيّنة في شعراء كثيرين الآن في العالم، خصوصاً في اللغة الفرنسية. لكنك على سوء تفاهم مع الشعراء العرب الشباب. أنت تهاجمهم أحياناً، وهم يهاجمونك أحياناً. ما سبب سوء التفاهم هذا؟

- من جهتي، ليست لي مشكلة مع أي شاعر، أكان شاباً أم لا. ولم أهاجم، شعرياً، بالاسم أي شاعر. أنت تبالغ وتعمّم.

صحيحٌ هناك أشخاصٌ يهاجمونني. والغريب أنهم كانوا ممن شجعتهم، ونشرتُ لهم، خصوصاً في مجلة «مواقف». غير أنه هجومٌ أتفهمه، شعرياً. ولم أردّ عليه، إطلاقاً. فهو، في العمق، لا يكشف عن حالة شعرية، بقدر ما يكشف عن حالة نفسية.

وصحيح أن بعضهم تجاوز المسألة الشعرية الى مسائل أخرى، معظمها تخريصاتٌ وأكاذيب. وهذا لا يليق بالشعر، ولا بالشاعر، وكان كلّه عابراً ومحدوداً.

يبقى أنّ لي مآخذ كثيرة على حركة الحداثة الشعرية العربية. فهذه الحداثة نشأت في مناخ الحداثة الغربية، ولكن دون أن تتمثل مُشكلاتها، أو تبنّتها، دون نقد، أو إعادة نظر، في ضوء التاريخ الشعري والفكري للغتنا العربية.

ولقد قامت الحداثة الغربية على ثورات صناعية وعقلانية واجتماعية، أدت الى نشوء حركات علمية وفنية أدت بدورها الى انقلابٍ معرفي عظيم في جميع الميادين. وهذا كله تختزله الحداثة الشعرية العربية، أو تكاد أن تختزله في مجرد الخروج على أوزان الخليل، في «قصيدة النثر».

كيف يمكن إذاً ألا تكون هذه الحداثة مجرد استعارة شكلية؟ كمثل السيارة، والطائرة، ومختلف الأدوات التي ابتكرتها الحداثة الصناعية الغربية.

كان يُفترض بالخروج على عشرين قرناً من الكتابة الشعرية، أن يكون هذا الخروج قائماً على تجارب كُبرى في اللغة والدين والتراث والحرية والفرد والمجتمع والبحث والسؤال والكون والإنسان والله. أما أن تختزل الحداثة في مجرد الكتابة بقصيدة النثر، فذلك أمرٌ كنت، منذ مجلة «شعر»، أعدّه اختزالاً لا يدلُّ على جَهْلٍ بالحداثة وحدها، وإنما يدل كذلك على جَهْلٍ بالشعر نفسه.

> هناك شباب يقولون إن الشعر لا ضرورة أن يحمل قضية. قضيته هي نفسه.

- بشرط أن يكون شعراً، أولاً. الشعر العظيم هو الذي يمكن وصفه بأن قضيته في نفسه ولنفسه، ولا يوصف هذا الوصف إلا لأنه إنساني – كونيّ تذب فيه متلألئة قضايا الإنسان والوجود.

عندما نقول شعر، نقول ضمناً الإنسان والوجود والصيرورة، وفي هذه تنطوي القضايا الكبرى كلها.

وعندما نقول لا قضية للشعر إلا نفسه، فذلك يعني أنه ليس وسيلة لغاية، أو أداة أيديولوجية أو سياسية لحمل قضية ما، أو الدفاع عنها.

> ما رأيك بالقصيدة اليومية التي تكتب الآن، مثل قصيدة التفاصيل، القصيدة الحميمة، الخفيضة الصوت؟

- لا أعترض على الشاعر في أي شيء يقوله، أكان يومياً تفصيلياً، حميماً، أو كان إنسانياً، كونياً. يمكن الشعر أن يتحدث عن كل شيء، دون حدٍّ أو حصر.

لكن المهم، أو الأساس هو كيف يقول الشاعر هذا الشيء؟ كيف يقاربُه، وما مستوى هذه المقاربة، رؤية، ولغة؟ والشعرية هي هُنا في كيفية قول الشيء، وليست في الشيء بحد ذاته. فلا فضلَ للكونيّ على اليومي، أو لهذا على ذاك إلا بالشعر.

