غسان الرفاعي: حوار بين الاستنقاع والعربدة

12-03-2012

غسان الرفاعي: حوار بين الاستنقاع والعربدة

-1-

بين الخوف من أن يستنقع المثقف، والخوف من أن يعربد بلا احتشام، يحتدم حوار فظ، ويزداد عنفاً بسبب تفاقم التناقضات الاجتماعية والسياسية،  ولئن كان المباح فيما مضى، الاستجابة لإغراء اللامسؤولية والهامشية، تحت ذريعة الحياد والزهد، فإن المثقف حالياً، لا بد من أن يكون في مغطس ما مهما فعل، حتى لو احتجب وراء برج عاجي قد ينصب نبياً واعظاً، وقد يلعن منبوذاً شقياً، وقد يساق إلى الصمت الأنوف ولكنه لا يستطيع أن يحلق فوق عصره، ولا أن يفر من كوابيسه، إن الدراما الكونية المعاصرة قد فرضت على المثقفين أن ينقلبوا من جمع النفايات، إلى تجار فضائح، بعد أن ألزمتهم إلى التسكع العقلي العابث، والتمسك بذبالة من نبالة، في عالم تسوده النذالة!.

-2-

مؤلف كتب جريئة أربعة مقاول نجح في ميدان الأعمال، وهو واثق أنه سينجح في ميدان الأفكار، وإذا كان بارعاً في قبض عمولته نقداً بعد كل عملية تجارية ناجحة، فهو قانع أنه يقبض عمولته مؤجلاً، بعد الترويج للأفكار الجديدة، وإقناع أكبر عدد من الناس بجدواها وبمردودها يكتب في مقدمة كتابه: مازال الإنسان مغزواً بالهموم والآلام، يراوح مكانه فريسة للريبة والهلع، بالرغم من تكاثر السلع الإيديولوجية المطروحة، المشكلة الكبرى أن عالم التنظير لا علاقة له بعالم الواقع، ومن هنا شعورنا جميعاً بأننا لقطاء، وأننا بحاجة إلى تحديد نسبنا، والانتماء إلى أرومتنا الشرعية.

وينهي مقدمته بهذا الاعتراف: عالم القدامى ليس عالمنا، ولكن الأسئلة التي طرحوها لم تتغير، لم يكونوا يكتفون بالكلام، بل كانوا يمارسون أفكارهم يومياً وهم يحاولون قدر المستطاع أن يخففوا التناقض بين الفكر والحياة حتى ولو تعرضوا للسخرية، مازلنا نحتفظ بصورة أبيقور وهو يلهو كصغار الصبيان في حديقة منزله، وهو يفتح شرايينه بغبطة وسعادة تنفيذاً لأمر سيده، من دون تذمر ولا شكاية وصورة بيرون، وهو يتابع طريقه من دون اكتراث، في حين كان أحد أصدقائه، يغرق، أو نيوجين وهو يجرجر جرته وفي يديه شعلة وسمكة مازالت على قيد الحياة.

-3-

أولاً: الانسان الأبيقوري، خلافاً للصورة الكاريكاتورية عنه، ليس «الرجل الداعر» الذي يطلق العنان لشهواته، ولا يحقق ذاته إلا في الفجور، إنه يملك الوصفة السحرية التي تحررنا من القلق، وتبعدنا عن الأخطار والعذاب، وتوصلنا إلى السعادة، ولكن السعادة لا تتوفر في الرفاه المادي، ولا في إشباع الغرائز، وإنما في الراحة النفسية التي تستبعد الآلام والمنغصات لا بد إذاً من إزالة مصادر الخوف، التي تتجلى في الخوف من الآلهة والخوف من الموت يقول أبيقور:

إذا كان الآلهة موجودين، فإنهم لا يكترثون بشؤون الناس، إنهم قانعون بالاكتفاء الذاتي، لهذا لا معنى للخوف منهم، أما الموت، فلا يجوز أن يؤثر فينا، ومن البلاهة الخوف منه، لأن لا شيء يبقى بعد الموت.

يقول هوراس أحد تلامذة أبيقور: لنتمتع كامل التمتع باللحظة الراهنة، لأن الحاضر هو زمن السعادة ولا معنى للتفكير في المستقبل إذا لم نتحرر من القلق، ولكن السعادة لا يمكن أن تكتمل ما لم نميز بين الملذات الطبيعية والضرورية، والملذات الطبيعية غير الضرورية، ومن هنا قد يبدو الأبيقوري، وكأنه متقشف عن سابق تصور وتصميم.

