رحلة متوسطية في منتصف القرن التاسع عشر

09-10-2006

رحلة متوسطية في منتصف القرن التاسع عشر

على امتداد شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وفي معظم فصول السنة، تتقاطع الخطوط البحرية التي شهدت في العقدين الماضيين نهضة سياحية ضخمة تمثلت في ازدياد شعبية الرحلات على متن بواخر مزودة بأحدث وسائل الترفيه والتسلية ما يجعلها أشبه بمدن عائمة. وقد انخفضت اسعار مثل هذه الرحلات بحيث اصبحت في متناول أعداد كبيرة من الأوروبيين الذين ما زالوا يشعرون بانجذاب خاص الى شرقي المتوسط.

ولعل هذا الانجذاب كان في صميم الأسباب التي دفعت الرحالة الأوروبيين الى التوجه نحو «الشرق الساحر» أو «الأراضي المقدسة» منذ مطلع القرن التاسع عشر. وكتب هؤلاء الرحالة والمغامرين تركت لنا تراثاً ضخماً يحمل معلومات جغرافية واجتماعية وآثارية فائقة الأهمية، وضعها أصحابها بلغات أوروبية متنوعة وباتت اليوم مرجعاً أساسياً في رسم معالم مناطق حوض البحر الأبيض المتوسط في تلك المرحلة.

غير ان رحلة كلوديوس غالين ويلهاوس في المتوسط بين 1849 و1850 تمتاز عن كل ما سبقها في ان الذي قام بها حمل معه كاميرا تصوير (وذلك في بداية ظهور فن التصوير الفوتوغرافي) ليسجل بعدسته مناظر المدن والبلدات التي زارها في جولته البحرية تلك، وليترك لنا سجلاً بصرياً نادراً ما زال حتى اليوم يثير اهتمام الباحثين والمعنيين.

انطلقت الباخرة «جيتانا» من ميناء بورتسموث البريطاني في ايلول (سبتمبر) سنة 1849 برئاسة دوق نيوكاسل (الذي أصبح لاحقاً وزير الحربية) وشقيقه اللورد روبرت كلينتون ومعهما كلوديوس غالين ويلهاوس الطبيب والمصور الفوتوغرافي. وكان هذا الأخير الوحيد الذي ترك سجلاً للرحلة تحت عنوان «سيرة رحلة بحرية الى المتوسط بين 1849 و1850»، غير ان هذا السجل ظل مخطوطاً ولم يطبع إلا في هذه السنة بعد ان عثر على المخطوطة والصور الباحث بدر الحاج ليصدرها في طبعة أنيقة عن دار «فوليوز» للنشر بالتعاون مع متحف التصوير والسينما والتلفزيون في بريطانيا.

والسجل الذي تركه ويلهاوس هو عبارة عن يوميات تتحدث عن المناطق التي زاروها والناس الذين التقوهم، إضافة طبعاً الى النشاطات التصويرية التي خصص لها ويلهاوس قسطاً كبيراً من وقته. تتألف المخطوطة من 549 صفحة كتبت بخط أنيق ومرتب، وهي مقسمة الى ثلاثة أجزاء: الأول يغطي الرحلة من بورتسموث الى البرتغال واسبانيا والساحل الايطالي ومالطا واليونان واستنبول وجزيرة رودوس. والثاني يشمل الرحلة في مصر من الاسكندرية في الشمال الى بحيرات النيل في الجنوب. والثالث الذي يحمل اسم «الغربة وفلسطين» يغطي سيناء والبتراء وفلسطين وسورية. وقد امتدت اليوميات من 20 ايلول (سبتمبر) الى 8 آب (اغسطس) 1850.

يقول بدر الحاج في مقدمته للكتاب ان المعلومات عن ويلهاوس المصور كانت نادرة، وقبل عرض هذه المخطوطة للبيع في مزاد علني سنة 2002 في دار سوذبي كان الشيء الوحيد المعروف عن هواية التصوير عند ويلهاوس هو «ألبوم فريد من نوعه» وبعض الصور المنفردة التي تبرع بها أصحابها للجمعية الملكية للتصوير الفوتوغرافي. والصور التقطت بطريقة «تالبوت - تايب» المعتمدة على السالب والموجب. ويذكر ويلهاوس في احدى ملاحظاته انه بعد نهاية الرحلة أهدى الصور السالبة الى اللورد لينكولن لكنها للأسف احترقت في حادث وقع سنة 1879.

وإذا كانت الصور تحمل أهمية خاصة، فإن يوميات ويلهاوس تقدم لنا معلومات متنوعة وملاحظات دقيقة عن جغرافية البلدان التي زارها. غير انه، على غرار معظم الرحالة الاوروبيين في تلك المرحلة، كان يختزن في نفسه مواقف سلبية نمطية من الشعوب الشرقية، خصوصاً من الاسلام والمسلمين. ومن الطبيعي ان يكون قد تعرض لمخاطر عدة أثناء محاولته التقاط الصور لأن الناس يومها ما كانوا قد اعتادوا بعد على الكاميرا، مثل ذلك الضابط الاسباني الذي ظن ان ويلهاوس يحاول قياس أبعاد مدينة قادش لمصالح حربية فاعتقله... ولولا تدخل القنصل الانكليزي لكان أخضع للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى!

ومن الطرائف التي يسجلها ويلهاوس ان البغل الذي كان يحمل معداته التصويرية في احدى الطرق الجبلية في منطقة بشري (شمال لبنان) سقط في أحد الوديان، ولم يستطع المصور الوصول اليه إلا بالالتفاف حول الجبل... ولشدة دهشته وجد ان البغل لم يمت وان المعدات لم تتعرض لأي تلف!

كما وان ويلهاوس عكف خلال رحلته، وجولاته الداخلية، على جمع نماذج من الطيور المختلفة في البلدان التي زارها، خصوصاً من بادية الشام حيث حصل على ما لا يقل عن عشرة نماذج من طيور الفري.

ان قراءة هذه اليوميات، ومشاهدة الصور الفوتوغرافية، ومتابعة الوصف الجغرافي والاجتماعي الذي يسجله ويلهاوس بدقة... كل ذلك يعيدنا الى زمن كانت فيه الرحلات السياحية البحرية مغامرة محفوفة بالمخاطر الى جانب كونها سعياً الى المعرفة والاطلاع. وبعد حوالي 160 سنة، تتاح لنا فرصة الوقوف على مشاهدات رحالة كان همه الأول التقاط الصور لمناظر لم يعد معظمها موجوداً الآن، وليس أمامنا والحالة هذه إلا التمعن في هذين المجلدين الفاخرين فهما السجل الوحيد الباقي من منتصف القرن التاسع عشر.

Narrative of Yacht Voyage in The Mediterranaean (1850 - 1849)

By: Claudius Galen Wheelhouse

ED: Bader EL-Hage

Folios – London 2006

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...