> هل قرأت ريتسوس الذي كان له تأثير كبيرٌ على الشعراء العرب اليساريين، خصوصاً شعراء الحياة اليومية وتفاصيلها؟

- طبعاً قرأته. وقابلته في أثينا، وزرته في بيته. كان يهوى جمع الأحجار المصقولة، طبيعياً، والكتابة عليها، أو الرسم. شاعر كبير. قد يكون أكبر شاعر شيوعي. أكثر أهمية من نيرودا. لم يتخذ من الشيوعية موضوعاً، خلافاً لشعرائها جميعاً، وإنما شَعْرَنها – خالِقاً، في أفقها، عالماً شعرياً، يمكن وصفه بأنه مُعادلٌ جمالي – شعري لماديّتها، وقضاياها المتنوعة.

> وكيف تفسّر أنت رضى النقاد عنك، الى حد أنك الشاعر الوحيد الذي تصدر عنه كتب نقدية بوفرة، في معظم العواصم العربية. كيف تنظر الى عين الرضى هذه التي يوليك إياها النقد العربي، وما رأيك في ما يكتب عنك من دراسات؟

- أنظر إليه بوصفه وعياً عميقاً يعنى بالشعر الذي يطرح أسئلة، ويثير قضايا ترتبط بالوجود والمصير. وبوصفه كذلك أرى فيه رداً ثقافياً ضرورياً على موقف المؤسسة العربية الرسمية، وبخاصة التربوية والجامعية، والحركات والجمعيات والأندية، الناشطة ثقافياً والتي هي رسمية أو شبه رسمية. ففي هذه كلها لا مكان لشعري أبداً. وإنه لشيءٌ يُضحك ويُبكي في آن، أن نرى كتباً مدرسية – تربوية تتحدث عن الحداثة الشعرية العربية، مثلاً، ولا يخطر في بال مؤلفيها العباقرة الفطاحل أن يشيروا حتى الى اسمي. كما ترى، مثلاً، في سورية وفي غيرها من البلدان العربية، وإذاً، في مثل هذا المناخ الثقافي المريض المتخلّف يسعدك أن ترى مثل هذا الوعي النقدي المتقدم، والخَلاّق.

والحق أن معظم الدراسات النقدية التي كتبت حولي، وبينها ما أخالفه في أشياء كثيرة، يُمثّل استبصاراً شعرياً وفكرياً أعتز به، ويجدر بالثقافة العربية الإبداعية أن تعتز به هي أيضاً، قَبْلي.

> كيف تواجه نصاً نقدياً؟

- أنظر إليه متسائلاً: كيف قرأ، وكيف فهم، وكيف كانت مقاربته النقدية، وما الأفق الذي يتحرّك فيه؟

نقدُ الشعر إبداعٌ آخر. النقد، بعامة، إبداعٌ مُركّب: وعيٌ للمادة المنقودة، ووعيٌ لصياغة هذا الوعي في سياقٍ فكري خلاّق.

> ألا يُخيفك هذا الإجماع النقدي؟

- ليس هناك إجماعٌ، خلافاً لما تظن. شعري، على العكس، يشطر النقد العربي، كما أدونيس وخالدة وابنتهما أرواد في السبعينات لا يشطرهُ أي شعر آخر.

> أرى أن النظرة الإيجابية إليك، تغلب النظرة السلبية.

- إذاً، ليس هناك إجماع.

> وأين موقع خالدة في هذا السياق؟

- بين أعمق من يفهمني.

> عندما تقرأ خالدة، ناقدة، هل يرد طيفها، زوجة، أم تقرؤها بتجرّد؟

- أقرأ ما تكتبه عني وعن غيري بحيادٍ كامل. أحياناً أخالفها الرأي، لكن لا أفرض رأيي عليها، إطلاقاً، حتى في ما يتعلّق بنظرتها الى شعري. وأحياناً تكتب عن أشياء لا أجد فيها ما يستحق تعَب الكتابة. حتى في هذا لا أتدخل.

زواجنا هو قبل كل شيء صداقة عميقة. واختلافنا في الآراء جزءٌ من هذه الصداقة.

> إذا سئلتَ عن المرأة الأولى في حياتك، بعد أمك، فما جوابك؟

- عبلة الخوري. هي المرأة الأولى التي بدأتُ، بسحرها، أتعرّف على الأنوثة، وأكتشف الحياة، وأتعرّف على نفسي.