ثانياً: الإنسان الرواقي لا يستسلم، ولكنه يتعاون مع القدر، إنه يميز بين ما يعتمد علينا وما لا يعتمد علينا، يقول زينون: «أفكارنا وأعمالنا تتوقف علينا، أما نظام العالم فيتوقف على القدر، ومن العبث النضال ضده، ولهذا يجب علينا أن نغير ونعدل مواقفنا، كيما نتفق مع ما يجري حولنا.

ويعطينا ابيكيت المثال التالي: هدف التصويب هو ليس إصابة الهدف، لأننا لا نستطيع أن نتحكم بكل ظروف الحدث، إذ قد يتسبب ضغط الهواء في انحراف السهم عن هدفه، وهنا لسنا مسؤولين، وإذا ما كسر ساقي أو صدمتني سيارة، فما علي إلا أن أتقبل ما جرى لي، وأن أعترف أن ما حدث لي كان ينبغي أن يجري، بل يذهب الرواقي إلى أبعد من هذا، فيزعم أنه من الأحسن أن يكون قد حدث لي، إذ قد يكون لخيري أن الرواقي لا يستسلم ولا يذعن، ولكنه يفتش عن الامتثال والقبول، إنه لا يخضع للضرورة، بل يرحب بها، ويجد فيها مصيره، إذ يعد الضرورة أمراً طبيعياً، وقد يكون لصالحه.

ثالثاً: الإنسان الارتيابي يرفض كل أنواع اليقين، ويمكن أن يكون حمار بوريدان هو الصورة الكاريكاتورية له، كان هذا الحمار جائعاً وعطشان، وكان على مسافة متساوية من سطل الماء ومن علبة العلف، ولكنه كان عاجزاً عن اتخاذ القرار، فكان ان مات من الجوع والعطش معاً.

الإنساني الارتيابي يرفض كل المعتقدات المستقرة، سواء أكانت سياسة أم دينية أم اجتماعية، إنه لا يفتش عن تبرير ما سيفعله، وإنما يتحرك بعفوية وفق ما تقتضيه ظروف الساعة.

هو يقبل قوانين الحياة كما هي، ولا يعترض على تطورها من دون إكراه أو ضغط، لا ينتظر ما هو أسوأ ولا ما هو أحسن، مكتفياً باتخاذ موقف عدم الاكتراث بما جرى في العالم، أي الامتناع عن اتخاذ موقف سلبي أو إيجابي من الأحداث.

رابعاً: الإنسان التهكمي لا يمكن أن يحقق أغراضه، إلا عن طريق السفاهة، أو إذا شئنا «التخريب الفوضوي» والمطلوب إعطاء معنى للحياة خارج نطاق العائلة والمجتمع، خارج نطاق المشروعية والاعتراف، وحيث يتفاخر الكل بالصداقة، يمجد التهكميون المسافة التي تفصل الإنسان عن الآخر، ويبالغون في تأليه الفردية، والاكتفاء الذاتي، يقول نيوجين: إنني أفضل أن أعطر قدمي لا رأسي، لأن العطر المدلوق على الرأس، يضيع في الهواء، في حين أنه إذا رش على القدمين، فإنه يتصاعد منهما إلى المنخرين.

-4-

الأثر الفكري في هذا العصر، يضع كل شيئ موضع تساؤل عنيد، وأبله بعض الأحيان، لا لإثارة حماستنا لتجاوزه وتفتيته، وإنما لتوريطنا في أرجوحة الدوار الفكري، وهذا هو الفارق بين فكر هادف وفكر ملغز، الأول يتشبث بالواقع الإنساني والاجتماعي، محاولاً أن يجد حلاً لما قد يضطرب فيه من تناقض ومحال، والثاني يهتم بشفافية غير بريئة، بالصدى الجمالي لأمثالنا ومصيرنا، لقد أرغم المثقف على طرح السؤال التالي على نفسه: كيف أعطي لوجودي معنى؟ وحينما لم يستطع أن يقهر الفراغ الداخلي، بسبب وجوده في عالم الفيتيش، أخلد إلى نوع من السكر الدائم، تماماً كمدمن الأفيون الذي لا يرى من مخرج إلا زيادة الحقن التي يزرق بها نفسه، في حين أن المشكلة الحقيقية هي في إعادة تنظيم الحياة، بحيث لا يعود بحاجة إلى المخدر الذي يتناوله.

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...