«الجنّة الأوروبية» تحت أقدام المهاجرين

30-09-2016

«الجنّة الأوروبية» تحت أقدام المهاجرين

تحتل صورة لعائلة «الخضير» السورية غلاف عدد تشرين الأول 2016 من مجلة «ناشونال جيوغرافيك» (تأسست العام 1888 وانضمت إلى مجموعة روبرت مردوخ العام 2015). إلى جانب الصورة عنوان عريض: «الأوروبيون الجدد - كيف تقوم موجات من المهاجرين بإعادة تشكيل قارة».الصورة الرئيسية على غلاف «ناشونال جيوغرافيك»
يرتبط الغلاف بمادة مطولة (حوالي 7000 كلمة) للكاتب الأميركي الأصل روبرت كونزيغ، هي حصيلة عمل امتد لأشهر في عدد من الدول الأوروبية، وذلك بالاشتراك مع المصور الشهير روبن هاموند صاحب صورة الغلاف وعدد كبير من الصور ومقاطع الفيديو في العدد الالكتروني نفسه.
يروي عدد من المهاجرين، في مقاطع الفيديو القصيرة والاحترافية المرافقة للمادة المكتوبة، نتفاً من قصص هجرتهم وانطباعاتهم عن «أوطانهم الجديدة». المشترك في رواياتهم هو الأقوال الآتية: «أتينا هرباً من الحروب والقتل نحو الأمان، نحن مسرورون جداً ولقينا ترحيباً كبيراً، كل شيء هنا جميل والحياة كأنها الجنة..». وكما جرت العادة لا بدّ من استكمال «الفسيفساء المقدسة» عبر قائمة معدّة سلفًا تجمع فتاة صغيرة، بصبية محجبة، وشاب معوق، وعجوز باكٍ، ومثلي الجنس، ومثقف، ومسلم، وسيخي...
إنه حال إعلام يصر على الادعاء بإيمانه أن «الإنسان واحد أياً كانت هويته»، ولا سبيل ينتهجه في التعبير عن «الهوية الإنسانية الواحدة» إلّا بوصفها تجميعاً للوحة من الهويات الثانوية التي يصر مع ذلك على أنها متناقضة في ما بينها، بل ومتحاربة أحياناً.
المادة المكتوبة، لا تختلف كثيراً. فهي مجموعة من روايات وقصص المهاجرين التي عايشها الصحافيان. لكنّ ميزة المادة المكتوبة، أنها تفصح بالكلمات - أكثر مما تفعل الصور ومقاطع الفيديو - الرسالة المراد توجيهها.
تبدأ المادة بتثبيت أمر واقع هو أنّ البلد الذي لطالما كان معروفاً بأنه «الأكثر كرهاً للأجانب»، أي ألمانيا، هو ذاته الذي يستقبلهم اليوم بأعداد أكبر من أي بلد أوروبيّ. من هذا المنطلق، ينسج الكاتب قصة نفسية ترجع «الترحيب الألماني، الشعبي والرسمي، باللاجئين» إلى رغبة ضمنية في تجاوز الماضي العنصري للنازية، ولا يفوته بطبيعة الحال المرور على الهولوكوست في موضعين من مادته. أما عن حالات رفض المهاجرين، فهي امتياز النازيين الجدد دون غيرهم وفقاً للكاتب، وهؤلاء لا يرفضونهم لأسباب سياسية أو اقتصادية، بل لأسباب «تعصبية».
وفقاً لهذه الرواية تغدو مسألة قبول اللاجئين أو رفضهم، مسألة «حضارية» في جوهرها، بين من يرحب بتلاقي الحضارات ومن يؤمن بصراعها، وفي الحالتين تبقى الخلفيّة السياسيّة ـ الاقتصادية غائبة. فلا مكان هنا للحديث عن هجرة العقول من بلدان العالم الثالث بوصفها إحدى أهم أدوات «النهب»، ولا مكان أيضاً للحديث عن دور هذه الحكومات نفسها، في أزمات البلدان التي يأتي منها المهاجرون.
المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، تظهر ضمن المادة بصورتها النمطية الملائكية. ولا يقتصر مديح الكاتب للمسؤولين الأوروبيين على ميركل، بل يشمل غالبيّة الحكومات الأوروبية، في خلط واضح بين مواقف عامة الناس في أوروبا، وهي مواقف إنسانية ومرحبة بمعظمها، ومواقف السياسيين الملتبسة والمتغيرة وفقاً للظروف.
في عمق هذا الطرح الذي يوحد بين الأوروبيين وحكوماتهم، المقولة الأورومركزية الممجوجة حول «الاختلاف الحضاري»: فالحضارة الأوروبية إنسانية مرهفة الحس لا يخرج عن إجماعها هذا إلا بعض المتطرفين، مقابل حضارات أخرى تملأها الحروب والعصبيات والتخلف، ما يدفع أفراداً منها للهرب صوب «الجنة الأوروبية»..!
يجري تأكيد هذه المقولة على لسان «شاهد من أهله»، فبين الشخصيات التي يلتقيها الصحافيان شيخ مسلم يؤكد أن البلدان الأوروبية لا تصلح لعيش المسلمين، كذلك رجل تركي يفتخر بأنّه يعتبر برلين مجرد مكان للإقامة، لكنه يمارس فيه «تركيته» كاملة، ابتداء بنرجيلته الظاهرة في الصورة، ووصولاً إلى مختلف تفاصيل حياته.

مأمون الحاج

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...