الى ذلك، هي التي عرّفتني بخالدة.

> هل كان بينك وبين خالدة قصة حب؟

- طبعاً. قصة طويلة. بقينا ست سنوات بين 1950 و1956، نسبح في أمواجٍ مُتلاطمة من مَدّ الحب وجَزرْه. وعندما تزوجنا في اللاذقية عام 1956، قام والدها بدفع نفقات زواجنا، دون عُرسٍ أو احتفال، وذهبت هي الى دمشق لتمضية فترة من الحكم عليها بالسجن، بسبب نشاطها السياسي، وجئت أنا الى بيروت.

هكذا حللنا مشكلات الزواج بوصفه مؤسسة، قبل زواجنا، وأحللنا محلها الصداقة وروابطها، مُستضيئين بما يقوله أبو حيان التوحيدي: «الصداقة آخرُ هو أنتَ».

> هكذا، لم يكن زواجكما مؤسسة تقليدية.

- كما أوضحت لك، غير أن هذا لا يعني أننا لم نُواجه في زواجنا – صداقتِنا، إشكالات كثيرة، ومتاعب متنوعة. غير أننا انتصرنا عليها، وتجاوزناها، بقوة الصداقة. خالدة امرأة نادرة.

> لكنك معروفٌ بحياتك العاطفية على هامش الزواج. هل كنت تشعر بأنك تخونها، مثلاً، إذا أحببت امرأة أخرى، ولو أن هذا من حق الشاعر؟

- لا أحبّ كلمة خيانة. الجسد خُلاصة كونيّة. وإذا كنا نَكْتنِهُ الكون وأسراره بالعقل، فإننا نحسه ونتذوقه بالجسد. وهذا هو الأكثر غنً. إنه الحياة في نبضها الأعلى، وفي حضورها الأكثر بهاءً وإنسانية.

يجب تدمير جميع القيود التي تُشوّش أو تُعرقل هذا البهاء.

> تتحدث عن الجسد لا عن الحب؟

- عندما تقول حب، فذلك لا يعني بالضرورة حضور الجسد. لكن، عندما تقول جسد، في هذا المستوى الذي نتحدث عنه، فأنت بالضرورة تقول الحب، في شكلٍ أو آخر، قليلاً أو كثيراً.

غالباً، يُختزل الجسد بالجنس. وهو اختزالٌ مُهين. الجسد عالَمٌ بقاراتٍ متنوعة، كلما أوغلت فيه تكتشف مزيداً من العوالم والقارات.

الجسد هو الكون كله في شهيقٍ واحدٍ، وزفيرٍ واحد، أو في ثوب واحد.

> هل عشتَ تجاربَ حبٍّ أليمة، أو ما يُسمى عذاب الحب؟

- لا. أبداً.

> هل أحببت امرأةً لم تحبّك؟

- تمنّيت كثيراً أن أقعَ في مِثل هذه الهاوية. لكن لم يُسعفني الحظ .

> نلاحظ أنّك لم تكتب كثيراً قصائد حب؟

- صحيح. بالمعنى الذي تراه عند شعراء كثيرين، حيث يتحوّل الحب الى «موضوع»، والمرأة أو الرجل الى «محبرة» تُغَطّ فيها ريشة الشاعر أو الشاعرة.

الحب، بالنسبة إليّ، مدارٌ كوني، والمرأة أنوثة والكون. وعلى هذا المستوى، كتبتُ كثيراً في الحب، كما لم يكتب أي شاعر عربي. أَعِدْ قراءة شعري.

> هل يمكن أن تحدّثنا عن بعض علاقات الحب، دون أن تسمي؟ عن المرأة التي تجذبك، وتمارس سحرها عليك أكثر من سواها؟

- لهذه العلاقات، لهذه المرأة، سرٌّ خاصٌ يتعذر تفسيره. كيمياء تذوب فيها التناقضات، وتتعانق الأقاصي. منطقٌ مادي – حيوي يتضاءل أمامه منطق العَقْل. ذلك أنه ضوءٌ أبعد من الضوء.

استناداً الى خبرتي المحدودة أجد في المرأة العربية ما يُوضح المعنى الذي أشير إليه، وما يجسّده، أكثر مما أجد في المرأة الغربية، مثلاً. فهذه، مِن جهة العلانية، من جهة الثقافة. أما تلك، فمن جهة الكتمان. عندها ذخيرةٌ من الغرائز، والمكبوتات على جميع الأصعدة، تجعلك تشعر أنها مكانُ اكتشافٍ دائم. وتجعلك تشعر أنّك معها أكثر التصاقاً بعوالم الخفاء، وعوالم اللذة والمِتعة، وأُنوثة الكينونة.

يمكن أن نذكر في هذا الإطار نفسه المرأة في الشرق الأقصى: الهندية، الصينية، اليابانية.

> هل تستطيع أن تقيم علاقة مع امرأة جميلة وليست مثقفة، مثلاً؟

- الثقافة، أحياناً، في هذا المجال، حجابٌ وحاجز. إلا، في حالاتٍ استثنائية.

> والمرأة الشاعرة، هل تعتقد أنها اكثر جنوناً في الحب؟

- يصعب الجَزْم. بالنسبة إليّ، على الأقل. علماً أن المرأة الشاعرة مهيأة، بحكم تاريخها الأنوثي، وأوضاعها الدينية والاجتماعية، أن تخترق، وتَرُجَّ، وتعلوَ أكثر من الرجل الشاعر.

> أي امرأة ترتاح معها أكثر في لحظة حب؟ الشاعرة؟ المفكرة...؟

- الأساس في مثل هذه الراحة أن تكون المرأة تحبّك، بكل ما في هذه الكلمة، من أبعادٍ ودلالات.

لا تتفتح طاقات الرجل إلا مع امرأة تحبّه بجميع طاقاتها.

> لم تعش أية خيبة حب؟

- أبداً.

> هل مرّت في حياتك فتيات صغيرات جددن فيك نارَ الحب؟

- نعم.

> لكن علاقاتك لا تدوم؟

- كل ما هو جميلٌ معرّضٌ لزوالٍ سريع. ولكن يجب الحرصُ على ان يكون هذا الزوال جميلاً، هو أيضاً.

> هل اختلفت مع امرأة، ولا تزال على خلاف معها؟

- نعم.

> خالدة لا تفاتحك بهذه القضايا؟

- أبداً. كذلك أنا، لا أسألها عمّا تفعل.

> إنها ديموقراطية جداً.

- ديموقراطية وحرّة.

> وعلاقتك بابنتيك، أرواد ونينار، اللتين لم تحضر كثيراً في تربيتهما؟

- علاقة صداقة وديموقراطية. نتحدث بصراحة كاملة عن كل شيء، وفي كل شيء. الكتاب – الحوار بيني وبين نينار مثلاً، مثلٌ حيّ. وهو كتابٌ صدر بالفرنسية عن «دار سوي» في باريس، وتُرجم الى لغات عدة، وسوف تصدر قريباً ترجمته العربية عن «دار الساقي» في بيروت.

> من هو أدونيس في مرآة أدونيس؟

- هو الباحث عن نفسه باستمرار. وكلّما بدا له أنه يرى صورته في هذه المرآة، يرى أنها تبتعدُ وتتلاشى. لذلك سأل مراراً، ولا يزال يسأل: من يقول لأدونيس من هو؟

> أنت، بهذا المعنى، نرسيس؟

- آتياً من المستقبل، لا من الماضي. نرسيس ضد نرسيس.

> مَن هو علي أحمد سعيد إسبر في مرآة أدونيس؟

- لا شعورٌ فرديّ وجَمْعيّ في آنٍ، حيناً. وشعورٌ فرديّ – جمعيٌّ، حيناً آخر.

> ما رأيك بما قاله جابر عصفور عن «زمن الرواية»، وقد باتت هذه المقولة مضربَ مثل سائر. وغالباً ما تردّد أنك لست من قراء الرواية؟

- النثر، تأملاً أو سرداً كان عند العرب، بدءاً من نشوء المدينة أو الحاضرة، أكثر من الشعر، كمّاً، ولم يكن نوعاً أقل أهمية – خصوصاً على الصعيد اللغوي – الفني. الجاحظ، أبو حيان التوحيدي، النَقري، وبعض مؤرخي الأحداث كالمسعودي في «مروج الذهب»، والأصبهاني في «الأغاني»، كانوا في نثرهم شعراء كباراً.

لو أن الرواية العربية في هذا الزمن أسست أو تؤسس لعالمٍ سردي جديد، فنياً وفكرياً، لغوياً وإبداعياً، لكان يصح وصفه بأنه «زمن الرواية». غير أن انعدام هذا التأسيس يجعل من هذا الوصف إشارة الى نوع من التخلّف عن «زمن الشعر» عند العرب. ويبدو، تبعاً لذلك أنه إشارة الى نوع من التخلّف عن «زمن الشعر» عند العرب. ويبدو، تبعاً لذلك أنه إشارة الى انحسار الوعي الخلاّق، واللغة الخلاّقة، والقراءة الخلاّقة.

وعندما أقول لستُ من القراء الذين يتابعون بشغف قراءة الرواية العربية، فلأنني أفتقد في حركتها العامة الغالبة هذا التأسيس، أو هاجس هذا التأسيس.

ولا يعني ما أقوله هنا أنني أنفي وجود روايات مفردة بالغة الأهمية، وروائيين مُفردين خلاّقين.

> كنت صديقاً للروائي يوسف حبشي الأشقر. ما هذه العلاقة التي جمعت بينكما؟

- يوسف حبشي الأشقر روائيٌّ يسير في أفق الروائيين الكبار في العالم: لا يفصل في رؤيته وشخوصه بين الكينونة وهاجس المصير، بين جسد الواقع وجُرح الغَيب، بين ضوء الطبيعة والعتَمة الماورائية. لا يقف عند حدود الجسد – الفرد. مشروعه الروائي قائمٌ على إعادة النظر في أسس العالم القائم، وفي القيم التي تحكمه، والآلة التي تُسيّره، بحثاً عما يتيح للإنسان بوصفه كلاً، كينونة شاملة أرضية – سماوية، أن يؤسس لعالمٍ أفضل، أي لإنسان أكثر انعتاقاً. بحيث تكون الحرية هي نفسها حرة، وفقاً لعبارة رامبو.

هذا مما ولّد بيننا صداقة عميقة، شخصية وثقافية.

> ونجيب محفوظ؟ هل قرأته؟

- قرأت نجيب محفوظ مع طُلاّبي في الجامعة اللبنانية، في كلية التربية وبعدها في كلية الآداب، في سبعينات القرن الماضي. روائيٌّ كبير، أكبر ما فيه أنه أوصل الفن الروائي في القرن التاسع عشر الأوروبي الى ذروته في اللغة العربية في القرن العشرين الروائي العربي، وأن كلَّ من سار في طريقه من العرب كان دونَه، أو في ظِلّه.

> هل شعرت يوماً أنك في حاجة الى مع نجيب محفوظ كتابة نص نثري؟ هل تعتقد أن الشعر أتاح لك أن تقول كل ما تبغي قوله؟ وهل تعتقد أن العصر عصرنا بات يحتاج الى النثر؟

- كنت دائماً أكتب النثر، منذ أن بدأت كتابة الشعر. هما بالنسبة إليّ أمران متلازمان، كلاهما يستضيء بالآخر، ويكتمل به. لا يقول الشعر كل ما يحلم به الشاعر أو يريد أن يقوله. التعبير، نثراً أو شعراً، يُضمر بطبيعته عدم الاكتمال. يقوم، جوهرياً، على حركية توالدية، ذاتية – موضوعية، تظل في حاجة الى الابتداء والاستئناف.

وليس العصر، وحده، هو ما يحتاج الى النثر. يحتاج اليه الشعر نفسه. استطراداً، يمكن القول إن النثر عند بعض الشعراء العرب، أنسي الحاج ومحمود درويش، تمثيلاً لا حصراً، يُضيء شعر كليهما وشعريته بعناصر وأبعاد لا نراها في شعرهما ذاته.

عبده وازن

المصدر: الحياة

أدونيس: محمود درويش عرف كيف يرثني وجماهيريته كانت ضده(4)

أدونيس: قصيدة النثر لا تعني بذاتها شيئاً (3)

أدونيس: القومية العربية لم تجذبني وحافظ الأسد خلص البعث من طفولته(2)

أدونيس:تركت العائلةمراهقاً وانتمائي الى الحزب أخرجني من العشيرة(1)

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...